هل أصبح "الشباب" ملفاً ساخناً؟ هل نحن بحاجة الى حملة وطنية سعياً الى وضع
حلول سريعة وجذرية لمشكلة الشباب؟ وهل الشباب قضية أصلاً؟..
أسئلة تتدافع، وتتدافع، وليس في الامر ما يدعو للغرابة، فالحديث عن الشباب،
يعني الحديث عن 60 ـ 70 بالمئة من سكان هذه المنطقة الاستراتيجية. فنحن
إذن لا نتحدث عن شريحة هامشية أو صغيرة الحجم، بل نتكلم عن المساحة الاجتماعية
الاكبر، والتي منها يتشكل مجتمع الغد.
حتى نهاية القرن التاسع عشر، وربما الى الربع الاول من القرن الماضي لم يكن
الشباب موضوعاً للدراسة والتحليل من قبل علماء النفس والاجتماع، أو حتى
الحكومات، بكلام آخر لم يكن الشباب "مشكلة" قبل اندلاع الاضطرابات باتجاهاتها
المختلفة: الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسة، والثقافية، التي تفجرت في بقاع
عديدة من العالم، وهدّدت بوقوع كوارث اجتماعية خطيرة كادت تؤول الى
انهيار النظم السياسية فيها، حين أخذت شكل التجمعات الحزبية الفاشستية كما في
المانيا وايطاليا..
هذه الاضطرابات كانت أشبه بجرس الانذار المبكر أو قنبلة مدوية أوصلت رسالة
صوتية للمعنيين كيما يُلتفت الى حاجات الشباب، ويُستمع لقائمة القضايا التي
يحملونها، والتطلعات التي يرومون الوصول اليها..
ولكن، الرد كان متأخراً فجاءت الاستجابة سلبية، بعد انقلاب الصورة، فقد نظر الى
موضوع الشباب من زاوية المشكلة، حتى أصبح فعلاً مشكلة عالمية، وهي كذلك، فطبيعة
الاشياء تعلمنا أن حتى القداسة يمكن تدنيسها باختلال النظرة وسوء الاستعمال،
ويسري هذا على نظراتنا لكل الاشياء، فطبيعة النظرة للشباب تحدد الحكم عليه،
فالفارق بين أن تعتبر الشباب جزءاً من حل أو جزءا من مشكلة، ونعلم جيداً أن
البعض ينظر الى كل شاب بأنه مشروع جريمة، وهو كذلك حين نقبع في تحليلنا للموضوع
في زاوية النظرة السلبية، دون بذل عناء كبير من أجل الانصات للنداءات الداخلية
للشباب وتحليلها، والبحث في سبل إشباعها بطريقة سليمة ومرضية، لا إخمادها في
المهد.
وقد تصل بنا النظرة الى سوء أوضاع الشباب الى تجاوز التعليلات العقلانية، حتى
يصاب البعض بالهذيان في التعبير عن نظرته ويقرر على أساسها التعامل معهم
باعتبار الشباب كائنات أخرى غير البشر، أو أنهم "خوارج" على النظام الاجتماعي
ونسيجه البشري.
لا يدعونا هذا في الوقت ذاته الى التهوين من شأن القضية، فالشباب قوة بنائية
جبّارة وفي الوقت نفسه قوة تدميرية هائلة، فهم سلاح ذو حدين، فالشباب عماد
البناء الاجتماعي والاقتصادي، والقوة القادرة على التشييد المدني والعمراني،
وبلا شك أن المجتمعات التي يشكل فيها قطاع الشباب نسبة كبيرة تكون مؤّهلة أكثر
من غيرها للازدهار والنمو اذا ما أفيد من الطاقة الهائلة المودعة في الشباب،
وأمكن استغلال فعاليتهم استغلالاً واعياً، والحضارات البشرية طوال التاريخ
الانساني ما قامت الا بسواعد الشباب، ولكن في الوقت نفسه يجب ألا نغفل ما
يختزنه الشباب من أسلحة فتاكة قادرة على تدمير كل الاشياء الجميلة في الحياة،
واشاعة الاضطرابات الاجتماعية، اذا لم يجدوا فرصهم في التعبير عن كينونتهم، أو
أسيء استغلال طاقاتهم، أو تعرضوا لعمليات تضليل تستفز فيهم النزوعات الشريرة.
فالشعور بالقوة الذي يغمر الشباب في ظل تقلبات نفسية سريعة للغاية وغير محسوبة
يلعب ـ هذا الشعور ـ دوراً تحريضياً على الجنوح نحو العنف والعبث والتخريب، وإن
تنامي هذا الشعور يفضي الى الاستسلام للاغواء، فإذا صاحبه الغنى المادي بما
يوفّر من حظوة اجتماعية واسناد عائلي، أي الاطمئنان بأن نتائج الخطأ مهما عظمت
ستكون غير خطيرة أو مكفولة من جهات أخرى، ستساهم في صناعة شاب متخم بالدناءة
والاحتقار والوضاعة، حيث تصبح كل الخطوط الحمراء قابلاً في أي وقت للاختراق،
وستتفاقم المشكلة حين تتراخى وتترهل آليات الضبط الاجتماعي، وحينئذ يصبح: تحمل
المسئولية، واحترام الآخر، والتعاون، والانضباط، ورعاية الآداب العامة، مجرد
مثل لا تصمد أمام منطق القوة كسلاح فعّال يكتسح به الشباب كل الحدود والمحرمات،
ويحققون به ذواتهم، ويشبعون به رغباتهم.
في المقابل، نحن بحاجة الى أن نبيّن حجم التغيرات التي طرأت على قطاع الشباب،
والمصادر التي ساهمت في التكوين النفسي والثقافي لهذا القطاع، فقبل عقود قليلة،
كان الشاب شأنه في هذا شأن من يكبره أو يصغره سناً، يخضع لعملية تربوية صارمة
داخل الاسرة، التي تكاد تنفرد في سلطانها على الابناء، حيث لم يعهدوا بعد وسائل
الاتصال، والسفر للخارج، أو قراءة المنتج الثقافي الاجنبي، فما زالت الاوضاع
الاقتصادية راكدة تماماً، حيث تنحصر مصادر العيش في الزراعة وصيد الاسماك
والاعمال اليدوية البدائية..
وبعد الثورة النفطية في منتصف السبعينيات من هذا القرن، حدثت تبدلات اجتماعية
عظيمة، استهلت بتحسن الاوضاع المعيشية، تبعاً لتعدد مصادر الرزق، ثم تدريجياً
أخذ التبدل والتغيير يطال كل الاشياء، اذ تصدّع النظام الابوي، بعد تهدّم الهرم
الاسري، فقد بات بإمكان الابناء العيش خارج (البيت العود)، وتوافرت فرص أفضل
للعمل خارج مزرعة العائلة، ومع وصول كمية وفيرة من المال في أيدي الناس، مكنّت
من بناء المساكن الحديثة المعدّة بكامل تجهيزات الراحة من وسائل تكييف، وطبخ،
وتسلية، وراحة، وصار بامكان القطاع الواسع من الناس السفر للخارج، واكتساب
معارف أخرى غير تلك المكتسبة من الاسرة التقليدية، وعادات جديدة غير تلك التي
ورثورها من آبائهم وأجدادهم.
وكان الانفتاح على الخارج من أبرز الظواهر الاجتماعية الجديدة، كشفت عن القدرة
الهائلة للمجتمع على امتصاص وهضم الثقافات والعادات الاخرى، وبطبيعة الحال
تراوحت القابليات على الامتصاص والهضم من قطاع لآخر. فالشباب بحكم تكوينهم
النفسي والنشاطية الدؤوبة على اشباع الغريزة، كانوا الاكثر استجابة وتفاعلاً مع
ممليات الانفتاح، ولغياب البديل المحلي القادر على ابطال مفعول سلبيات
الانفتاح، أصبح الشباب يميلون الى كل أجنبي وإن كان متخلفاً أو منبوذاً حتى في
المجتمعات التي نشأ فيها، وأصبحت ساحتنا وكأنها مرمى نفايات للثقافات الكاسدة،
وليس بظاهرة عبدة الشيطان سوى إحدى هذه النفايات.
وندرك بدون شك أن تركيزاً كثيفاً من أغلب شركات التسلية على الشباب باعتبارهم
اكبر مستهلك لمنتجاتها، وهذه الشركات تساهم في صياغة الثقافة الخاصة بالشباب
(YOUTH CULTURE) ، فهناك ميل دائم لدى المؤسسات الاستهلاكية المتخصصة
تسمح للمراهق بأن يبقى مجذوباً لمجتمع الاستهلاك لأطول فترة ممكنة لأنه يمثل
زبونها الرئيسي فلا بد من المحافظة على هذا السوق وإن كان بتدميره نفسياً
واخلاقياً واجتماعياً خصوصاً اذا عرفنا أن الاشياء المصنعة ليست دائمة بل هي
حسب الموضة واحتياجات السوق في الوقت ذاته مازلنا متقاعسين عن انتاج هذه
الثقافة بما يتناسب مع ذوق وحاجات الشباب.
ولا شك ندرك أيضاً، أن المنتج الاجنبي بطابعه الاستهلاكي دخل كأحد العوامل
الفاعلة في إحداث اختلالات نفسية واجتماعية في أوساط الشباب، ولا شك أن هذه
الاختلالات تخدم السياسة الاستهلاكية التي رسمتها شركات التسلية، حتى أصبح من
أهدافها ضخ المزيد من المنتجات التسلوية المحفوفة بغمام كثيف من الدعاية والتي
تساهم في نهب الشباب الى مجتمع القلق، فالاحصائيات تشير الى أنه خلال العشرين
سنة الاخيرة بدّل نحو 85 بالمئة من الشباب في الولايات المتحدة سلوكياته
بفعل الثقافة الاستهلاكية الجديدة، وأن 80 بالمئة من الشباب في كل من بريطانيا
وفرنسا والمانيا يعيش حالة قلق من المستقبل فيما تتجه أصابع الاتهام الى شركات
التسلية ودورها في انبثاث نوع من الثقافة الاستهلاكية يؤدي في ظاهره الى اشاعة
أجواء مفعمة بالمرح، وفي باطنها الى اخماد جذوة الطموح في داخل هذا القطاع.
ولا شك أن الشباب في مجتمعاتنا هم جزء من سوق الاستهلاك الذي تريد الشركات
الاجنبية الحفاظ عليه بل وبذل المزيد من الجهود لأجل توسعته، فشبابنا يستهلكون
عبر وسائل عدة ما ينتج في الغرب، فالثقافة المبثوثة عبر الفضائيات تعكس صورة
المجتمع الغربي بكل تناقضاته، ويتم عبر هذه الصورة شحن الجهاز العاطفي للشباب،
والتي تنمي ميولات نفسية معينة تساهم بصورة وأخرى في صياغة الشخصية كما تساهم
في تشكيل ملامح ثقافة الشباب، واستطراداً تساهم هذه الفضائيات في تشجيع ميول
التمرد على تقاليد الاسرة والمجتمع، يأخذ التمرد في أحيان كثيرة أشكالاً
راديكالية، كالقتل، والادمان على المخدرات، والسرقات المسلحة، وفي أحيان أخرى
اشكالاً هادئة: كالاستماع للاغاني الغربية الصاخبة بكل هذياناتها، والتسلي
المفرط بالسيارات، والسهر لساعات متأخرة خارج البيت، والعلاقات غير الشرعية بين
الجنسين، وارتداء الملابس الغريبة، واقتناء المجلات الفنية أو الرياضية،
وهذه الاشكال هي في الواقع عبارة عن التعبيرات العلنية لسيكولوجية الشباب وحياة
القلق والفراغ التي يحيا فيها شباب الغرب ويراد نقلها الى شبابنا، ولا ننسى هنا
دور الدولة في الخليج التي فشلت سياساتها الاقتصادية عن استيعاب قوافل
المتخرجين من الجامعات والذين باتوا يرزحون تحت وطأة البطالة حيث تتراوح نسب
البطالة في بعض دول الخليج بين 27 ـ 32 بالمئة كما في السعودية والبحرين وعمان
وبقدر اقل في الكويت والامارات.
في موازة ذلك هناك اضمحلال دور المؤسسات التربوية، وهناك أسباب رئيسية يمكن
رصدها على النحو التالي:
فالتحولات الاقتصادية شبه المفاجئة، تركت تأثيراتها الفاعلة على بنية الاسرة،
حيث بدأت الاخيرة تتعرض لعملية تفكيك هادئة، فقد أصبح بإمكان المرأة الانخراط
في العمل الوظيفي وهذا ساهم الى حد ما في اختلال الاستقرار الاسري، والذي جعل
الابناء عرضة لتوجيهات أجنبية، في مقابل جمود الامهات على أساليب تربوية
تقليدية دون بذل أي عناء في تنمية وعيهن التربوي بالقدر الذي يجبه موجات
الثقافة الاجنبية في التلفزيون والمجلات والسفر..
وهناك أيضاً، دور الأب الذي بدأ يفقد سلطانه بعد ان كان يستحوذ على المجال
التربوي داخل الاسرة، فالأب بما يمثله من مصدر حماية واطمئنان، ومرجعية اسناد
ضرورية للابناء أصبح هو الآخر عرضة للتغيرات، فهناك قسم من الآباء وخصوصاً من
الجيل الذي أفاد من الثروة، وحصل على جزء وفير من المال يمكنه من السفر،
والانقطاع عن الاسرة لفترات طويلة بحثاً عن أماكن اللهو والمتعة، هذا القسم
أتاح للابناء فرص الهروب من الاسرة والتخلص من قيودها، خصوصاً مع غياب الضبط
الاسري وما يشبع رغبة الابناء في البيت، فخرج الابناء على صورة آبائهم، وصار
الابناء تحت رحمة الموجات الثقافية القادمة من كل الاتجاهات، حتى اذا تشبّع
الابناء بهذه الموجات أصبحت الاسرة عاجزة عن إفراغ هذه الموجات واستعادة دورها
التربوي.
تثير هنا صورة الشلل الليلية وهي في الغالب مكونة من طلاب المدارس المتوسطة
والثانوية أو المنقطعين عن الدراسة، هذه الشلل تجوب الطرقات بسياراتها حتى قريب
الفجر، تثير سؤالاً إنكارياً عن دور الوالدين.. فما هي طبيعة المستقبل الذي
ينتظر أفراد هذا الشلل، وما هو نوع المجتمع الذي سينجذب اليه هؤلاء الافراد بل
ما هو نوع المجتمع الذي سيتشكل في الغد اذا كان أبناؤه أشبه بخفافيش الليل؟!.
فلا بد من اعادة نفخ روح المسؤولية في الاسرة، لانقاذ الابناء من الضياع،
فالاسرة حين تتحول الى بنية صلبة متماسكة وفاعلة تصمد أمام التحديات الخارجية،
حينئذ تصبح ـ الاسرة مؤسسة تربوية تحمل على عاتقها مسؤولية تنشئة أبناء
مسؤولين.
ضعف الدور التربوي للمؤسسة التعليمية
مؤسف القول، أن من المفارقات المثيرة للجدل أن بعض مؤسساتنا مازالت تساهم بقصد
أو بخلافه في تركيز بعض العادات المتناقضة مع سياساتها وتطلعاتها النبيلة، وهذا
ما لفت الانتباه اليه باحث عربي في حديثه عن ثقافة الشباب "في مؤسستي الاسرة
والمدرسة ترسخ بعض العادات الثقافية ذات الاثر في التكوين اللاحق لثقافة
الشباب"1 ويمثّل لذلك بعادة اللاقراءة التي تسود أوساط الشباب المتعلم.
ومن المفارقات أيضاً، أنه في ظل اشتداد الحاجة الى تكثيف الجانب التربوي في
التعليم، أصبحنا نتحدث وبصوت مسموع عن الفصل بين التربية والتعليم، وأن حدود
المدرسة تقف عند دور نقل المعلومات، بعد أن كنا فيما مضى من الزمن نشدد على
اعتبار المدرسة مؤسسة تربوية أولاً، بل قد يصاب الانسان بالصداع حين يكتشف أن
في بعض مدارسنا يتعلم الابناء العادات السيئة والكلمات النابية.
وبطبيعة الحال، إن فلسفة التربية في المجال التعليمي لا تقف عند حدود تلقين
الآداب ونشر الأخلاق الفاضلة فحسب، وإنما ترتقي الى مستوى زرع روح المسئولية
داخل الطالب، من خلال تكثيف برامج التوعية التي تسهم في بناء شخصية الطالب
وربطه بالمؤسسة التعليمية ارتباطاً واقعياً وايجابياً، ولا شك أن هذه مسئولية
أطراف عديدة: النظام التعليمي، والمعلم، والاسرة..
وهذا ليس جديداً، فقد خرجت توصيات أكثر من ندوة ومؤتمر تؤكد على ضرورة اعادة
صياغة النظام التعليمي. ففي ندوة الشارقة عن (ثقافة المرأة في الخليج) في مايو
1996 طالبت الباحثات المتخصصات في جامعات دول مجلس التعاون الخليجي والمشاركات
في هذه الندوة، "بإعادة صياغة نظام التعليم في دول الخليج من ناحية المناهج
وأسلوب التدريس وعناصر العملية التعليمية.."2. وفي نفس الشهر انعقد مؤتمر وزراء
التعليم العالي بالجزائر، وجاءت كلمات المشاركين ذات طابع تقويمي تتفق على
ضرورة الاصلاح التعليمي في الجامعات وبخاصة في ما يتعلق بالطاقة الاستيعابية،
وجاء في نص كلمة المدير العام لمكتب التربية العربي لدول الخليج العربية
الدكتور علي التويجري إن هذه الطاقة الاستيعابية "مازالت أدنى من الطلب
الاجتماعي وتفتفر للاساليب التعليمية الحديثة.."3.
غياب المؤسسة
ونحصر الكلام هنا عن النوادي الرياضية، التي يغلب عليها الطابع الترفيهي، ويكاد
يتضاءل فيها النشاط الثقافي. ولا مراء في أهمية النشاط الرياضي بالنسبة للشباب،
بشرط أن يصاحبه نشاط ثقافي ذهني.
وقد لوحظ في السنوات الاخيرة تدني الاقبال والمشاركة في النوادي الرياضية،
والسبب الرئيسي يرجع الى انحباس دور النادي في المجال الترفيهي المحض، وبالتالي
انحباسه ضمن قائمة الوسائل الترفيهية، التي تنوعت وتعددت، فذوت ـ مع انتشارها ـ
مكانة النادي كموقع ترفيهي، بعد حلول الفضائيات وأجهزة التسلية الحديثة،
وتكنولوجيا التسلية المتطورة.
ضعف الضبط الاجتماعي
تلعب البيئة الاجتماعية دورا مفصلياً في ضبط سلوكيات الافراد وتشكيل طباعهم،
فالبيئة تعكس نفسها على شخصية الفرد، وتساهم بشكل كبير في صوغ اخلاقياته وميوله
النفسية والثقافية والاجتماعية، كما توفر البيئة الاجتماعية قوة ردع معنوية
مؤثرة تحول دون اختراق النظام العام، وتهديد الاستقرار الاجتماعي، أو اقتحام
حريم المقدسات الاجتماعية بما فيها العادات والتقاليد الموروثة.
وقد نجادل ـ أحياناً ـ بأن مجتمعاتنا وبفعل امتثالها لتعاليم الدين الحنيف،
تعتبر بيئة صحيّة لتربية أفراد ملتزمين دينياً وأدبياً، وتالياً امتلاكهم
القابلية للرقي العلمي والخلقي، سعياً الى المقاصد الحضارية الكبرى التي
تنتظرهم في بناء المجتمعات المتقدمة.
ولكن، نلحظ في السنوات الاخيرة، أن ثمة تراخياً قد تسرب الى البيئة الاجتماعية
بوصفها وسيطاً صحياً مناسباً للفضيلة والرقي، انعكس في حالات اختراق متكررة
للنظام العام، فيما ضعفت البيئة الاجتماعية عن كونها أداة ردع وكابح للحد
من الاختراقات، وأسباب ذلك عائدة الى تنامي الميول الانعزالية ذات الطابع
الفردي في مجتمعاتنا، وفقدان الأمل في صلاح الحال بعد أن اتسعت رقعة الفساد
وأخذت أشكالاً متعددة في المعاملات التجارية، والعلاقات الاجتماعية، والاخلاق
العامة...الخ
والواقع، أن السبيل الى تقويم الاعوجاج لا يكمن في تسوية مشكلة جزئية هنا،
واشكالية اخلاقية هناك، بقدر الحاجة الى استراتيجية اجتماعية عامة تهدف الى
اعادة بناء النظام الاجتماعي وفق متطلبات متطورة بحسب تطور الحاجات الجديدة
للافراد، مع الحفاظ على شروط وخصوصيات المجتمع، أي بكلام ثانٍ اعادة
تفعيل البيئة الاجتماعية، عبر تنشيط الروح الجمعية، وتحفيز العمل الجمعي،
وتشجيع المؤسسات الاهلية، أي توفير شروط قيام المجتمع المدني الذي يدير ذاته
بذاته، ويوفر ذاتياً الوقاية المطلوبة لأفراده، بما يحقق مقومات النهوض كيما
يعمل المجتمع على تسوير داخله وتحصين أفراده، وتالياً تحوّله الى مصهر تربوي
للافراد.
الهوامش
1 - د.أحمد عبد الله ـ ثقافة الشباب في الوطن العربي ملامح الحاضر واستشرافات
المستقبل، بحث منشور في مجلة (شؤون عربية)، أيلول/سبتمبر 1986 ـ محرم 1407هـ
عدد 47 ص 126
2 - الشرق الاوسط ـ العدد 6385، الاربعاء 22/5/1996
3 - الشرق الاوسط، 21/5/1996