تعتبر دول مجلس التعاون الخليجي من الدول حديثة النشأة، فما زالت هذه الدول
تسعى لاستكمال بنيتها الاجتماعية والسياسية مستفيدة من التطور الذي يلف العالم،
ومستفيدة كذلك من إمكاناتها المادية والبشرية، حيث وفّرت مصادر الدخل الكبيرة
من خلال إنتاج النفط، إمكانات جيدة لتأسيس بنية تحتية حديثة ومتطورة ومتكاملة،
فأنشأت المؤسسات والخدمات المهمة وفق أحدث النظم والأساليب، فأتاحت للإنسان
المواطن والمقيم الحصول على فرص تعليم جيدة تراجعت معها نسبة الأمية بين أبناء
دول المنطقة إلى أدنى مستوياتها قياساً على دول الإقليم، حيث لم تتجاوز %8 في
بعض الدول، مما هيّأ للإنسان فرصة جيدة للتعامل مع المستجدات الإدارية والتقنية
المستجدة، كما تواصل الإنسان مع محيطه القريب، حيث استقبلت دول الخليج أعداداً
كبيرة من جنسيات شتى تحمل معها أديانها وثقافتها وعاداتها التي انكفأت عليها في
معظم الحالات، فقلّ التواصل بينها وبين المواطنين في هذه الدول، ولم تكن الحال
أفضل عند المواطنين أنفسهم، إذ حافظوا على عزلتهم عن القادمين إليهم ما عدا
الوافدين العرب، حيث كانت عملية الاتصال بينهم أقوى مما هي عليه مع الآخرين
بسبب التواصل اللغوي والاشتراك في الدين والعادات والتقاليد.
وقد بقيت دول المنطقة محافظة على واقعها السياسي والاجتماعي، وهي أنها مجتمعات
«قبلية محافظة» كانت القبيلة هي محور الحياة فيها، فنظامها السياسي يقوم على
حكم القبيلة وفقاً للنظم والأعراف والتقاليد السائدة فيها، من تقدير لشيخ
القبيلة ومكانته بين أبناء قبيلته والقبائل المساندة لها والمنضوية تحت حمايتها
أو تبعيتها، وتسود العلاقة المباشرة بين شيخ القبيلة وأفرادها ومجتمعها الأوسع
من خلال الاتصال المباشر، بحكم صغر حجم «مؤسسة» القبيلة وطبيعة العلاقة
الاجتماعية بين أفرادها، ولذلك سادت قيم خاصة بكل قبيلة سواء كان ذلك في اختيار
شيخ القبيلة أو التحاكم إليه أو النظم المطبّقة على أفراد القبيلة ومن معها من
القبائل الأخرى، فقد كان القرار يعود في الغالب إلى شيخ القبيلة، وتتم أحياناً
صور من التشاور مع رؤوس القبيلة وأعيانها، أما على المستوى الاجتماعي فبقي
المجتمع «القبيلة» محافظاً على عاداته وتقاليده في كافة شؤون حياته، سواء كان
ذلك في السلوك اليومي أو في علاقته بالقبائل الأخرى أو بالغرباء، وبقيت نظرته
الاجتماعية نحو المرأة والعمل والتعليم منطلقة من الرؤية المحافظة.
وقد انتقلت الدول من مجتمع القبيلة إلى مجتمع الدولة، وفي ظل هذا الواقع لم يكن
لمفهوم الهوية أو المواطنة دلالة واضحة في الحياة العامة في المنطقة، فالمواطنة
مصطلح وافد جاء مع كثير من المصطلحات والمفاهيم السياسية والاجتماعية
والاقتصادية التي شهدتها المنطقة، فقد كان مصطلح التابعية أو الرعاية (من
الرعية) هما المصطلحان السائدان بدلاً عن المواطنة، فيقال: إن تابعية فلان
للشيخ الفلاني أو القبيلة الفلانية، أو يقال: إن فلان من رعية الشيخ أو القبيلة
الفلانية. ورغم الدور التاريخي والاجتماعي الذي لعبته القبيلة في المنطقة
باعتبارها مؤسسة اجتماعية مما لا يسع أحد إنكاره، فإن المتغيرات المحلية
والدولية الجديدة فرضت تحولات كبيرة على المنطقة كان من أبرزها انتقال
المجتمعات إلى مرحلة المؤسسات، كالمجالس والوزارات والهيئات وغيرها من صور
الدولة المدنية الحديثة، وكان مصطلح الهوية والمواطنة حاضرا، حيث أصبح الرابط
لجميع أفراد المجتمع، كما أصبح المعبر عن هوية الانتماء إلى دولة ما، لكن
«ممارسات» المصطلح في الحياة العامة كانت أسرع من تطبيقاته ومفاهيمه، فقد عبّرت
الممارسات عن أن المواطنة هي «جواز السفر» وبطاقة الهوية وحقوق محدودة للفرد
أمام الدولة، مثل الحصول على التعليم والعلاج المجاني أو الحصول على بعض
الامتيازات في الإعانات والضمان الاجتماعي، وتمييز المواطن عن غيره في بعض
الامتيازات، لكن مفهوم الهوية أو المواطنة –خاصة- كحقوق وواجبات لم يصبح حاضراً
في ذهن المواطن الخليجي، ولذلك قد لا تجد إجابة واضحة عند سؤالك لأي مواطن
خليجي ما المواطنة؟ أو ماذا تعني لك المواطنة؟ بل كثيرا ما تذهب الإجابات لتدل
على مفهوم «الوطنية» كحب الوطن والحنين إليه والفخر بالانتماء له وغيرها من
العبارات التي تدل على مفهوم «الوطنية» وليس المواطنة، التي ما زالت الإجابة
عنها غامضة.
إن عدم الإجابة على هذا السؤال تعد إحدى الإشكاليات في العلاقة بين المواطنين
والأنظمة السياسية في المنطقة، فالإجابة هي التي ترسم طبيعة هذه العلاقة، فهل
هي علاقة «تابعية» كما في المفهوم القبلي، أم مواطنة في المفهوم القانوني
والسياسي المعاصر؟ فهناك فرق كبير بين المفهومين أو المصطلحين، إذ «المواطنة»
تقوم على «المشاركة»، أي أن المواطن مشارك في صنع الحياة العامة في مجتمعه من
خلال المؤسسات السياسية والقانونية، كما أن حقوقه العامة واضحة ومحددة مثلما هي
واجباته، تتمثل في عقد قانوني ينظم العلاقة بين الطرفين. ورغم أن كل الدول
الخليجية لديها دساتير وأنظمة، فإن الممارسة العامة للعلاقة بين الطرفين ما
زالت غير واضحة، بل تنحو في كثير من ممارستها إلى فكرة التابعية أكثر من فكرة
المواطنة، وفي ظل التحولات السريعة التي شهدها ويشهدها العالم، ونشوء أجيال
تبحث عن العلاقة القانونية أكثر مما تبحث عن الارتباط القبلي، فإن تحديد هذه
العلاقة ورسم معالمها بصورة واضحة من أهم التحديات أمام المجتمع الخليجي شعوبا
وأنظمة، وما لم تحسم الإجابة على هذا السؤال، سيبقى المواطن حائرا بين التابعية
والمواطنة!!