gulfissueslogo
التحولات الاجتماعية في الخليج دلالاتها السياسية وتحديات المستقبل
د.فؤاد إبراهيم

 تجتذب دراسة التحولات الاجتماعية من منظور مولداتها ومدياتها وأشكالها وبخاصة المتبدلة منها أهمية كبيرة في تشخيص العوامل الفاعلة في التحول الاجتماعي وآليات هذا التحول، زد على ذلك الظواهر الجديدة المصاحبة للتحول والتي تصبغ مجتمعاً ما لفترة من الزمن أو تستحوذ عليه  لفترات طويلة.
 
وسنميز بادىء بدء في ضوء ما سبق بين نوعين من التحول الاجتماعي: داخلي/ طبيعي يمارس المجتمع عبره عملية التحول في هياكله الاجتماعية والثقافية والاقتصادية مرتكزاً على مخزون ثقافي واسع مستوعباً النظام المعرفي والتراتبيات الاجتماعية والامكانيات الاقتصادية وطرق الانتاج المتبعة والعادات والتقاليد والقيم وكل ما يضطلع في تشكيل هوية المجتمع، أي رؤية هذا المجتمع لذاته وللعالم من حوله ولغاياته الكبرى، وبالتالي فإن هذا المجتمع يمارس سلطانه الكامل على تحوله الذاتي.
 
والتحول الآخر: خارجي (= من الخارج)  يتم وفق شروط ومواصفات لتحولات خارجية قد تختلف جزئياً أو كلياً عن شروط التحول الداخلي الذاتي. وفي كل الاحوال يصبح المجتمع مرتهناً للتحول القادم من الخارج في سرعته وحجمه، وشكله فلا سلطان لهذا المجتمع على مارد هذا التحول الغريب، وما ينشأ عن ذلك من انكسارات نفسية وعقدية.
 
والحال، فإن مثل هذا التحول ـ الخارجي، يدهم مجتمعات تعيش على تخوم حركة تبدلات كبرى عميقة في العالم الخارجي، تضرب بتياراتها العنيفة المنظومات المعرفية للمجتمعات الاخرى الخاضعة لتأثيرات تلك الحركة لتدشن سلسلة مراجعات للذات (لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟) ومقارنات (بين التراث والمعاصرة، بين الانا والآخر، بين القديم والجديد..) وانقطاعات (الابحار في سياق تاريخي ومعرفي جديد مفصول عن السياق الماضي) وانكسارات (الانبهار بمنتوج الآخر، والتسليم بقدرته على حل مشكلاتنا المزمنة كتعبير عن الاحباط العميق بداخلنا والعجز عن النهوض الذاتي بواقعنا وصولاً الى تمثل سيرة الغالب المنتصر).
 
وسعياً الى فهم الواقع الاجتماعي الحالي، فإن صورة التحول قد لا تبدو واضحة، لمن يبتلعه تيار التحول وبالتالي قصوره عن  فهم الخلفيات التي تغذي وتوجّه مجريات هذا التحول، ولذلك فإن المجتمع قد يشهد تغيرات نوعية جوهرية ولكن لا تفضي في الظاهر الى تمثًلات في الفكر أي لم تطل مباشرة الاساسات الذهنية، بمعنى آخر قد يحدث التحول القادم من الخارج تغييراً عظيماً في سلوك المجتمع أو قطاع كبير منه، ولكن ليس بالضرورة أن يترك تأثيراً مباشراً وعاجلاً في الفكر،على أنه بالتأكيد يستبطن طيفاً من الاسئلة تتراكم بمرور الوقت كلما اتسعت وتزايدت التغييرات السلوكية وصولاً الى تغييرات كبيرة في الاساسات الذهنية، تتمظهر في عملية اختلالات في المنظومة الثقافية ونظام القيم وطرق المعيشة وأنماط التفكير وشبكة العلاقات الاجتماعية.
 
وكتمهيد للحصول على صورة تقريبية لمجرى التحول الاجتماعي في منطقتنا الخليجية، وقد تتسع الصورة لمناطق أخرى، يمكن القول قبل ذلك ـ أي قبل التحول ـ أننا وبالرجوع الى الاوضاع الاجتماعية القبلية كان الوجود برمته ساكناً في الوعي العام، ويكاد يختزل نظرة الانسان للكون عند حدود المعرفة الموروثة، ثم الرتابة الكسولة في التفكير واللهاث وراء تأمين الحد الادنى للعيش (قوت من لا يموت) كتعبير من جهة عن الصراع من اجل البقاء، ومن جهة أخرى عن قصور هذا الانسان عن وعي ذاته فضلاً عن جهله التام بقدرته على التغيير في واقعه الفردي والاجتماعي فلا مكان للابداع والمغامرة والتطلعات البعيدة، وروح المسؤولية الفردية والاجتماعية، وسرعة المبادرة، كشروط ضرورية في عملية التغيير..وباختصار، ثمة غياب تام للوعي في المستوى الفردي والجماعي في موضوعات الحياة، التي لم تكن مندرجة من رأس في الاجندة، وكان الزمن يسير بإيقاع بطيء يبعث على الضجر، وإن تطلب استعمال أقصى المجهودات العضلية كتعويض عن عطالة العقل.
 
هذا السكون كان متواصلاً طالما أن شروط التحول الذاتي في هذا المجتمع لم تتحقق، فأينما نظرت لا ترى سوى عجزاً مزمناَ وعميقاً ينعكس في جزء هام منه في الغياب التام عن وعي حركة التاريخ أي العيش في مكان خارج دورة التاريخ بل وخارج دورة الزمن، فلسنا معنيين بما جرى ويجري خارج السور طالما أن ذلك لا يقلق سباتنا أو يهدد لقمتنا، ينضاف الى ذلك قصور الوعي العام وما يستبطن من اشكال مروعة، فتارة يتخذ هذا القصور شكل نسيان الانسان لذاته، أي أنه يتصرف لا على اساس تميّزه الخلقي وأنه سيد المخلوقات، وتارة يتخذ شكل افتقاره لأي تصور حول ذاته، من هو؟ ولماذا ولد؟وما هو دوره؟ وماذا يريد؟ وكل الاسئلة التي تدخل في تشكيل رؤية الانسان لذاته، وتارة ثالثة يأخذ شكل احتجاب عالم ما وراء السور عن الرؤية، فكل قرية وربما حارة تمثل المجال النهائي في وعي سكانها، وليس غريبا أن يكون تمييز المجال الخاص متوقفاً على فضول انسان القرية والحارة وبحثه عن مواقع أخرى للرزق فهو لا يدرك إن كان هناك مناطق اخرى خارج حدود حقل معاشه، وهو في آن عالمه الكامل أو طالما لم تأته رسل تلك المناطق، فيعرفونه بأنفسهم. بالطبع هناك استثناءات وهناك من سيواجهني بقائمة مملة من النماذج المضادة، وسأوفر الوقت والجهد بالقول أننا لا نقف في رؤيتنا عند سطح الازمة ونهمل عمقها وجذورها الضاربة في ذاكرتنا التاريخية، ووعينا السياسي، ونشاطنا الاقتصادي، ونظامنا الاجتماعي، فالأزمة ليست في هجرة فلان وقدوم علان، ولا بالكم والعدد، وإنما بما تحدث من تطوير في حركتنا العامة أوتسرّع في وتائر نمو معارفنا، وتقدمنا الحضاري.وهذا ما أعنيه على وجه التحديد باحتجاب الرؤية.
 
وعلى اية حال، كان الفراغ واسعاً، وفي نفس الوقت كانت الفرص مؤاتية لملئه بأي شيء وبأي طريقة، فجاء عصر البترول، بتحولات جوهرية كبيرة في الواقع الاجتماعي، ووضع حجر الاساس لمجتمع مضاد يعاد تشكيله في المصهر البترولي بكل ما فيه من عناصر جديدة، وتفاعلات متنوعة، أي بما يحدث من تبدلات فوقية، في نظام التفكير، وتحتية في نظام القيم والعادات وطرق المعيشة والانتاج.
 
وكان للمجتمع المضاد المتشكل في عصر البترول ما يكفي للاكتساح، فهو يخضع لمعالجات متطورة وفاعلة، بدءا من التعليم الحديث والفرص الثمينة في تحسين العيش والعمل المريح، وامتلاك المسكن الراقي، اضافة الى الضمانات الصحية والاجتماعية التي يفتقر اليها المجتمع التقليدي.
 
بكلام آخر، أحدث عصر البترول طفرات مفاجئة مولّدة طيفا من الاختلالات والانقطاعات، فمن الفقر المدقع الى الغنى الفاحش، ومن العزلة التامة الى الانفتاح المطلق. لقد حدثت تبدلات كبرى في الاوضاع الاجتماعية، وهي تبدلات تسببت في قطع الاواصر بين الاجيال مسفراً عن (صراع الاجيال)، متمظهراً في غياب اللغة المشتركة في التفاهم والتعامل والتفكير، وايضاً غياب التطلعات المشتركة، والهموم المشتركة، والاهداف المشتركة، وفي نهاية المطاف ثمة تغييرات تحفر عميقاً في واقع المجتمع وتعيد تشكيله وصياغته وفقاً لبيئة وشروط ومحفزات جد مختلفة.
 
ومن زاوية نظر أخرى، فإن التحول أخذ منذ تدفق الثروة ينطلق بوتائر متسارعة ويعصف بكل البنى القديمة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وكانت هناك حاجة الى كوابح للحد من سرعة التحول وأضراره المحتملة، فهناك عالم جديد يقذف بعالم قديم ويستوعب بحضوره الكلي والصارم كل البنى القديمة اجتماعياً واقتصادياً وفكرياً وأيضاً سياسياً.
 
إن عصر البترول لم يسهم فحسب في تبديل وجه المجتمع وصبغته الاقتصادية، أي تحويله من مجتمع زراعي الى مجتمع نفطي (لاصناعي)، ولكنه بدّل ايضاً التراتبية التقليدية السائدة في المجتمع المؤسسة على نمط معيشي محدد، كما بدل النظام المراتبي، والنظام القيمي، وأحدث تغييراً كبيراً في العادات والتقاليد.
 
وليس خافياً، أن إزاء هذه التغييرات الجوهرية كمسار اصطناعي يخضع المجتمع لعملية تجديد قسرية، لا بد من العبور بالمجتمع من الممر الطبيعي، أي إحداث تبديل في قاعدته الفكرية واعادة تشكيلها، وفقاً لشروط المرحلة الجديدة ومتطلباتها، وأن اختفاء أو تأخر التبدلات الفكرية لا يعني بتاتاً عدم وجودها، فهي تفعل فعلها في مكان آخر، أي في الاعماق وتمارس عملية تفكيك هادئة وطويلة المدى للقواعد الفكرية ومن ثم فهي تعول في تمسرحها على توفر الشروط المناسبة، ومنها تحرر الوعي العام.
 
في المدرسة يتعلم المجتمع المضاد العلوم الحديثة، الرياضايات، والكيمياء والفيزياء، واللغة الانجليزية، والآداب،والتاريخ، والجغرافيا، وهي مواد تصب في ذاكرة أبناء هذا المجتمع وفتحت أعينهم على معارف ليست مقتبسة في جزء هام وكبير منها من الموروث الثقافي للمجتمع، وأصبح اتقان هذه العلوم الشرط الرئيسي للرقي والتقدم على المستوى الفردي والمستوى الاجتماعي، إذ لا سبيل امام الافراد من اجل تحسين أوضاعهم المعيشية سوى الانغماس في العلوم الحديثة واتقان فنونها، ولكن ما هو أهم من ذلك أن هذه العلوم تقوم بعملية قطع مع الموروث، الذي يوجّه المجتمع لرؤية الوجود، والاشياء، في مقابل رؤية مستحدثة تصدر عن العلوم الحديثة الطبيعية والانسانية.
 
واجمالاً، لقد شهدت مجتمعاتنا تحولاً شاملاً منذ دخولها عصر البترول، تمظهر ـ هذا التحول، في انتشار التعليم الحديث، وسرعة الرقي العمراني، والتنامي المتسارع للطبقة الوسطى، والمكننة النشطة في الحقلين الصناعي والزراعي، والانفتاح الاقتصادي والاجتماعي على الخارج، والاتصال الثقافي عبر السفر ووسائل الاتصال الاعلامي (الراديو، التلفزيون، المجلات) والتي ساهمت هذه مجتمعة في احداث تبدلات سلوكية جوهرية في حياة المجتمع.
 
وبكلام آخر، جرت عملية قلب للارض، في هيئة خفض ورفع في النظم الاجتماعية والاقتصادية والفكرية القائمة، وانبثاق نظم بديلة، تتشكل في الازمنة الحديثة، وبتأثير مفاعلات التحول الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فمع تبدل وسائل الانتاج وطرق المعيشة تنهار فئات اجتماعية تقليدية، لحساب فئات حديثة برزت في ظل برامج التنمية والتحديث الاقتصادي، وتبعاً له انهار النظام المراتبي في المجتمع، إذ كسر التحول الاقتصادي احتكارية العوائل التقليدية الثرية، سيما تلك العوائل التي وجدت نفسها عاجزة عن مواكبة شروط التحديث، وتسمرت في سياق وظيفي بدائي، لا يصمد أمام حركة الصناعة في سرعتها الهائلة وتطورها المذهل، فأصبحت وجوداً طرفياً ذا تأثير ضعيف، فيما ظهرت عوائل جديدة تنبهت الى مجريات التحول الاقتصادي وأفادت من فرص وامكانيات الاوضاع الاقتصادية الجديدة، وسلكت الخط السريع للثروة والوجاهة، استطاعت أن تبني لنفسها كيانات اقتصادية راسخة، ومن جهة أخرى، لعبت الشركات النفطية والصناعية في تهميش دور العوائل الثرية التي كانت تحتكر الانشطة الاقتصادية التقليدية في مجالات مثل  الزراعة والحرف اليدوية وبعض الصناعات البدائية البسيطة.
 
وعلى المستوى الثقافي، أفضت الاوضاع الاقتصادية الجديدة وما رافقها من انفتاح كبير على الخارج، لبدء برامج التنمية والتحديث بدءا من قدوم الشركات الاجنبية، وتالياً استقدام الخبرات والعمالة الوافدة بأعداد كبيرة مروراً بتدفق التكنلوجيا في سيل هائل من الاجهزة الكهربائية والالكترونية، وانتشار وسائل الاتصال الحديثة (التلفون، التلفزيون، الراديو، السيارات، الطائرات، السفن، القطارات) والسفر للخارج، والبعثات التعليمية، هذه وغيرها من معطيات ساهمت ايضاً في كسر احتكارية التوجيه المحلي، وأصبح التكوين الثقافي للافراد والفئات الاجتماعية يخضع لمصادر توجيه متعددة، وكان من الطبيعي أن تتسرب بعض الثقافات الاجنبية للداخل، بما يضعف من تأثير مصادر التوجيه المحلية، ومن الطبيعي أن تغذي هذه الثقافات ميولات سياسية متنوعة وأحياناً متنافرة، وقد تأخذ شكلاً تنظيمياً.
 
وما يجب أن نلفت الانتباه اليه، أنه في الوقت الذي لعبت مصادر التوجيه الثقافي الخارجية في تهميش دور التوجيه المحلي، فإنها رهنت المجتمع لكل التبدلات التي تمر بها، ولم يعد المجتمع في منأى عن تأثير تلك التبدلات، سياسية كانت، أو ثقافية، أو اقتصادية.
 
لقد صدقت عملياً مقولة المجتمع الاستهلاكي الذي يكاد يحتوي كل المجالات، بما في ذلك المجال الثقافي فقد راح الجميع يستهلك الافكار المستوردة، التي أصبحت تغذي الذاكرة الجماعية، وتراهن على محو المخزون الثقافي الموجود، وأصبح الوعي العام أسيراً لكل المنتوجات الثقافية المبثوثة عبر المحطات الفضائية، منعكساً في نبذ الواقع واعتزاله كأحد اشكال الاحتجاج الصامت ومتمظهراً في هيئة اللباس وقصات الشعر، وحتى في اختيار نوع العطر.
 
إن التحول السلوكي بدأ يأخذ منذ وقت قريب هيئة تحول فكري خطير، فالتغير الكبير في البيئة الاجتماعية لا يعدو كونه سوى مؤشراً بارزاً على احتمال تبلوره في تيار فكري احتجاجي، سيوجه صدماته للقواعد الفكرية وحقل اليقينات، وهذا التحول المشدود بالخارج يستمد قوته ومبرره من احباطات الواقع، الذي يضيق ويتسع حسب قوة وشائج الصلة بأجزائه القريبة والبعيدة، كما يستمد قوته ومبرره أيضاً من نجاحات الخصم، وتمثيلاً فالتفوق الغربي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واحباط مفعول القوى الاقليمية والدولية المناهضة للغرب والولايات المتحدة وتحديداً منذ بدء عقد التسعينيات أفضى الى تبلور اتجاه نقدي عنيف في المنطقة يمارس عملية جلد قاسية للذات عبر مراجعة انتقامية للتراث وتحميله مسؤولية كاملة لكل الانهيارات التي شهدتها المنطقة، وهذا الاتجاه تنامى بعد انسداد أفق الحل اقليمياً ودولياً، وبدأ ينادي بصوت مسموع الى الابحار في النظام العالمي الجديد بكامل حمولته: عبر اصلاح القوانين المدنية (الحريات العامة، قوانين الجزاء) واصلاح النظام الاداري (في التوظيف، الاسواق العامة، والبنوك المركزية)  واصلاح النظام الاقتصادي (تنظيم الضرائب، وسن تشريعات السوق، وفتح الاسواق)، وهذه الاصلاحات كفيلة بأن تحدث تغييراً جوهرياً في المجالات الاخرى السياسية والثقافية، وبكلمة أخرى يطالب هذا الاتجاه بأن ينداث الشرق في الغرب وأن يتحول الى جزء منه كيما يضمن  مقعداً له في قطار العولمة.
 
قد تبدو هذه الرؤية متشائمة جداً بالنسبة للبعض، كونها تصدر عن تحليل سلبي وفي ظاهره انهزامي للاوضاع الاجتماعية، ولكني، مع ذلك، أعتقد أن تشريح الواقع واكتشافه يتطلب قدراً كبيراً من الجرأة والصرامة أحياناً، ولكن بشرط معرفة كيفية التعاطي معه وتهيئة الشروط الضرورية للتحكم ولتنظيم مسارات التحول القادم من الخارج، وعند ذلك يصبح كل شيء ممكناً.
 

صورة المستقبل


 
 
 
في هذه الحقبة التاريخية الحرجة، ندخل طوراً جديداً وخطيراً من التحول، فهناك على حد جاك أتالي الخبير الاقتصادي الفرنسي مؤلف (ملامح المستقبل) سوف يعاد تنظيم  العالم حول مجالين عملاقين ـ المجال الاوروبي والمجال الباسيفيكي ـ وتأسيساً على هذه النزعة تتسارع الخطى من أجل بناء خارطة المستقبل، خارطة تكاد تتلاشى فيها الحدود الجغرافية، والخصوصيات الثقافية، والهويات القومية، بفعل التكنولوجيا المستقبلية المعقدة، بما يجعل من التماسك والانسجام الاجتماعي أمراً في غاية الصعوبة، ففي عام 2010م سوف يربط القطار السريع جداً بين باريس وموسكو، حيث لن تستغرق هذه المسافة أكثر من خمس ساعات فقط، ويعكف كثير من الخبراء وشركات المواصلات في اليابان وأوروبا والولايات المتحدة على وضع خرائط لشبكة قطارات عابرة للقارات تقترب في سرعتها سرعة الطائرات.
 
أما في مجال التقانية الاتصالية، فالحديث عن القرية الالكترونية بات أقرب للواقع منه للخيال العلمي، فنحن من جهة في عصر يطلق عليه بالعصر التلفزيوني، يتحكم فيه عدد قليل من مالكي الامبراطوريات الاعلامية في العالم، ويتخذ من أوروبا والولايات المتحدة مركزاً له،  فمنظومات المحطات التلفزيونية الفضائية التي أصبح من اليسير الحصول عليها من قبل شعوب العالم عبر الصحون المتوفرة حالياً بأسعار رخيصة، تبث ـ هذه المنظومات على مدار الساعة وبلا توقف ثقافات وقيم ورؤى لشعوب الغرب، بما يجعل الوقت بكامله مملؤا لحساب هذا المارد الجبّار، الذي يمارس عملية اغتصاب بشعة للوعي العام، عبر طيف من البرامج التي تعكس طرق حياة شعوب تختلف أو تتعارض جزئياً أو كلياً مع شعوب أخرى كشعوبنا. فالتلفزيون اليوم لم يعد وسيلة محايدة أو أداة تسلية، فهو يمارس أدواراً عدة فهو: يصنع وعي الجمهور بالاحداث، ويصوغ نظراتهم للاشياء، ويضع أجندة الافراد ويرتب أولوياتهم، اضافة الى ما يحدثه من اضطرابات اخلاقية وتبدلات سلوكية كبيرة، فهو ـ أي التلفزيون ـ مربية الكترونية للصغار، ومعلم ممتاز للكبار...فالبث التلفزيوني الواسع النطاق يتدفق عبر الفضاء ويخترق البيوت والقلاع المحصنة، ويصنع احلام وأوهام الجمهور، الذي يصبح بمرور الوقت قوة احتجاجية مدمرة، بحثاً عن الطريقة الخيالية للصورة المبثوثة عبر الشاشة الصغيرة، تماماً كما تفضي الالعاب الالكترونية المسلية الخاصة بالصغار، والمحمّلة بصور ومناظر عدوانية تشجّع على ارتكاب أبشع الجرائم. وجاءت شبكة الانترنت لاستكمال بناء القرية الالكترونية التي ستقفل ابوابها على سكانها نابذة كل مصادر التوجيه المحلي، مشكلة مجتمع بلا هوية وطنية ومقطوعة جذوره الثقافية والتاريخية.
 
وفي المجال الاقتصادي، ستكون الاستعانة بالتكنولوجيا المتطورة خياراً كاسحاً تتظافر فيه جهود شركات تجارية عملاقة  وخبرات علمية متقدمة، من أجل إرساء نظام اقتصادي دولي موحد يتمحور حول الغرب الرأسمالي، مؤسساً على ربط اقتصاديات شعوب ودول العالم بالاقتصاد الرأسمالي الغربي، عبر اقتصاد السوق، المدعوم من ترسانة الاعلام والقوة العسكرية والتحالفات السياسية المعقدة  والاندماجات الكبيرة بين شركات عملاقة.
 

هل من سبيل للخروج؟


 
 ثمة رهان كبير لدى نخبة من  الاستراتيجيين والمفكرين في الغرب على وصول شعوب العالم الى قناعة بجدارة النموذج الغربي، بمعنى جدارة الحياة الغربية كما تنقل عبر الشاشة، وقد سمعنا عن  الدعوات المتكررة للبلدان الشرقية من قبل قادة الغرب بأن تحذو هذه البلدان حذو خصمها التاريخي وتمثل سيرته، في التأسيس للبنات المجتمعات المدنية واقامة المؤسسات الديمقراطية، والتوسل بخيار اقتصاد السوق، ونقد الايديولوجيا المسيطرة والتخلي عنها لحساب الليبرالية الغربية، وتبديل النظم السياسية.
 
وفي اعتقادي أن هذه التدابير ليست مقتصرة على البلدان الشرقية ـ الاشتراكية، وإنما هي تمثل في جوهرها شروط الغرب في تغيير وجه العالم، ويزيد في تعزيز هذا الاعتقاد ما ورد في خطاب الرئيس الاميركي كلينتون فور فوزه بالدورة الرئاسية الاولى، حيث أكد على نجاح الخيار الليبرالي ودعى الى تدويله. فهذا الخيار الأوحد كما يراه الغرب يصبح ضرورياً لشعوب العالم، والا فإنها "ستنتهي في وقت قريب الى الانهيار والزوال". على حد جاك اتالي.
 
بيد أن من المغالاة التعويل بصورة كاملة على الخيارات القهرية، فذلك خلاف الطبيعية البشرية، زائداً إنه ليس من باب تسلية النفس أو بالاحرى خداع الذات، القول بأن هناك فراغاً خفياً في وعي الانسان بالمستقبل، بمعنى أن طاقة الانسان على التنبوء محدودة للغاية، كما أن هناك في الوقت نفسه الكثير من المفاجئات، والاحداث غير المتوقعة في جوف المستقبل.
 
على أن هذا القول لا يثني عن التعامل مع الواقع كما هو، أي بما هو مجال لفعل الارادة البشرية، أما ما هو خارجها فذلك لا مجال للسيطرة عليه أو التحكم فيه. ولذلك فنحن هنا نتعامل مع أرقام وحقائق محسوسة ندرك من خلالها حاضرنا ونستشرف بها مستقبلنا.
 
وما يجب الفات الانتباه اليه، أن تحولاً كبيراً حسب المعطيات الراهنة يشهده العالم حالياً، ويراد لهذا التحول أن يعيد تجميع القوة في قبضة الغرب (=أوروبا والولايات المتحدة)، وسيخضع بلدان العالم لعملية استتباع شامل، وسيجرّد هذه البلدان من كافة وسائل القوة الضرورية، بما يحيل شعوب العالم الآخر الى مستهلكين جدد للمنتج الغربي: تجارياً، اعلامياً، عسكرياً، ثقافياً، وسياسياً، فيما سيتحول الغرب الى مجرد صانع أزمات وحلال مشاكل لبلدان العالم الآخر.
 
إن البحث عن حلول سحرية يصبح مجرد اعانة اضافية على تسريع وتائر التحول، الامر الذي يعزز من ايجاد حلول واقعية للمشكلة، فهناك خطوط عريضة لمجابهة أخطار التحول القادم، يمكن ايجازها على النحو التالي:
 
ـ مراجعة شاملة وجريئة لوعينا الثقافي وذاكرتنا التاريخية، سعياً الى فهم واقعنا وبحثاً عن أسباب نهوضنا، فهناك معوقات ثقافية تساهم بدرجة كبيرة في انحباسنا ضمن أفق ضيق في التفكير والعمل، ولا بد من تحرير هذا الوعي من كل معوقات النهضة مسترشدين بالسيرة الحافزة، ودحض كل المبررات الوهمية التي تحول دون صحوتنا، وهذه المراجعة اذا ما تمت كفيلة بأن تحد من التأثيرات السلبية للموجات الثقافية الاجنبية القادمة عبر المحطات الفضائية، شريطة أن تضع المراجعة الاصبع على مشكلاتنا الحقيقية، وأن تتسلح بجرأة كبيرة في نقد ماضينا وحاضرنا، وفي نفس الوقت قادرة على توفير حلول مناسبة لتسوية تناقضاتنا العاجلة والآجلة.
 
ـ تصفية النزاعات الداخلية: ثمة نزاعات داخلية تحركها عوامل اجتماعية وسياسية وايديولوجية، أفضت الى تصدعات في بنية المجتمع، وباتت تنذر بانهدامات خطيرة، تلك النزاعات القائمة على اساس الفروقات القبلية، أو الانتماءات الحزبية المتنوعة، أو الاختلافات المذهبية.
 
ـ إرساء تقاليد للحوار: فقد بات الحوار خياراً جماعياً وضرورة  من أجل سلامة المركب ومن ثم سلامة الركاب، ويجب تعميم هذه التقاليد على البيت، والحي، والمعمل، والسوق، والمسجد، والنادي فتصبح لغة الحوار حاكمة بين كافة فئات المجتمع، وبين المجتمع والدولة، إذ لا سبيل سوى الحوار من أجل احباط مبررات العنف والتطرف والجريمة والتخلف.
 
ـ  بناء الثقة: فقد دفع الجميع ثمناً باهضاً بسبب انعدام الثقة، دفعناها من أمننا الفردي والاجتماعي والوطني، ودفعناها من امكانياتنا الاقتصادية، وقدراتنا البشرية، ودفعناها من استقرارنا السياسي، ودفعناها من تطورنا العمراني، وبات الكل يبحث عن مصادر ثقة أخرى وفي الغالب خارجية، وهي مصادر ليست حريصة على مصالحنا، بل مصلحتها في استمرار تمزقنا وتشظينا.
 
إن بناء الثقة يستند على استشعار أخطار غياب الثقة، والاستعداد المبدئي على ازالة اسبابها، ولعل من هم أهمها: الانحباس ضمن دوائر انتماء ضيقة: اقليمية وايديولجية وقبلية، واعتبار هذه الدوائر المجال النهائي الذي يتحرك فيه الافراد، ويحققون فيه ذواتهم، ويلبون فيه طموحاتهم فيما الضروري يكون باندياث هذه الدوائر في دائرة الانتماء الاكبر أي دائرة الوطن. لقد شهدت مجتمعاتنا انفتاحاً على الخارج دونما ضوابط أو شروط أو معوقات، فيما أهملت الانفتاح على الداخل، أي انفتاح المجتمع على نفسه، بمناطقه، وطوائفه، وقواه الاجتماعية.
 
ـ بث ثقافة نهضوية شاملة، تساعد على اكتشاف طاقات أبناءنا وتوجيهها في خدمة مشروع البناء الحضاري لبلداننا، وتزرع روح المسئولية في كل أبناء المجتمع لجهة تكريس الجهود الفردية والجماعية للانخراط في مشاريع التنمية، وسن قوانين جزائية صارمة من اجل القضاء على الفساد الاداري المتسرب الى مؤسساتنا التربوية والاقتصادية، ومنح المخلصين وأصحاب الكفاءات العالية فرص المشاركة في البناء والاعمار، وتوفير الحوافز الضرورية من اجل تشجيع أصحاب رؤوس الاموال على استثمار أموالهم في مشاريع اقتصادية تنموية تساهم في حل مشكلات راهنة كالتوظيف، كما تساهم في بناء مستقبلنا الاقتصادي.
 
 
 
 

copy_r