gulfissueslogo
أ.د.على الهيل
العقل العربي الجمعي والثورات الشعبية من الخليج إلى المحيط
أ.د.علي الهيل

2011-04-11
لو كان رافائيل باتاي 1910- 1996 السوسيولوجي الأمريكي المعروف مؤلف كتاب 'العقل العربي' (طبعاً في عصر ما قبل الثورات الشعبية العربية، والعقل العربي الجمعي بنحو أربعة عقود) حيا و(رأسه يشم الهواء) كما يقول المثل الخليجي، لربما كان سيفكر في تأليف كتاب آخر عن العقل العربي، أو لربما قدم اعتذارا مغلفا بالشعور بعقدة الذنب حيال ما أورده عن العقل العربي، أو لربما كان سيغير الصور النمطية (الإستيريوتايبس) والتصورات الخاطئة التي وردت في كتابه، الذي نُشر لأول مرة عام 1973، وهي أن العرب لا ينفع معهم سوى لغة القوة، وأن الإذلال الجنسي يجعل العرب يبوحون بكل شيء، والتي حسب الصحافي الأمريكي سيمور هيرش استغلتها إدارة الاحتلال الأمريكي في العراق، من خلال فضائح سجن (أبو غريب) الأكثر شهرة من غيرها في أفغانستان وغوانتانامو في التاريخ المعاصر، ناهيك عن تلك التي في فيتنام ولاوس وكوريا مثلا.
وهذا الافتراض المتعلق بالعقل العربي من خلال استقرائنا لفكر باتاي يُحتمل أن يكون مرجعه إلى سببين أو أكثر، من وجهة نظرنا: الأول؛ كون العقل العربي في عصر ما قبل الثورات الشعبية مختلفا اختلافا يكاد يكون مطلقا عنه في عصر ما بعد الثورات الشعبية. في العصر الغابر كان العقل العربي فرديا، بمعنى أن كل فرد واعٍ بحقيقة النظام الحاكم كان ينتابه الإحساس بالظلم مثلاً على حدته نتيجة لديكتاتورية النظام وقمعه ومخابراته. وقد ساهم في ذلك الإعلام الذي كان يتعرض للعقل العربي. وهو يوصف بأنه إعلام مجازا، فهو علميا ليس إعلاما. أي أنه لم يكن يُعلم المواطن بغرض توعيته بحقوقه الإنسانية مثلا أو لمصلحته الشخصية، ولكن لتكريس سلطة النظام ولجعله تابعا له. فهو بذلك إعلام أحادي الجانب ومن طرف واحد فقط، وهو إعلام النظام. ولم يكن من خيار أمام العقل العربي إلا أن يتجرع سمومه، فلم تكن ثمة خيارات إعلامية أخرى لا من داخل ولا من خارج الحدود، وإن وجدت وضعت هي ومن يتعاطى معها تحت المراقبة.
وبطبيعة الحال والمرحلة والظروف (إعلام أو إيلام) النظام كان هو المرسل الفاعل، والطرف الآخر وهو العقل العربي هو المستقبِل المفعول فيه، الذي حوله الإعلام السلطوي إلى حالة سلبية متلقية، وهو لا حول له ولا قوة. وكانت وظيفته أو دوره أن يتلقى فقط ولا يشارك أو بالأحرى لم يُسمح له بالمشاركة ولا أن يبدي رأيا ولم يختلف التعليم ولم تشذ خطب الزعيم (الملهَم) عن غيرها من مناحي الحياة في ذاك العصر عن ذلك التنميط الوصفي.
والحديث عن العصر الغابر وعقله ونظامه وإعلامه وأشيائه الأخرى لا يعني أن العصر الغابر قد غَبُرَ أو غَرُبَ كله، غير أننا في ضوء نجاح بعض الثورات الشعبية وإرهاصات ثورات أخرى تقاوم نستمد التفاؤل. فلمَّا تزل بلدان كثيرة في الوطن العربي تئن من العصر الغابر الذي كانت تئن منه تونس ومصر، ويحاول أن يكون عصرا غابرا في اليمن وليبيا والسعودية وسورية والأردن والمغرب والجزائر وغيرها. وذلك لسبب بسيط وواضح وهو أن العقل العربي المصادَر تغييبا وعزلاً الذي صوره باتاي في كتابه كان عقلا فرديا خائفا لم يجرؤ على كسر حاجز الخوف من النظام أو لم تتوافر له الفرص والإمكانات لفعل ذلك، كما تتوافر لشباب الثورات الشعبية العربية في الوقت الراهن كالشبكة الدولية (الإنترنت) ووسائلها أو أسلحتها الفتاكة (كالفيس بوك والتويتر) التي دخل من خلالها العقل العربي الفردي العصر الجمعي والفعل الجمعي والإرادة الجمعية، وأسس كل ذلك حالة ذهنية جمعية جماعية مشتركة من محيط الوطن العربي إلى خليجه العربي.
العقل العربي الفردي إذن كان يرزح تحت عقود من الاستدامة الديكتاتورية اللامعقولة والتسلط والظلم والاستبداد والفقر وما تحت خط الفقر والبطالة والجوع، وتبعا لذلك صيره النظام الحاكم العربي وعاءً لِما يلقى فيه أو يُحشى به من تعليمات وأوامر، وليست معلومات من أبواق بروباغندا دعائية تسمى تجاوزا إعلاماً فوقيا سلطويا، كل همه تضليل العقل العربي وإبقاؤه عقلا فرديا تابعا لا يفكر ولا يتفكر ولا يسأل لماذا ولا كيف، وتم تغييب وعزل العقل العربي عن أي مؤثرات إعلامية خارجية. والغاية لأن الحاكم 'السوبرمان' المنزه عن الخطأ والنسيان يقول عنه ويسأل نيابة عنه ويفعل له وبه وفيه، وما يعمله الحاكم هو الصح والغاية هي الغاية نفسها عند أسياد الحاكم الأعرابي (ولا نقول العربي) مكيافيلية (الغاية تبرر الوسيلة) وهي تكريس بقاء النظام الحاكم، بصرف النظر عن الأخلاقيات والإثِكس والمورالس.. يلوث العقول.. يضللها.. يغشها.. يخدعها.. يقتل المواطنين.. يجوعهم.. يحرمهم من أبسط حقوقهم.. يتزوج ويستحيي نساءهم ويذبح أبناءهم ويسومهم سوء العذاب.. ودول الاستعمار القديم الجديد والموجودة في وجود النظام الحاكم الأعرابي وممارساته تسنده بالسلاح والعتاد ووسائل قمع المواطنين إذا ما جرأوا على تجاوز الخطوط الحمراء، طالما أنه ينفذ أوامرها كما ينفذ الشعب أوامره مكرها طبعا، وعلى رأسها أن تبقى (إسرائيل) في أمن وأمان واطمئنان.
ولذلك جُن جنون الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي بإيعاز ولاشك من الإيباك واللوبيات اليهودية الصهيونية الإسرائيلية في دول الناتو ودول الاتحاد الأوروبي، وما يسمى 'المجتمع الدولي'، عندما تظاهر نفر من شباب إئتلاف 25 كانون الثاني (يناير) الأسبوع الماضي قبالة السفارة الإسرائيلية في القاهرة مطالبة بقطع العلاقات المصرية مع (إسرائيل). وهذا ما دفع الرئيس الأمريكي أوباما إلى أن يقول إن الثورات الشعبية العربية يجب أن تكون حافزا لاستمرار عملية السلام بين العرب أو بالأحرى بين الأعراب و(إسرائيل). وهو كلام يدل على جهل مطبق بدوافع الثورات الشعبية العربية الناجحة، التي تقاوم وعلى وشك أن تنجح ونجاحها مسألة وقت فقط. فدوافع الشباب العرب لم تكن بطونهم، والدماء الزكية التي سالت في الشوارع العربية من تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية إلى البحرين وعمان والسعودية بضوء أخضر من حلفاء الأعراب أو في الحد الأدنى بصمت متواطئ، كانت أيضاً بسبب السلام المذل الذي فرضه (الأعراب) بأوامر من أسيادهم في الغرب وإسرائيل والإيباك، والتنازلات تلو التنازلات لصالح (إسرائيل)، وجعل غزة والفلسطينيين وأطفالهم ورضّعهم ونساءهم يُقتلون بدم بارد و(الأعراب) يقابلون المسؤولين الإسرائيليين في العلن تارة وفي الخفاء تارة أخرى و(الجوكر) في اللعبة كلها أضحى معروفا، ثم إن الرئيس أوباما يناقض نفسه تماما فهو من نادى بوقف الاستيطان، باعتباره العقبة الكأداء أمام السلام وناور وداور غير أن (إسرائيل) طبعا بعون من الإيباك ضربته على ظهره مرات ومرات. وفي النهاية أذعن للأمر الواقع ونادى بضرورة أن تستمر المفاوضات بغض النظر عن الاستيطان، رغم أنه في بداية ولايته ملأ الدنيا ضجيجا وصخبا من تركيا إلى القاهرة رفضا للاستيطان بيد أنها كانت من قبيل 'أسمع جعجعة ولا أرى لها طحناً'.
وحسب رافائيل باتاي لا يفهم العقل العربي سوى لغة القوة التي واجهه بها الاستعمار الأوروبي ولاحقا الأمريكي في العراق بشكل مباشر وفي فلسطين بشكل غير مباشر، حين كان يحتل دياره ثم الاستعمار المحلي الذي احتل وما يزال يحتل دياره بالوكالة عن الاستعمار الأوروبي الذي خلعته المقاومة الشعبية العربية، والذي ظل يمد الأنظمة الحاكمة التي إما أنه نصَّبها قبل رحيله، وإما أنه دعم قيامها ومنحها صكا بشرعيتها المستمدة من مصالحها فحسب وليست من رضى الشعب. وهي أنظمة غير مرغوب فيها شعبيا استولت على مكتسبات المقاومة الشعبية والتفت على دماء الشهداء، يرفدها ويمدها الاستعمار بأسباب القوة وعوامل المنعة والاستمرارية والديمومة والبقاء. وأخيراً حرر العقل الجمعي العربي الإيجابي الفاعل العقل الفردي من فرديته السلبية المفعول بها بدءاً من نهاية 2010 مع تفجر الثورة الشعبية العربية في تونس. ونتيجة لهذا التطور غير المسبوق قام العقل الجمعي العربي بثورات شعبية تقريبا في كل مكان من العالم العربي.
وبالمناسبة باتاي كتب كتابه من منظور الأنثروبولوجيا الثقافية (السوسيولوجيا تُعنى بدراسة المجتمعات المعاصرة، في حين أن الأنثروبولوجيا تُعنى بدراسة المجتمعات القديمة).
والكتاب عبارة عن دراسة للثقافة والسيكولوجية العربية من وجهة نظر غربية أمريكية، نشره لأول مرة عام 1973، وكما قلنا لو أنه الآن حي لَخِلتُهُ قد وثق خلاص العالم العربي من عصر العقل الفردي والأعرابي، ودخوله عصرا جديدا ألا وهو عصر العقل الجمعي الذي فجر وما يفتأ يفجر الثورات الشعبية ضد الحاكم الفرد المستبد الذي ظل لعقود طويلة يقمع أي إمكانية أو فرصة لبروز العقل الجمعي. إنها بلا شك نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى.
الظروف التي كتب فيها باتاي 'العقل العربي' وعلى مدى وعلى امتداد كل تلك العقود كانت ما يمكن أن توصف أو لا توصف بالدول الديمقراطية والمجتمع الدولي، التي ينتظمها عقد الناتو (حلف شمال الأطلنطي) وعقد الاتحاد الأوروبي تشجع الهيمنة الفردية للحاكم العربي الديكتاتوري وأبنائه وبطانته مع علمها بالملايين من الفقراء العرب، ومن هم تحت خط الفقر بسبب سرقة المال العام وتصيير البلاد ملكية مطلقة للحاكم وأفراد أسرته. وكانت تلك القوى المكيافيلية التي تتبنى كما أشرنا أن (الغاية تبرر الوسيلة) مدركة لوجود إحساس عربي عام بالظلم غير أنه فردي، وطالما أن الإحساس الجمعي منعدم أو غائب لم تكن تخشى لأنها كانت تخشى كأذنابها الحكام الأعراب من تبلور الإحساس الجمعي العربي بالظلم، بالصورة التي ظهر عليها في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين والسعودية وسورية والأردن، التي سيظهر عليها في البلاد العربية الأخرى وهي مسألة وقت ليس إلا.

copy_r