شأن موضوعات عدة مثل الحرية والمساواة والديمقراطية والحريات الفردية
والعدالة، تشكل المواطنة مادة بحث هامة لدى دوائر اكاديمية متنوعة وبخاصة
حين تجري معالجتها في اطار مجتمع متعدد بالمعنى المضطرد للكلمة، أي المواطنة في
مجتمعات تحتضن ثقافات وتحدرات اثنية وذاكرة تاريخية ومنظومة قيم وعادات ومسالك
متنوعة.
ويتنامى التناظر بين علماء الاجتماع والسياسة حول إمكانية تحقق المواطنة
الكاملة في مجتمعات متعددة، ناظرين الى سياقات تاريخية محددة كان فيها المسعى
الحثيث من قبل دول عديدة لجهة وضع حد او تقليص للفواصل والاختلاف بين مجتمعات
يراد ايصالها الى درجة متقدمة من الوحدة الداخلية والانسجام تعزيزاً لقواعد
الاستقرار وتحديداً السياسي منها.
فمنذ عقود عديدة حاول الباحثون وعلماء الاديان والاجتماع والسياسة التفتيش عن
ملغيات للفوارق بين المجتمعات فيما كانت الاخيرة اقدر على انتاج المزيد من
الفوارق. وكان أبرز تمظهر لفشل مهمة هؤلاء الباحثين والعلماء ظهور ما يعرف
بموضوعة ادارة الصراع (Conflict Management )، وكأن ثمة اقراراً ضمنياً من قبل
هؤلاء الباحثين بأن الصراع بات قاعدة ولا بد من الانتقال الى مرحلة ادارة
الصراع.
وقد ساد اعتقاد بين علماء الاجتماع والسياسة ولعقود عديدة بأن التحديث سيكون
الوصفة السحرية التي ستقضي على الفوارق بين المجتمعات وستنتقل الاخيرة الى
مرحلة تكون فيها وقد القت وراءها ارثها التاريخي وثقافتها الخاصة ومنظومة قيمها
وعاداتها وبالتالي ستنفر من هوية طالما أثقلت كاهلها لجهة هوية جديدة تربطة
بالمستقبل وبحقائق العصر وثقافة السوق. وجاءت النتيجة صادمة لهذا الفريق من
العلماء ، فقد استعملت ادوات التحديث من اجل تعزيز الهوية الخاصة.
وظهر علينا فريق اخر قبل عدة سنوات يتبنى العولمة خياراً من اجل نقل العالم
باسره الى مرحلة التوحد والغاء الفوارق بين الشعوب والثقافات والحضارات
والاندماج في نظام عالمي موحد. وتبين ان العولمة لا تعدو كونها عنواناً آخر
للاحتواء القسري والذي يتغذى من مصدر ثقافي وحضاري واحد حتى باتت العولمة صنواً
للامركة والاوروبة. ورغم الاسترسال العنيف نحو عولمة او امركة العالم الا ان
العولمة حملت بداخلها فيروس نهايتها حين قررت ابتداءً تقويض العالم أو اختزاله
في الكبسولة الاميركية.
هذه المقدمة تسعف في الدخول الى موضوعة المواطنة في مجتمع تعددي كالسعودية
مثالاً حيث الرهان الدائم على تصنيع هوية عليا في مقابل هويات فرعية. والهوية
العليا كانت على الدوام المطلب الاقصى للدولة السعودية كيما تحقق ضمانات بقائها
واستقرارها الداخلي واجماع القاطنين داخل حدودها بأهلية السلطة السياسية فيها
للحكم. والعقيدة المركزية في المواطنة تتمحور حول آلية انتاج الهوية العليا
لمجموع المواطنين، وما يمكن ان تضفيه هذه الهوية من قيمة عليا لمواطنين تحتويهم
الانشدادات القبلية والمناطقية والدينية/المذهبية بما يقلل الحاجة والرغبة الى
هوية عليا هي في الاساس تنشد استقرار الدولة ونظام الحاكم في نهاية الامر، ما
لم تكن هذه الهوية قادرة على التعويض عن مكتسبات الهويات الفرعية.
ومقاربة موضوعة المواطنة في السعودية تتمحور حول قائمتين من الطرق المرسومة من
قبل الدول (خلال عدة قرون وحتى وقت قريب) في تحقيق مبدأ المواطنة داخل مجتمعات
متباينة. وينفرد علماء ادارة الصراع الاثني في تحديد عدة طرق اعتمدتها عدة دول
لازالة الفوارق بين المجتمعات كشرط من شروط تأسيس وتعزيز مبدأ المواطنة، وذلك
على النحو التالي:
ـ المجازر الجماعية
ـ الترحيل الجماعي القهري لجزء من السكان
ـ الانشقاق
ـ الاحتواء الكامل
فيما يرتبط بالطريقتين الاوليين أي المجازر الجماعية والترحيل القسري فقد جرى
استعمالهما على نطاق محدود ولم يعد لها حتى منظرون سياسيون، رغم أن
الديمقراطيات الغربية لجأت الى طريقة التطهير العرقي في التعامل مع شعوب أصيلة
في سبيل النفوذ الى اراضيها والسيطرة على مواردها ومصادرها الطبيعية الغنية كما
حصل في البلقان واوروبا الوسطى وشبه القارة الهندية.
وقد يبدو من العبث في الظروف الدولية الراهنة الحديث عن اسلوب المجازر الجماعية
او الترحيل الجماعية من اجل ازالة الفوارق بين المجتمعات.
وهذا لا يعني الغاء الخيارين من الناحية النظرية على الاقل حيث مازالت هناك
دعوات متطرفة تصدر احياناً من اعضاء كبار في هيئة كبار العلماء مثل الشيخ عبد
الله بن جبرين والشيخ عبد المحسن العبيكان. فقد اصدر الاول فتوى في عام 1994
توصم الشيعة بالارتداد بما يوجب القتل بحسب أحكام الشريعة الاسلامية، وهذه
الفتوى صدرت في وقت كانت المعارضة الشيعية ممثلة في الحركة الاصلاحية قد بدأت
تنفيذ ترتيبات الاتفاق مع الحكومة. اما الشيخ العبيكان فقد حث السلطات السعودية
على استعمال القوة ضد الشيعة وفي حال التأخير سيدعو انصاره للقيام بهذه المهمة.
ولربما مضمون رسالة الشيخ ناصر العمر (واقع الرافضة في بلاد التوحيد) يتجه الى
ترجيح خيار راديكالي من هذا القبيل. على أن هذه الدعوات والفتاوى واجهت تحدياً
من قبل الشيعة ورفضاً مطلقاً من قبل قطاع كبير من السنة المعتدلين سواء في داخل
السعودية او خارجها فضلاً عن القوى الوطنية.
وهكذا ظل خيارا الانشقاق او الاحتواء الكامل نشطين في المستويين العملي
والعلمي، أي مازال خيار الانشقاق مطروقاً داخل جماعات ترصد التكاليف الباهظة
للانتماء لمجتمع متعدد قد أفنى أو كاد ان يفني هويات ومصالح وحقوق جماعات معينة
من اجل الانتصار وتغليب هوية ومصلحة وحق جماعة واحدة. وغالباً ما يترعرع خيار
الانشقاق في ظل اجواء مشحونة او انكسار في أحد جدران الدولة، فمع انهمار
الدعوات في الغرب وفي الولايات المتحدة بوجه خاص من اجل تفكيك السعودية الى
دويلات كانت اصداء هذه الدعوات تلبي لدى ضحايا الوحدة رغبة داخلية من اجل البحث
عن مخرج. وبعيداً عن اللهجة الدبلوماسية التي يتوسل بها هؤلاء الضحايا ودفاعهم
"الاعلامي" عن الوحدة الوطنية وحرصهم على تمامية تراب المملكة، فإن ثمة توقاً
شديداً ينتاب كل أولئك الضحايا ليوم ينالون فيه ما عجزت الوحدة عن ضمانه لهم من
حرية ورفاه ومساواة. فالانشقاق رغم ما يحمل من معنى سلبي وقاس وما يصدر عنه من
آثار مدمرة احياناً وما يتركه من مشاعر مقيتة، الا أنه بالنسبة للضحايا مكافأة
منتظرة لا غنى عنها حين تتعطل السبل بهم وحين تلح الدولة على الاستمرار في نهج
تمييزي رهن الكل للجزء.
أما خيار احتواء الفوارق او الغائها بوسائل غير عنفية عن طريق احتكار مصادر
القوة واجبار باقي الجماعات على الخضوع لهوية وثقافة وتوجيه ومعتقد الدولة
الممثلة لجماعة معينة، فقد ظل الخيار الساري المفعول تقريباً في كل دول العالم
رغم الاخفاقات المتكررة التي واجهتها سياسات الاحتواء. ورغم أن علماء الاثنيات
يضعون ثقلاً بحثياً كبيراً على اتجاه واحد في الاحتواء او الدمج وهو صناعة هوية
عليا لجماعات اثنية متنوعة، الا أن ثمة اتجاهاً اخر لا يبدو انه قد حظى بنفس
الاهتمام الا وهو الدمج القسري وليس بالضرورة العنفي، أي استعمال منظومة سياسات
من قبل الدولة تفضي الى اكراه جماعات اثنية على التخلي عن هوياتها والتماهي في
الهوية العليا التي تصنعها الدولة، وهذه الهوية العليا ليست بالضرورة هوية
وطنية جامعة، وانما قد تكون في احيان كثيرة هوية تحمل خصوصيات وعناصر لهوية
جماعة غالبة يراد تسويدها على باقي الجماعات.
وكما يبدو فأن هذين الخيارين يعززان تفسير وينبي في التحدي والاستجابة، فقدرة
الجماعات على مقاومة محاولات الاحتواء يلجئها احياناً لتبني خيار الانشقاق كأحد
اشكال التحدي المضاد، وطالما تمسكت الدولة بخيار الاحتواء، أي بكلمات اخرى
بخيار الالغاء لخصوصيات الجماعات المنضوية داخل حدود الدولة، فأن مصدراً نشطاً
من التوتر الداخلي سيظل يحكم العلاقات الداخلية بين هذه الجماعات والدولة
بجماعتها الحاكمة.
في عام 1927 أصدر علماء نجد في اجتماع طارىء بالرياض فتوى تطالب الملك عبد
العزيز باكراه الشيعة في الاحساء والقطيف على اعتناق الاسلام على الطريقة
الوهابية. وقد صدرت الاوامر من الملك عبد العزيز الى حاكم الاحساء بن جلوي من
اجل تنفيذ مقتضى ما جاء في الفتوى فكان المطاوعة الوهابيون يجبرون علماء الشيعة
على الحضور الى المحاكم ومجالس الحاكم للنطق بالشهادتين بما يدلل على كفر
الشيعة في مرحلة سابقة، وإقرارهم بالاسلام على يد اتباع الشيخ محمد بن عبد
الوهاب. ولحق بهذه الاجراءات القاسية هدم للمساجد الشيعية وحسينياتهم وملاحقة
علمائهم. ولم يقف الامر عند الشيعة في المنطقة الشرقية بل ثمة اجراءات مماثلة
جرى اتباعها في منطقة الحجاز فقد عارض اقطاب علماء نجد مثل ابن بجاد والدويش
وجود علماء حجازيين في المسجد الحرام من اتباع المذاهب السنية الاخرى. وبحسب
وثيقة محفوظة في سجلات وزارة الخارجية البريطانية فان علماء نجد رفضوا تعيين
علماء حجازيين في امامة المصلين في المسجد الحرام على اعتبار انهم غير مسلمين
ولا بد من تجديد اسلامهم. كان هذا شأن الوهابيين القدامى والجدد، فقد أجبر (في
زمن الدولة السعودية الأولى) أبرز علماء الحجاز الشيخ أحمد بن زيني دحلان ومفتي
مكة المكرمة على الاقرار بالشهادتين واركان الاسلام الخمسة امام الملأ في
المسجد الحرام كشهادة منه بدخول الاسلام.
هذه التدابير تندرج دون شك في محاولات السلطة السياسية من اجل عملية احتواء
كامل ودمج قسري لجماعات لا تنتنمي الى مذهب الدولة الرسمي، وتحاول بلا شك تضييق
الفواصل من اجل تحقيق ما يعتقده الحاكم انسجاماً ووحدة داخلية. ولكن هذه
السياسة ـ الاحتواء فشلت في تحقيق اهدافها لأنها توسلت بأدوات مذهبية ومناطقية
بما يجعل فرص تنشئة هوية عليا لمختلف الجماعات ضئيلة.
القائمة الاخرى كما يحددها دون ماكري وبرنارد وليري فتعالج موضوعة طرق ادارة
الاختلاف، وتشمل القائمة:
ـ سلطة الهيمنة Hegemonic Control)): بما تعني اشراف الدولة وادارتها الفاعلة
في ادارة الفوارق الاثنية بما لا يجعلها طرفاً مباشراً او غير مباشر في الخارطة
الاثنية، فالطبقة الحاكمة لا تسعى الى الغاء او دمج الهويات للجماعات الاثنية،
وانما تسعى الى احباط مفعول الفوارق الاثنية بحيث تجعل من مبررات العنف ضعيفة
او غير اجرائية، بل وان وسائل استعمال العنف غير قابل للتفكير فيها وغير
مجدية في آن.
بالنسبة للسعودية كانت النظرة العامة لدى المتضررين من السياسة المذهبية
المتبعة ترى بان الدولة تمثل بالنسبة لكل هؤلاء او للغالبية العظمى منهم طرفاً
رئيسياً في فرض هذه السياسة ورعايتها ان لم يكن حمايتها. مثال بارز على ذلك ما
جرى قبل سنتين في منطقة نجران حيث فتحت قوات الامن السعودية النار على حشد من
الشيعة الاسماعيلية خلال تأديتهم لمراسيم دينية خلال شهر محرم وسقط اثر ذلك عدد
من القتلى والجرحى فيما تم اعتقال عدد آخر مازال بعضهم قيد الاعتقال. وكانت
الحادثة قد بدأت بتدخل بعض رجال المطاوعة لتفريق الحشد وتعطيل سير المراسيم
الدينية. ويجري امثال هذه الحادثة في مناطق الحجاز (الاحتفال بالمولد النبوي
الشريف) وفي المنطقة الشرقية (احياء مراسيم عاشوراء).
فالدولة بما هي اداة لاجماع وطني لم تتحقق في السعودية، بل إن سلطة الهيمنة
فيها تكاد تكون لصالح جماعة معينة وقاهرة لجماعات اخرى، فهي طرف في النزاع بل
قد يقال انها مولّد له وأحد مصادره الرئيسية. وحال كهذا، يصعب الحديث فيه عن
هوية وطنية عليا حيث سياسات الدولة لا تتجه الى انتاج هذه الهوية المنشودة ما
لم تنسحب من ساحة الصراع المذهبي وتكون قوة قادرة على اجهاض مبرراته، وبل
وقادرة على اقناع الضالعين فيه بعدم جدواه من خلال وضع سياسات وطنية بالمعنى
الكامل والشامل، أي بما تكفل حقوق كافة الجماعات بصورة متكافئة.
ـ الكنتنة او الفدرلة Territorial Autonomy: أي اعتماد نظام لامركزي يجهض
فرص التصادم بين الجماعات المختلفة، ويوفر بيئة متصالحة تسمح لكافة الهويات
بالتعبير عن نفسها دون احساس بخطر التقويض من قبل الجماعات الاخرى او من
الدولة، كما وتجهض الشعور بالحاجة الى تبني خيارات راديكالية كالانشقاق. وتلعب
الدولة دور الموجه الاستراتيجي لهذا النظام اللامركزي الذي يحقق العدل
والمواطنة الكاملة والفرص المتكافئة لجماعات متعددة. والنظام اللامركزي يمثل
حلاً مثالياً في مجتمع تعددي تكون فيه الجماعات قادرة على المشاركة في العملية
السياسية من خلال حكومات محلية متصلة بحكومة مركزية تمثل الضابط والجامع لمجمل
اجزاء السلطة المتوزعة بين مناطق وجماعات متعددة.
ويمثل النظام الفيدرالي بالنسبة لجماعات كثيرة في السعودية البديل الامثل
للخروج من أزمة التمثيل السياسي والمناطقي. وينظر هؤلاء الى هذا البديل كضمانة
مستقبلية امام أي استغلال للسلطة من قبل جماعة محددة، تماماً كما يجري الآن في
أغلب المناطق حيث امراء المناطق والمناصب العليا تكون في الغالب من نصيب
العائلة المالكة او من عوائل حليفة او مقربة من السلطة وفي الغالب نجدية.
ـ تقاسم السلطة: او المحاصصة السياسية وتختلف هذه الطريقة عن الكنتنة في طبيعة
النظام الاداري المعتمد، فهذه الطريقة تفترض عملية دمج سياسي باشراك كافة
الجماعات في صناعة القرار وفي المراكز العليا للدولة دون حاجة للجوء الى نظام
لامركزي كيما يضمن عدم تحقق الصدام ويوفر فرص الامن والعدل والمواطنة
المتكافئة.
ثمة دعوات وان كانت خافتة تنادي بخيار المحاصصة السياسية من اجل تسوية الاختلال
الخطير في عملية التمثيل السياسي ومن اجل ازالة مبررات التوتر الداخلي ومشاعر
الغبن المتفاقمة لدى المتضررين في الحجاز، المنطقة الشرقية، الجنوب وبعض
المقاطعات مثل حائل والجوف وغيرها. بيد ان هذه الدعوات تفقد قيمتها في ظل
الاحباط الناشيء عن الشك في قدرة الدولة للتوصل الى صيغة مضمونة وجادة تكفل
حصصاً متكافئة في السلطة لكل المناطق والجماعات.
ـ التكامل الثقافي التنوعي (Multicultural Integration): وهذه السياسة
تفترض وجود مناخ ثقافي متسامح يتيح فرص الانفتاح الثقافي بين الجماعات
المتباينة ويتجه الى خلق اجواء التلاقح الثقافي، بما يجعل امكانيات اكتساب
وتداخل واختلاط العناصر الثقافية المتباينة قابلة للتثمير في شق قناة ثقافية
عامة تتولى كافة الجماعات رعايتها وشحنها فتصبح بمرور الوقت قناة ثقافية عليا
لجماعات ترى فيها صورتها، وحضورها، وسهمها الثقافي واخيراً مصدراً نهائياً
لهويتها العليا، وللهوية الوطنية لما تحمله من عناصر ثقافية جامعة. وهذه
السياسة تمثل مطلب عدد من المثقفين والنقاد السعوديين وعلى رأسهم الناقد
السعودي الدكتور عبد الله الغذامي والذين يستشعرون خطورة ما اسماه "الواحدة
الثقافية" حيث الحركة الثقافية في السعودية تكون مرهونة لمصدر ثقافي واحد وهو
المذهب الوهابي.
مقترحان لحل مشكلة الدولة
هناك مقاربتان سائدتان بخصوص علاقة الدولة بالدين تصلح كأساس للتناظر حول ما
يمكن تسميته بأسس العلاقة بين الدولة والاقليات الدينية ايضاً.
المقاربة الاولى: العلمنة الشاملة للدولة: وهذه المقاربة تستحضر وبصورة متكررة
وفاعلة تجربة الكنيسة ونقيضها الموضوعي أي الدولة. فقد وجدت شعوب اوروبا ان
الصراع بين الدين ممثلاً في الكنيسة والدولة لا يتم حسمه الا بتبني خيار
العلمنة الشاملة، وتحويل الدين الى شأن فردي. ويمتد خيار العلمنة الى كافة
مجالات المجتمع بما في ذلك القوانين الخاصة بالزواج والارث والطلاق وغيرها،
وبهذا تكون الدولة كمرجعية نهائية سياسية وقانونية الخيار الامثل لوأد الفوارق
داخل الجماعات سواء على قاعدة دينية، اثنية، او ثقافية، فالدولة بما تفرضه من
سطوة قهرية ونظاماً ادرياً وسلطة قانونية مرجعية عليا لمجمل مواطني الدولة بصرف
النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية او متبنياتهم العقدية. ولعل من الملفت
للنظر النجاح الباهر الذي حققه هذا الخيار في عدد كبير من دول أوروبا معززاً
باستجابة الجماعات المنضوية داخل حدود هذه الدولة لخيار العلمنة واحتساب الدين
شأناً قابلاً للتخفيض عند مستوى الممارسات الطقسية الفردية وغير المتعارض مع
صيرورة وسيرورة الدولة بمضونها العلماني.
خيار علمنة الدولة السعودية او الدعوة اليها وردت في اكثر من موقع حواري سعودي
على الإنترنت، كما تحدث عنها اكثر من مثقف سعودي بصورة ضمنية واعتبرها المعبر
الآمن نحو وطن بلا توتر. وهذا الخيار من شأنه تفكيك العلاقة المعقدة بين الدولة
والمؤسسة الدينية وثقل التحالف التاريخي بين الطرفين والذي فقد ـ حسب هذا
الفريق ـ مبرر استمراره بعد قيام الدولة ووجود جماعات متعددة غير متصالحة مع
المذهب الرسمي الذي يرى في هذه الجماعات اطرفاً خارجة عن الاسلام، ولكن
بالتأكيد ليست خارجة عن الدولة، مما يفرض على الاخير تخفيض العامل الديني في
ادارة الدولة والانتقال الى مرحلة تسود فيها القوانين المدنية الخاصة بالدولة
كدولة وليس كممثلة لجماعة دينية محددة.
المقاربة الثانية: نموذج الخصوصية الدينية: الذي يقرر سلفاً حق كل الجماعات
الدينية في اجراء وتطبيق احكامها الدينية وفق معتقداتها سواء كانت الاخيرة
تنتمي الى أديان متعددة او داخل الدين الواحد. واحترام الخصوصية الدينية
للجماعات تمثل موضوعاًَ فوّاراً وبصورة مستمرة كونه يمثل خياراً مقبولاً
لجماعات دينية في كل ارجاء العالم.
فاحترام الخصوصية الدينية لكل جماعة داخل الدولة تلزم الاخيرة بالتنازل عن جزء
من سلطانها القانوني بوجه خاص لحساب الجماعات الدينية بداخلها كيما تطبق
احكامها في الزواج والميراث والطلاق وغيرها. وبطبيعة الحال، فهناك من يقول
باختلال المواطنة في حالات كهذه حيث تكون فيها الجماعات منقطعة عن السلطة
القانونية الكلية للدولة. بيد أن المتحمسين للخيار الآخر يرون بأن احترام
الخصوصية الدينية للمواطنين تشكل حافزاً على تطوير مفهوم المواطنة متجاوزة
الحدود الضيقة لمعنى المواطنة كما يرسمها الفريق الداعي الى اضفاء سلطة شمولية
ومطلقة على الدولة، وهذا الخيار بلا شك يتطلب فك الطبقة الحاكمة عن متعلقاتها
الاجتماعية وانشداداتها الدينية والثقافية وتحويلها الى مجرد جهاز اداري صرف لا
صلة له بالتنوع العقدي والاثني. وهذا الخيار ان صدق في مناطق معينة فانها لا
يصدق على مناطق كثيرة بما في ذلك منطقة الشرق الاوسط حيث السلطة السياسية هي
جهاز تمثيلي لطبقة او لجماعة دينية او سياسية معينة.
وليس ثمة شك، فأن دولة دينية مثل المملكة العربية السعودية، كنموذج يتبنى
وبصورة علنية الاسلام (بحسب تفسير الشيخ محمد بن عبد الوهاب) اطاراً قانونياً
ومصدراً تشريعياً فأن احترام الخصوصيات الدينية فضلاً عن خيار العلمنة الشاملة
للدولة يبدو مستحيلاً كونه يتطلب اعادة بناء الاساس الايديولوجي للدولة وربما
استبدال مصادر مشروعيتها.
فالمواطنة في دولة دينية كهذه تصبح عرضة للتفسيرات المتضاربة والمتنوعة، وقد
تتحول في احيان كثيرة نقيضاً موضوعياً لمبدأ الدين، بالنظر الى المكونات
الرئيسية لمبدأ المواطنة بما تتطلب من تحقيق العدل والمساواة وتكافؤ الفرص
والتمثيل السياسي المتكافىء، فيما تصبح التفسيرات الدينية الخارجة عن اطار
التفسير الرسمي للدين متنافرة مع مبدأ المواطنة كما تراها الطبقة الحاكمة.