حين يطرح موضوع الإصلاح تبرز على الفور جهتان تعارضانه: المؤسسة الدينية
الرسمية والعائلة المالكة. الاتفاق بين هاتين القوتين حول هذا الأمر وأمور أخرى
لم يعد أمراً سهلاً لبروز عوامل محلية وخارجية تعيق استمراره وتفرض على العائلة
المالكة حسم ثنائيات متعارضة غير قابلة ـ ضمن الظروف الموضوعية ـ للاستمرار.
الوهابية أو الديمقراطية
من الصعب أن تكون هناك حريات وديمقراطية (أو شورى) بوجود الوهابية متحكّمة على
الأفكار والعقول. فالأخيرة ـ كما أثبتت الممارسة منذ أن قامت ـ تمثل النقيض
الحاد لكل ما يمت للاعتدال والحرية والتعددية. لقد ارتبطت دائماً بالواحدية
الثقافية والفكرية، وأصبحت مقرونة بالهيمنة على الأفكار والتوجهات والأشخاص.
وارتبطت أيضاً ودائماً بالاستبداد السياسي، تشرعنه كي يشرعن تحكّمها في
الممارسة الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي أفضى الى ازدواجية حادّة في الشخصية
السعودية وفي ممارساتها. وارتبطت الوهابية دائماً بتحطيم الخصوم الفكريين
والسياسيين عبر مسالك العنف الجسدي والمادي، والإقصاء شبه التامّ للمختلف حتى
ضمن الفضاء الخاص، كما ارتبطت بتأكيد المختلـَـف بشأنه مهما صغر وترجيح المصلحة
الخاصة بالمذهب ورجاله على مصلحة المملكة كنظام سياسي حاكم وكشعب ودولة تضجّ
بحقيقة التعدد في أصول سكانها وجغرافيتها وثقافتها ومذاهبها ومصالح فئاتها
السياسية والإجتماعية. والوهابية بعد هذا وذاك، نقيض للتسالم الإجتماعي
والإستقرار السياسي، وتتبنّى النقيض للهوية الوطنية وأهدافها الوحدوية،
ومتطلباتها الأساسية عبر الإشراك السياسي للجمهور في عملية صنع القرار، فهي
تؤمن بأحقيّة العلماء (الوهابيين دون غيرهم) كشركاء وحيدين مع العائلة المالكة
في تقرير مصير البلاد والعباد، وهي بهذا تؤمن باستخدام السلطان لتحقيق رؤيتها
الضيّقة والخاصّة في نوعية المجتمع الذي يراد صياغته وصناعته، ونوعية السياسة
الداخلية والخارجية التي يجب انتهاجها بغض النظر عن المصلحة العامّة المتحققة
من ذلك.
لهذا كله، يصعب تصوّر قيام نظام سياسي بهامش مقبول من الحريّة، مع الإحتفاظ
بدور منفرد ومتميّز وقوي للوهابية.. لذلك ليس من المستغرب أن تتوجّه كثير من
سهام دعاة الإصلاح السياسي في المملكة الى المذهب الرسمي (الوهابي) باعتباره
عقبة حقيقية، إن لم يكن العقبة الكأداء التي تستبطن معظم المشكل السياسي
الخانق.. ولذا أيضاً، نجد أن سهام وفتاوى تكفير رموز الوهابية المتطرّفة لا
تتوجّه في معظمها إلاّ الى دعاة الإصلاح والإنفتاح المعروفين كرموز في المجتمع،
إمّا باعتبارهم علمانيين أو روافض أو صوفية أو سلفيين معتدلين انحرفوا عن جادّة
الصواب. وفوق هذا، ليس من المستغرب استخدام العائلة المالكة للوهابية كترس
تتحصّن به في مواجهة خصومها السياسيين أو من تعتقد أنهم كذلك. وفي المقابل، قد
نفهم حقيقة لماذا تتعرّض العائلة المالكة للنقد من قبل كلا الطرفين: دعاة
الإصلاح، ورموز السلفية الوهابية المتطرفة. الأولون يرون أن العائلة المالكة
تحابي المتطرفين، وبالتالي فنقدهم لها يتساوق إن لم يتساوى مع نقد الوهابية،
ومتطرفة الوهابية يطالبون بالمزيد من تكميم الأفواه، والمزيد من السلطات،
والمزيد من التهميش للقوى المخالفة لهم.
الشرنقة الطائفية
ثنائية أخرى تكشف عن أزمة بدأت تظهر بعد أحداث سبتمبر 2002 ، وهي أن العائلة
المالكة وضعت اليوم أمام خيار الإستمرار في احتضان الوهابية والتستر على
خطاياها وتشجيع ممارساتها، وخيار البقاء في الحكم. لقد طال بقاء النظام السياسي
محبوساً في شرنقة المذهب، وآن له أن يخرج منها قبل أن يخسر القائمون على رأسه
الحكم بقضّه وقضيضه. لقد أدّى الإنحباس في الشرنقة المذهبية، الى نتائج خطيرة
للغاية أوقعت المملكة اليوم شعباً وحكومة في مآزق لا يعلم أحدٌ الى أين ستنتهي،
وصار على الشعب أن يدفع ثمن أخطاء فئة متحكمة في السياسة (العائلة المالكة)
والدين (الوهابية). عدم الخروج من الشرنقة أدّى كما هو واضح اليوم الى التالي:
* أضحى نظام الحكم برمته رهيناً للمذهب ورجاله وتفسيراته ومصالح أتباعه
ورؤسائه، مع ما يبدو في الظاهر من أن المذهب نفسه أصبح رهينَ العائلة المالكة
نفسها ومصالحها. ولكن مصالح الدولة لا يجب أن توضع بشكل متكافئ مع مصالح
المذهب. إن رموز النظام اليوم ـ خلافاً للملك عبد العزيز أو حتى الملك فيصل ـ
يشعرون بسبب ضحالة ثقافتهم الدينية، بأنهم ضعيفو الحجّة في المساومات مع رموز
الوهابية المتطرفة، ولا يجدون إلا التنازل لها وتغليب مصالحها. أصبح هامش
المناورة لدى النظام ضئيلاً، فهو لا يكاد يفكّر في الإقدام على أمرٍ أو فعلٍ
حتى تتراءى أمامه العقبة الكأداء بشخوصها وردود أفعالها المتوقعة، فيتراجع،
وأمام ضغط المشكل والحاجة يتقدم خطوة ليتراجع أخرى. زيادة على ذلك، وهو الأهم،
هناك شعور طاغٍ لدى الأمراء الكبار بأنهم لا يستطيعون البقاء في الحكم بدون
الوهابية، رمز عصبية نجد، ورسالتها، وأداة سيادتها. ولكن، هاهم الآن بعد أحداث
سبتمبر يخيّرون، بين بقائهم في الحكم، وبين احتضان الوهابية، فالإصرار على
احتضان الأخيرة مجازفة بالإنكفاء على حكم نجد، وربما خسارتها هي أيضاً، أي
إزالة النظام من جذوره أو تقسيم المملكة الى دول.
* أدى انحباس النظام في الشرنقة المذهبية الى عدم انفتاحه على القوى الإجتماعية
الأخرى، فبقدر ما نرى وثاقة عرى الإرتباط بين التيار الوهابي بمختلف أطيافه مع
رموز النظام، نرى في الطرف الآخر ابتعاداً غير عادي عن الرموز الوطنية والدينية
في مناطق المملكة الأخرى.. وجرّ هذا بدوره، الى تضاؤل الإهتمام بشرائح إجتماعية
في مجالي الإقتصاد والخدمات الإجتماعية، إضافة الى الإقصاء السياسي. أدى هذا
الى تصنيف نظام العائلة المالكة في السعودية تصنيفاً مذهبياً ومناطقياً، وليس
هناك من خطر يتهدّد دولة ونظام حكم، من أن ينظر اليهما كحكر فئوي أو كممثلين
لطرف صغير متغلّب من جهة ومهمّش للمختلف (وليس المعارض بالضرورة) من جهة أخرى.
قاد هذا إنحباس العائلة المالكة في شرنقة مناطقية ومذهبية الى تعزيز شعور
الإنفصالية وتحبيذها على نظام ذي تمثيل ضيّق، محكوم بـ "عقدة" الوهابية
المتهمة بإقحام البلاد بكل تنوّعها في مشاكل داخلية وخارجية لا تستطيع الخروج
منها بدون رؤية جديدة مختلفة تبشّر إنسانها بمستقبل حرّ ومساواة وتآلف لم
يشهدوه يوماً منذ أن قامت الدولة الحالية.
أميركا أو الوهابية
ثنائية ثالثة محرجة ليس لها من حلّ في الأُفق. إما خيار الوهابية أو العداء
لقوى إقليمية ودولية لا قبل للمملكة بمواجهتها جميعاً، ولا الفرار ـ في المدى
المنظور ـ من آثار استعدائها. الوهابية حين بروزها الأخير أثناء تأسيس الدولة
كانت لا ترى غير أتباعها مسلمين، والبقية جميعاً بلا استثناء كفرة ومشركين. على
هذا قام بنيان الدولة السعودية، عبر شرعنة التوسّع العسكري واعتبار ديار الآخر
ديار كفر وبطلان. والآخرون عاملوها بالمثل، عداءً بعداء، وتكفيراً بتكفير..
سواء في مصر أو الأردن أو العراق، أو اليمن ودول الخليج العربي نفسها، فضلاً عن
الأبعدين تركيا العثمانية وايران الشيعية، إضافة الى مسلمي القارة الهندية.
بتأسيس الدولة، حاول الملوك السعوديون تلطيف ملمسها، بعد أن توقف التوسّع (أي
الجهاد الوهابي) فأمنت الدول المجاورة من تغوّلها، وبدا أنها قد ضُبطت عبر
مأسستها وتقاسمها للحكم في بعده الديني. وشيئاً فشيئاً، عاودت الروح الجهادية
من جديد، فجرى قذفها بوجه الآخر الخارجي تشيع تكفيره، وتحرّض عليه، مترافقاً مع
رصد الإمكانات المادية الكبيرة التي جاءت بها إيرادات النفط. لقد وجّهت ضد مصر
الناصرية، وضد بعثية العراق، وضد ثورية وشيعية إيران، وجاءت أحداث احتلال
افغانستان فدفع الأمراء بأتباعها الى محرقته ليمارسوا الجهاد ضد الشيوعية.
أميركا والغرب عامة كانا الرابح الأكبر من تلك المعارك، لم توجه لهم طعنة أو
ضربة، ولم يلتفت أحدٌ من أتباعها الى احتلال لبنان أو فلسطين إلاّ لماماً
وكلاماً. كان جهيمان يريد إعادة الفريضة الغائبة ولكن أين؟ حسب شعره المنشور:
الى دول الجوار (في الخليج تحديداً)، وكانت الرموز المتطرفة تبدي تأففاً
متصاعداً من تعطيل الجهاد الذي كان سبباً في ثورة الإخوان الأولى في العشرينات
الميلادية، فجاءت أفغانستان مثل (كوّة) أو (فرجة) تنفيس للشعور بالإحتقان
الداخلي، فتضخمت عضلات الأتباع، وسقطت مهابة الدولة ونظام الحكم الذي أصبح هو
الآخر هدفاً لمرماهم. وأميركا التي كانت تفاخر بالإسلام السعودي المعتدل
(الوهابية) وترفعه مقابل إيران ولبنان والسودان والجزائر وغيرها، وكانت تتمنّى
لو أن النموذج السعودي (الفريد) جرى تعميمه.. النموذج (المعقلن) المدار من قبل
السلطة السياسية السعودية المحافظة التي ترسم له فضاء معاركه، وتحدد له خصومه..
لكنها اكتشفت متأخرة أنها كانت مخطئة في تقييمها. أميركا والغرب تعايشا مع
الوهابية منذ نشأتها ولم يصطدما بها، بل موّلوها ـ كما هو معروف في التاريخ ـ
لتقضي على خصوم النظام السياسي المتوازي مع خطط البريطانيين ومن ثم
الأميركيين.. اليوم أصبحت أميركا مستهدفة لأول مرة في تاريخ الوهابية. وهكذا،
أصبحت العائلة المالكة المتكئة في الأساس على عكازين متناغمين متآلفين الى حد
كبير: الوهابية حامية الداخل الشعبي وأميركا حامية النظام خارجياً، متعاديين
متناقضين، لا تستطيع العائلة المالكة فوقهما إلاّ الإهتزاز والترنّح.
منذ بداية التسعينيات وعودة من سمّوا بـ (الأفغان العرب) الى ديارهم، تزايد قلق
دول الجوار، بل والأبعدين العرب والمسلمين من تلك العودة التي كشفت عن تصادم
عنفي بينهم وبين أنظمتهم. وبتتبع الخيوط التي كانت على الدوام تؤدي الى دور
للمملكة ومؤسساتها وفكر رجال دينها، انبعث تاريخ الخوف القديم من تمدد الوهابية
(يعتبر الوهابيون ذلك من مفاخرهم كون جميع الأنظمة تستهدفهم عربية وإسلامية
وغيرها). غير أن الدبلوماسية السعودية الهادئة، استطاعت رغم غياب المساعدات،
تلطيف الأجواء، وإقناع الآخر بأن المتطرفين لا يمثلون إلاّ جناحاً صغيراً يمكن
استئصاله. لكن أحداث نيويورك وواشنطن (غزوة مانهاتن!) وما نتج عنها من إملاءات
وضغوط أميركية.. بدأت تلك الدول العربية والمجاورة تحرّض وتشير بأصابع الإتهام
الى السعودية ونظام الحكم فيها بمؤسساته ورجاله. بالنسبة لكثير من تلك الدول،
أدت أحداث نيويورك الى استحضار تاريخ الوهابية القديم خاصة في دول الخليج
العربي واليمن والأردن، فظهر بينها من انتعش مما حدث، وشمت بنظام الحكم
السعودي، واستحضر ثارات التاريخ، وتمنّى المتمنّون أن لو عاد الوهابيون الى
قمقمهم في نجد، وأن لو تحوّلت السعودية الى دويلات (أو دول حتى لا يغضب البعض!)
وتم تالياً تحجيم السعوديين في إطار مملكتهم القديمة وفي دائرة الوهابية: نجد.
الولايات المتحدة اليوم تضغط بشدّة على العائلة المالكة لقصقصة أجنحة الوهابية،
أو تحجيم دور الدين في عملية صناعة القرار السياسي عموماً، وتضع ذلك في كفّة،
والإستمرار في علاقات متميّزة، مع ما تعنيه من استمرار لحماية نظام العائلة
المالكة في كفّة أخرى. الرفض يعني ـ كما تلوح بوادره ـ زعزعة نظام الحكم،
وتقسيم المملكة، وهذا الخيار الأخير بُدئ بالعمل به فعلاً والبحث عن وجوه
سعودية تستكمل صناعة السيناريو القادم، متزامناً مع تحريض بعض دول الجوار ـ لا
داعي لذكر إسمها ـ لأميركا لكي تقدم على ذلك. الأمراء السعوديون المتنفّذون
اليوم في حيرة من أمرهم، والحقيقة فإن وضعهم صعب للغاية، فهم لم يفكّروا أن
ثنائية صعبة كهذه يمكن أن تواجههم في يوم ما. وفي حين أن الشارع السعودي في
مجمله، بغض النظر عن الموقف الأميركي، يميل الى تحجيم الوهابية، فإن العائلة
المالكة وفي أعلى هرم رموزها منشقة على نفسها:
* فالأمير عبد الله وتياره يميل الى خيار إصلاح الوضع الداخلي، وترطيب العلاقة
مع الفئات الإجتماعية المهمّشة وهي الأكثرية الساحقة، ويرى بأن الوهابية قد
استفحل خطرها المباشر على نظام الحكم نفسه، وأن عديداً من عناصرها تريد أن تكون
البديل للعائلة المالكة عبر استخدام العنف، وانها بوضعها الحالي أداة تفتيت
للوحدة الداخلية، وفوق هذا فهي عنصر توتر في العلاقة مع الخارج عموماً وليس مع
أميركا وحدها. لذلك فإن تيار الأمير يميل في أقل الأحوال الى تشذيب الوهابية،
وليس استئصالها، وكأنه يريد أن يبقى لها دوراً متميزاً في المملكة ولكن ليس الى
حد ارتهان الدولة. هذا الموقف يفسّر الى حد كبير بعض الخطوات التي اتخذت في هذا
السبيل وفي مقدمتها دمج الرئاسة العامة لتعليم البنات بوزارة المعارف والتي
أدّت الى حملة هائلة من الجناح الوهابي المتطرف ضدّه، جاء جزء كبير منها بتحريض
من الجناح الآخر. وإذا كان الأمير عبد الله وفي خطوته الأولى قد بدا وكأنه خسر
بعضاً من أنصار الوهابية فإنه كسب في المقابل التيار العريض في المملكة.
* التيار الآخر، ويمثله التيار السديري الأقوى، وهو يميل الى تأكيد دور المؤسسة
الوهابية: أولاً لإرضائها من أجل الإصطفاف معه مقابل التيار الآخر، وثانياً،
لأنه يعتقد بأن المملكة قد تكون أقوى في مواجهة التحدّي الأميركي حين يتمّ
تصليب الوهابية ودعم التحالف معها، وهو شأنٌ يقوم به وزير الداخلية بشكل أساسي
(من غريب السياسة أن وزير الداخلية هو المسؤول الأول عن كبح جماح الوهابية وهو
من وضع عدداً من رموزها في المعتقلات). وثالثاً، فإن تعزيز دور الوهابية،
مؤسسات وأفراد، كفيلٌ بإبعاد المملكة عن الإصلاح السياسي ومواجهة الخصوم
المحليين بخصم إقصائي شرس، أثبت في الماضي عبر الدعم الرسمي المالي والمؤسساتي،
صلابة غير عادية في تعويق الإصلاح. هذا الرأي، يفترض أنه لا بدّ من تقديم بعض
التنازلات للتيار الوهابي بمتشدديه ومعتدليه، وهو ما يحصل بالفعل، فهامش العمل
السياسي والإعلامي توسّع، وتمّ إعطاء الوهابية حصّة إضافية في مؤسسات الدولة
الإعلامية، كما جرى التخفيف عن السجناء المتهمين بالقتال الى جانب طالبان
وأُطلق سراح أكثرهم. لا غرابة إذن أن نلحظ في منتديات الحوار الوهابية عبر شبكة
الإنترنت مديحاً مستغرباً لوزير الداخلية ولإبنه، ووفق هذه الرؤية لم يكن
مستغرباً أن يعزّز وزير الداخلية هذا الشعور بدعم الوهابية في مقابلته الشهيرة
مع جريدة السياسية الكويتية مؤخراً والتي شدد في مواقع كثيرة جداً على دورها في
الدولة وأنها جزء منه ودافع عن ممارساتها كما فعل مراراً من قبل أثناء حريق
مدرسة مكة وغيرها.
ومع أنّ خيار الوهابية يصطدم مع الخيار الأميركي، فإن هذا التيار ينسى أن هناك
رأياً عاماً شعبياً سيكون في أقل الأحوال غير متحمّس لمعارك سياسية قد تخاض
لصالح الوهابية ومن يدعمها، وهذا ما يجعل الرأي العام الشعبي في وادٍ غير واد
السلطة، بل قد يكون نذيراً لها، وليس من المعقول أن تدخل العائلة المالكة في
معركة مع الداخل الشعبي والخارج الأميركي. لعلّ ما يظهر من الجناح السديري مجرد
محاولة للمواءمة بين المتطلبات الأميركية ومتطلبات بقاء النظام بمنأى عن
التغيير عبر إبقاء الوهابية وعدم الإنفكاك منها، ولكن هذه المواءمة ستفشل فيما
يبدو في إرضاء الأميركيين والوهابيين على حدّ سواء. وربما أيضاً تكون سياسة
الجناح آنف الذكر، مجرد تكتيك أوّلي لكبح الضغوط الأميركية وتكتيل الشارع
السعودي وراءها، وإن لم تتخذ صفة الدفاع عن الوهابية بالكامل، الأمر الذي يعني
أن هذه السياسة قابلة للتحول الى النقيض حين تفشل. أيضاً قد يكون هناك مبرر
ثالث، وهو أن تعزيز الوهابية وتأكيد دورها رغم كل الضغوط مجرد ورقة في الصراع
الداخلي للأجنحة، ولا تستهدف بالضرورة استثمارها على الصعيد الخارجي، أي أن
اللاعبين قد قدّموا معاركهم الداخلية حول كرسي الحكم وتقاسم السلطة فيه على ما
تتعرّض له المملكة ككيان من مخاطر جمّة.
المشروع الوطني
الخروج من شرنقة الفئوية والمذهبية صار أمراً حتمياً إن أريد لهذه الدولة
السعودية البقاء بكامل سيادتها، والعائلة المالكة رمزاً لوحدتها وكرامتها
ورفاهية شعبها. والخروج يفرض حتمية الدخول في الفضاء الوطني وتكوين عقد اجتماعي
جديد بين الحاكم والمحكوم، كما ويفرض شروطه الموضوعية التي تحدّد أهدافه ووسائل
تحققها.
أولاً ـ يفترض في المشروع الوطني أن يقرّ بثوابت أساسية لا يستقيم بقاء الدولة
بدونها: مثل دور الدين في الدولة بإطاره ورؤاه العامة (وليس وفق الرؤية
الوهابية الخاصة) بغض النظر عن حجم هذا الدور والشكل الذي سيأخذه. تأتي أهمية
دور الدين من جهة كون المملكة حاضنة للمقدسات الإسلامية في الحجاز، وكذلك دور
الدين/ المذهب في نشأتها الحديثة، وهذان أمران يحتّمان على المملكة دوراً
ريادياً في الداخل والخارج. والثابت الثاني هو دور العائلة المالكة كرمز لوحدة
المملكة والتي لا يتخيّل بقاؤها أو استمرارها موحدة (ضمن الظروف الموضوعية
الحالية) بدونها. ومرة أخرى نقول هذا بغض النظر عن حجم السلطة الذي يمكن أن
يُعزى لها وفق المنظور والمصلحة الوطنية.
وثانياً ـ أن يقرّ بمبدأ الإجماعية لا الإقصائية القائمة على الثأر أو الجشع
والإستئثار، وهذا يتطلّب المساواتية بين المواطنين وتعزيز مبدأ (المواطنة) ونبذ
الفئوية والجهوية، وترسيخ الهوية الوطنية الجامعة وتسويدها على الهويات الفرعية
الطائفية والمناطقية والقبلية، أي التعاطي مع المواطنين كشركاء متكافئين في
الحقوق والواجبات لا تنتقص انتماءاتهم الفرعية حقوقهم المادية والمعنوية. وكما
يحدث للأفراد، الذين هم جموع الشعب، يفترض في أي مشروع وطني يسعى لترميم
العلاقة بين السلطة والقوى الإجتماعية والسياسية المختلفة، أن تتسالم هذه
القوى، وتعترف بحقوق بعضها البعض في التعبير والممارسة والمشاركة في صناعة
القرار.. بدون هذا سيتحول المشروع الوطني الى مشروع إقصائي، شأن القائم
حالياً.. إقصائي للشعب بمجمله عن حقوقه الأوليّة، وإقصائي للقوى المختلفة
والمعترضة على الإستئثار الديني والسياسي. ويأتي هذا انطلاقاً من الإعتراف
بحقيقة التعددية لمجتمع المملكة، والنظر اليه من زاوية إيجابية ودالة على
الثراء المعرفي والتنوع المفيد لا الممزق.
ثالثاً ـ يفترض في المشروع الوطني تشخيصه للأزمة التي تعاني منها المملكة على
أنها أزمة سياسية نابعة أساساً من مشكلات بنيوية في هيكل السلطة، أدّت الى
الإحتكار السياسي والديني، وانعكست بالسلب على مصالح الشعب الذي لم يكن مساهماً
في الأساس (اللهم إلا من زاوية صمته) في نتائج ما هو حاصل من فساد وسوء إدارة
وتدهور علاقات مع الخارج العربي والدولي وتفاقم للمشاكل المحلية وانتقاص من
حقوق المواطن المادية والمعنوية. بكلمة أخرى، إن المشكلة الأساسية تكمن في
الإستبداد السياسي المتصافح مع الإستبداد الديني، والذي أدّى في مخرجاته الى
أزمة في العلاقة بين الدولة والمجتمع. إذا كان هذا التشخيص صحيحاً، فإن هدف
المشروع الوطني يتلخّص في قطع دابر الديكتاتورية السياسية والدينية، دونما
افتئات على حقوق أحد في التعبير والمشاركة في الصالح العام. إن إرتهان النظام
السياسي للوهابية وما جرّ إليه، سببه ذلك الإحتكار الذي تحدثنا عنه، وذلك
التخلخل في التوازن السياسي داخل المجتمع السعودي نفسه، حيث أقليّة متحكّمة
وأكثرية مهمّشة. ومن هنا فإن توزيع السلطة بشكل متوازن، ووفق آلية مرجعية يتفق
عليها، يخرج الدولة من ارتهاناتها لجماعات أو مذاهب واجتهادات وأفكار أو مناطق
ومصالح ضيقة، ويمنع تحوّل مؤسساتها الى مؤسسات نفع خاص، ويوسع هامش الحرية
والمناورة لمسؤولي الدولة ويعدد من خياراتهم في منهجهم السياسي الداخلي
والخارجي. بهذا تستقيم أمور الدولة، وتستقر المصالح لكل الفئات، وتتعزز الثقة
بالدولة وأجهزتها وبين رجال النظام والجمهور، وتتآلف الشرائح الإجتماعية
المتنافرة والتي طال تلاعب الطاقم الحاكم بضرب بعضها ببعض من أجل تكريس مفاهيم
السيطرة والإستئثار.
رابعاً ـ إن مقاومة الضغوط والتهديدات الخارجية (الأميركية بوجه خاص) لا تتأتّى
بدون إصلاح الجبهة الداخلية، كيما تكون فاعلة في المقاومة ورافدة للجهد الرسمي.
فبإصلاح الوضع الداخلي تتساقط الكثير من الحجج الأميركية مثل: وجود معامل تفريخ
الإرهاب، وغياب حقوق الإنسان والحريات السياسية والديمقراطية، وشيوع الإستبداد،
وهدر حقوق المرأة، وغير ذلك. ستسقط بالإصلاح مبررات الرغبة الداخلية النازعة
باتجاه الإنفصال، وكذلك الرغبة في التغيير الجذري الذي يستهدف (إسقاط النظام)،
ولن يجد الأميركيون ولا غيرهم أُذُناً سميعة لمشاريعهم التقسيمية والتحريضية.
لا يمكن لنظام الحكم في المملكة أن يواجه الآن الضغوط العظيمة وحيداً، أو
مدعوماً من الوهابية وأتباعها فحسب، أو اعتماداً على شعب مفكك تتجاذبه الولاءات
والمصالح الخاصة، أو بشعب حُقن منذ وعى نفسه بأن شؤون الحكم لا علاقة له بها،
ثم وبشكل مفاجئ يراد منه أن يدافع عن نظام وأشخاص وأن يتفهم المبررات وهو
المسكون بالسلبية والخوف من اقتحام السياسة وتعاطيها. النظام الحاكم اليوم لا
يستطيع أن يقاوم حتى الضغوط القليلة اعتماداً على شعب مسلوب الإرادة السياسية،
ومشغول بمعاركه الطائفية والقبلية الداخلية، ومحكوم بصراع نخبه التحديثية مع
التقليدية.
وفي ظلّ سيادة منطق أميري يصرّ قولاً وعملاً على أمرٍ ثابت البطلان بأن المملكة
بأراضيها وتراثها وخيراتها ملك شخصي لفرد أو عائلة، إن منحت كان فعلها مكرمة،
وإن منعت لم تكن مقصّرة، وإن اقتحم أحدٌ التابو السياسي عدّ معتدياً على حقوق
العائلة المالكة وخاصتها. المواطنون لا يدافعون عن وطن ونظام هذه صفاته. الوطن
بدون حقوق يتقلص في المخيال الفردي الى مجرد قرية أو مدينة أو محافظة وفي أكثر
الأحوال منطقة، قد تستثار الحميّة حين يعتدى عليها، أما المملكة ـ وطن الأوطان
ـ فلا تستثير الرغبة في شرف الدفاع عنها. هذا الوطن الكبير لا يحميه إيمان
طوباوي إلاّ إذا تحوّل الدفاع عنه دفاعاً عن النفس، ولن يكون كذلك ما لم يشعر
قاطنوه بأنهم شركاء فيه، صنّاع لقراراته وسياساته، تحفظ فيه كرامتهم، فمن لا
كرامة له لا يحمي كرامة وطنه أثناء الأزمات.
باختصار.. إن المشروع الوطني الإصلاحي الداخلي هو الخطوة الأولى للدفاع عن
الوطن وعن الخيار السياسي لأبنائه.. الخيار الصحيح لا المزوّر أو المدّعى.
خامساً ـ يفترض المشروع الوطني أن يكون التغيير سلمياً، متدرّجاً، شعاره: لا
يموت الذئب ولا تفنى الغنم، أي أن يكون بأقلّ الكلف، ومنهجه في هذا بعد
الإقتناع بضرورته، الحوار والمساومة السياسية بديلاً عن العنف: عنف السلطة،
وعنف دعاة التغيير. من خلال المؤشرات الحالية، فإن هناك إجماعاً شعبياً على
ضرورة القيام بإصلاحات، وأن تكون الوسائل المؤديّة إليه سلميّة في مجملها، مع
أن مؤشرات استخدام العنف ـ هي الأخرى ـ واضحة. غير أن المؤشرات تعوزنا فيما
يتعلق بالعائلة المالكة، إن من جهة اقتناعها بضرورة التغيير، أو حجمه، أو
الوسائل المعتمدة في حال مال الرأي الى رفضه.
هذا لا يعني أن الإصلاح بالضرورة يأتي من أعلى، أي بتنازل من العائلة المالكة.
فإذا كانت تحتفظ بمجمل القرار، فإنها لا شك ترى الأوضاع، وإن كنّا لا نعلم هل
قرأتها القراءة الصحيحة. لكي يكون الإصلاح سلمياً لا بدّ أن يقرأ الطاقم الحاكم
الوضع الداخلي بصورة واقعية وهي تشير الى رغبة شعبية عارمة للتغيير، والى الضيق
والتذمّر الشديد من سوء الأوضاع الإقتصادية التي طالت حياة كل مواطن، وإلى
تنامي النزوع نحو العنف من اغتيال وتفجير واختطاف ومحاولات تظاهر وتمرد في
السجون وانهيار في المعنويات وضعف في أداء أجهزة الدولة وانخفاض هيبتها. لا بدّ
أن تقرأ العلاقة بين العائلة المالكة والوهابية بصورة صحيحة، إذ لم نرَ من
العائلة المالكة، حتى الآن، سوى القليل المتغيّر فيها، والذي لا يصبّ إلا في
التكتيكات الآنيّة وليس في ابتداع منهج استراتيجي جديد يجيب على التساؤلات
الحادّة بشأنها: ما حجم دور المؤسسة الدينية في الدولة، هل هناك خطر عليها وعلى
نظام الحكم في المستقبل، والى أي حدّ هي مفيدة أو مضرّة للتآلف الإجتماعي
الداخلي، وكيف يمكن تفعيلها بهذا الإتجاه، وماذا عن القوى الدينية الأخرى وما
موقعها من الإعراب..الخ.
وتفترض القراءة الصحيحة للوضع الداخلي أيضاً والتي تقرر ما إذا كان النظام يميل
الى التغيير (والتغيير السلمي بالذات) أم لا، تفترض تقييماً للقوى الأخرى
المهمّشة في شمال وجنوب وشرق وغرب المملكة، الى أي حدّ يشكل سخطها خطراً على
بنية الدولة، وما هي تطلعاتها، وكيف يمكن المواءمة بين مطالبها ضمن إطار
الدولة، وما هي البدائل التي بيد تلك القوى للضغط على النظام إذا ما تعسّرت
ولادة عقد وطني جديد، والى متى يمكن لهذه القوى أن تصمت أو يمكن إخراسها، وبأي
الوسائل وحدود استخدامها، وما هو تأثير ذلك الإستخدام في المدى القريب والبعيد،
وانعكاس ذلك على سمعة المملكة وعلاقاتها بالخارج الدولي.
المسألة الأخرى التي يجب أن تقرأ بصورة صحيحة: صورة العلاقة المستقبلية مع
الغرب بشكل عام، فهل تنظر القيادة السعودية الى توتر العلاقة مع أميركا تطوراً
استراتيجياً يفرض عليها حماية نفسها بوسائل مختلفة، وترتيب بيتها الداخلي
ومنظومة علاقاتها الخارجية وفق هذه الرؤية، أم أنها ترى في التوتر مجرد سحابة
صيف لا تلبث أن تنقشع بمزيد من التنازلات، والى أي حدّ تكون، وهل بإمكانها
البقاء طويلاً تحت ضغوط الإبتزاز والتهديد ريثما تعود الأمور الى سابقها. بمعنى
كيف تقيّم العائلة المالكة ما حدث، وكيف تقيّم الرؤية الأميركية للسعودية في
الوقت الحالي وفي المستقبل. بعد هذا تأتي قراءة رجال الحكم السعودي للخارطة
الإقليمية المستقبلية وتأثيراتها على الوضع الداخلي: ما تأثير التغيير القادم
في العراق ـ إن حدث ـ على سيادة الدولة السعودية ووحدتها، وعلى شعبها،
واقتصادها، والعقيدة العسكرية لجيشها. أيضاً، ما هو تأثير انتعاش أنوية
الدمقرطة والإنفتاح في كل البلدان المجاورة الخليجية وغيرها على النظام السياسي
السعودي، وعلى تطلعات السكان، وعلى العلاقة بين الحكم والمحكومين.
أسئلة كثيرة جداً تشكل المنطلق والاساس الذي يمكن للعائلة المالكة التي تبني
عليه اجاباتها الحاسمة إما باتجاه الإقدام على التغيير أو المضي على الحال التي
هي عليه. من المؤكد أن أكثر هذه الأسئلة لم يجب عليها، ولا يملك الطاقم الحاكم
رؤية واضحة عنها، فالسياسة في المملكة ومنذ زمن بعيد تعتمد ردود الأفعال تجاه
الأحداث، ولا يوجد في المملكة بطولها وعرضها مركز دراسات واحد يقدم إجابات
لتساؤلات المستقبل ويقترح الخطط والمشاريع السياسية. حتى مجلس الدراسات الوحيد
التابع للديوان الملكي لا يعدو مجرد إسم وضع لتوظيف أمير، بدون موظفين وبدون أي
فعل حقيقي أياً كان نوعه.
لا نعلم الى أي حدّ اقتنعت العائلة المالكة بفضيلة عدم التشبّث بكامل السلطة
وأن الأوان قد حان للإعتراف المبدئي بأن الشعب ليس قطيعاً لا حقّ له حتى في
قوته، كما لا نعلم ما إذا كانت تدرك بأن عواقب الحسابات الخاطئة مكلفة: مزيد من
العنف الداخلي؛ انهيار لمؤسسات الدولة؛ تعزيز لمشروع التغيير الجذري وضرورة
إقتلاع العائلة المالكة باعتبار وجودها لا يستقيم والإصلاح، أو التغيير
الإنفصالي عبر تقسيم الدولة بالتعاون مع الطروحات الخارجية. مما لا شكّ فيه، أن
فكرة الإصلاح لم تنضج بعد لدى الأمراء، وإذا كان البعض منهم قد اقتنع بضرورته،
فإنهم يعتبرونه شرّاً لا بدّ منه الأمر الذي يتطلب التحايل على الداعين اليه
بتقديم أقلّ التنازلات الممكنة. ربما هناك رؤية تفيد بأن الوقت لم يحن بعد،
وكأنّ هناك دعوة لاستدعاء المزيد من التوتر والعنف الداخلي حتى يتاكّد الأمراء
بجمعهم أن لا محيص من الإصلاح. ربما أيضاً هناك من بين الأمراء من يعتقد بأن
دعوة الإصلاح مجرد فورة ستؤول الى الانطفاء وليس لمزيد من الاشتعال، وأن
المطالب الشعبية الحالية رغم تدنيها ـ وهي مرفوضة من قبل الطاقم السياسي ـ يمكن
تقليصها أكثر فأكثر. هذا باختصار وهم، بل عكسه تماماً هو ما سيقع.
سادساً ـ في حجم الإصلاحات المطلوبة، الرؤية السائدة بين النخب السعودية تستند
على ضرورة تقليص وتأطير صلاحيات العائلة المالكة ضمن فكرة تحويل النظام السياسي
الى ملكية دستورية خلاف ما هو عليه اليوم من ملكية تسلطية مطلقة. للوصول الى
هذا الغرض، هناك متطلبات أساسية منها:
** تحديد حجم السلطة الممنوحة لرجال العائلة المالكة. وفي هذا المجال هناك
رأيان متداولان بين النخب السعودية: الأول يرى بأن العائلة المالكة تكتفي
بمنصبي (الملك وولاية العهد) والإشراف العام على جهاز الدولة عبر تعيين رئيس
مجلس وزراء ووزراء من خارج الأسرة المالكة، على النحو الذي نشهده الآن في
المغرب والأردن. أصحاب هذا الرأي يعتقدون بأن فصل رئاسة الوزراء والوزارة عن
الملك ليتولاها أشخاص من عامة الشعب يحقق أمراً في غاية الأهمية وهو إبعاد
العائلة المالكة عن الإنغماس في المشاكل الداخلية وتحمّل أخطائها بحيث لا ينعكس
ذلك على سمعتها ورمزيتها. فبقدر ما يكون بيد الأمراء من سلطات تكون هناك أخطاء،
لا يتحمّلها أحدٌ سواهم، سواء أكانوا وزراء أو أمراء مناطق. فتقليص المسؤوليات
المباشرة للعائلة يلقي اللوم بالتقصير على رئيس وزراء ووزراء من العامّة، وليس
على العائلة المالكة، وبإمكانهم أن يعزوا الفشل الى هؤلاء فيغيّر الوزير أو
رئيس الوزارة دونما حرج. في حين أن رأياً آخر يقول بأن تبقي العائلة المالكة
بيدها ـ إضافة الى ما ذُكر ـ رئاسة الوزارة ووزارات السيادة: الدفاع والداخلية
والخارجية، كما هو حاصل في الكويت. والخلفية السياسية وراء هذا تبرر الأمر بأن
العائلة المالكة لن تقدم على إصلاحات دون أن يكون لديها ضمانات من نوع ما بأن
لا تنقلب العمليّة الإصلاحية ضدّها فتجردها مما في يدها من سلطات، ووجود وزارات
السيادة بيدها يمنحها الطمأنينة حول مستقبلها السياسي.
** تحديد حصّة العائلة المالكة من الثروة. ضمن الوضع الحالي، لا أحد يعلم كم
تقتطع من ميزانية الدولة، ولكن يرجح أن تكون في حدود الثلث، اعتماداً على
تقديرات صحافية وعلى ما أعلن رسمياً في أول سني سنّ الميزانية. ففي ميزانية
1954-1955 مثلاً كانت حصة العائلة رسمياً الثلث، قال حينها الوزير العراقي
المفوض في السعودية ـ أمين المميز ـ أنه وجد أن الثلث الثاني سيكون بيد العائلة
المالكة، وان الثلث الباقي للشعب تشاركه فيه العائلة المالكة أيضاً. مادامت
مخصصات العائلة المالكة كبيرة وسريّة، إضافة الى اقتطاع حصص نفطية تباع لحساب
هذا الأمير أو ذاك، وتملّك الأراضي والبراري وفرض الخوّة على التجار وغير ذلك.
هذا يفرض ضغطاً هائلاً على موارد الدولة، وعلى الحياة اليومية للمواطن، ولذلك
اقترح الأمير طلال في الستينيات الميلادية ضمن مشروعه الإصلاحي التخفيض
التدريجي لمصاريف العائلة المالكة ريثما يتم تأهيل أفرادها للإعتماد على
أنفسهم.
لكن المسألة أعمق من ذلك بكثير، إذ لا يمكن ضبط مصاريف العائلة المالكة بدون
تقليص عدد المنتفعين منهم (يقدر الآن بأكثر من عشرين ألف شخص) وهذا يستلزم
إحياء مشروع قديم يحصر إطلاق صفة (الأمير) في أبناء وأحفاد الملك المؤسس ممن
يعرّفون اليوم بـ (صاحب السمو الملكي) ومع هذا فإن الباقي يقدر ببضعة آلاف، وهو
رقم كبير لا تستطيع الدولة أن تتحمل بصورة مباشرة صرفاً ضخماً على كل فرد منهم.
ولذا، يمكن الإتفاق مع كبار رجال العائلة، أن تتحمّل ميزانية الدولة لفترة
محدودة (ربما عبر تطوير مجلس العائلة المالكة الحالي والذي أُسّس لهذا الغرض
قبل أكثر من عام) بتقديم نسبة محدّدة من ميزانية الدولة لترتيب وضع العائلة
المالكة المالي بحيث تعتمد فيما بعد على نفسها، خاصة وأن أكثرية الأمراء قد
رُتبت أوضاعهم ولهم الكثير من الممتلكات والمدخرات والشركات والأراضي، ولهم
نشاطاتهم الإقتصادية الضخمة. أما الملك وولي عهده، فتتحمّل الدولة دائماً
مصاريفهما ضمن جهاز الدولة، ويمنحان مخصصات مجزية تليق بمقامهما كرمزين للدولة
ووحدتها، ليس في حدود المصروف الشخصي بل بشكل أوسع يكفل مساهمتهما ودعمهما
وعطاياهما لمن أرادا.
** حصانة العائلة المالكة القضائية مسألة أخرى تعرض كلّما نوقش موضوع الإصلاح.
ليس من مصلحة كبار العائلة المالكة أن يتحمّلوا وزر وأخطاء عشرين ألف أمير
وأميرة، بينهم من يسرق ومن يقتل ومن يعتدي على الأعراض ويسلب الأموال ويضايق
المواطنين في معاشهم، ويفرض نفسه على تجارهم، ومن يعتدي على موظفي الدولة
كباراً وصغاراً بالإهانة والضرب والإذلال، ومن يتدخل في شؤون القضاء، ويزرع
الفساد عبر الكسب المحرم، ومن ينتهب أموال الناس كأفراد ومؤسسات كالبنوك دون أن
يستطيع أحدٌ إيقافهم. إن منح الحصانة لهذا العدد الوافر من الأمراء والأميرات
يغري الكثير منهم ـ وفق ادّعاء أن الدولة ملك شخصي لآل سعود ـ استمراء هذه
الأفعال المشينة والإصرار عليها وتوسيع نطاقها، وهو ما انعكس على سمعة العائلة
ككل، وحطّ من قدرها بين الشعب، فاستـُـبدل الحبّ بالكراهية والبغضاء حتى بين
الدوائر الضيّقة التي تتظاهر بالإحترام وتقبيل الأكتاف والأيدي. إن منطق
الحصانة، إن كان لا بدّ منه رغم مخالفته للشرع، يجب أن يُحصر في عددٍ قليل من
الأمراء، ممن يباشرون وظائف في الدولة، وبهذا ـ لا بدونه ـ يمكن ضبط تصرفات
الآخرين، ووصل ما انقطع من ودّ بين الشعب والعائلة المالكة، وتخفيف المشاكل
التي يضجّ منها المواطنون بمختلف شرائحهم.
يبقى بعد هذا ماهيّة الإصلاحات واتجاهاتها، والتي يبدو أن هناك ما يشبه الإجماع
بشأنها، وتشمل:
1 ـ تشكيل مجلس شورى ينتخب أعضاؤه جميعاً رجالاً ونساء، ويعدّل نظام المجلس
بحيث يمنح صلاحيات واسعة في مجال المحاسبة والرقابة وإقرار الميزانية والمساهمة
الفاعلة في رسم سياسة الدولة داخلياً وخارجياً.
2 ـ تغيير شامل لنظام المناطق وتعزيز الإدارة المحلية بعدما ثبت بأن مركزية
الدولة تمثل عائقاً للإصلاح، واعتماد نظام الإنتخابات لشغر مناصب تلك الإدارة.
3 ـ إجراء تغيير حاسم في موضوع القضاء يضمن استقلاله، أو احتكاره من طرف
إجتماعي أو مذهبي بعينه.
4 ـ توسيع هامش الحريات الصحافية وقنوات التعبير الأخرى.
5 ـ إفساح المجال لقيام مؤسسات المجتمع المدني، تخفيفاً لأعباء الدولة ومساهمة
من الجمهور في إيجاد قوى موازية لمؤسساتها، ومشاركة منه في صناعة مستقبل
البلاد.