gulfissueslogo
المدن الخليج واعتلاع الجذور
المدن الجديدة في الخليج العربي و”الخلل السكاني”
عمر الشهابي

يطرح الكاتب رؤيته حول بناء المدن الجديدة في الخليج في مقالين "المدن الجديدة في الخليج والخلل السكاني " و "إقتلاع الجذور"

يشكل الوافدون جزءًا كبيرا من سكان الخليج، لكن قلما يُتَطرَق إليهم في الإعلام. زاد عدد الوافدين بشكل هائل في دول المجلس التعاون على مدى السنوات الأخيرة، فكانت نسبة نموهم السنوية أكثر من ضعف نسبة النمو السنوية للمواطنين، حيث ارتفعت أرقامهم من حوالي عشرة ملايين في عام 2000 إلى ستة عشر مليون في عام 2008. أصبح الوافدون يشكلون الأغلبية من السكان في أربعة من دول المجلس (الإمارات والبحرين وقطر والكويت). في قطر، على سبيل المثال، زاد عدد الوافدين من 400 ألف إلى حوالي مليون ونصف نسمة بين 2000 و2008، مشكلين بذلك ما يقارب 90% من سكان الدولة. من اللافت للنظر أيضا أن نسبة العرب من بين الوافدين في دول مجلس التعاون في انخفاض مستمر، فمن حوالي 75% قبل عام 1975، تدنت نسبة العرب الوافدين إلى الثلث بحلول عام 2004.
إذا أصبح الوافدون عنصرا رئيسا في مجتمع الخليج العربي ومدينته، وأصبحت ظاهرة ما يسمى محليا “بالخلل السكاني” قضية مصيرية تثير العواطف من كل الاتجاهات. فهناك من ينظر إلى حالة الوافدين في دول الخليج مثالا لأسوء أنواع العنصرية والاضطهاد التي يتعرض لها المهاجرون عالميا نظرا لتدني حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فيما هناك من ينظر إلى “الخلل السكاني” من الطرف الآخر بأنه خطر مصيري يهدد هوية  شعوب المنطقة وأمنه.
الحقيقة أن “الخلل السكاني” هو اعتداء على حقوق المواطنين والوافدين معا، وهو ناتج في الأساس من منظومة اقتصادية-سياسية تعامل البشر عامة بوصفها سلعة، وهذا هو ما أحاول تبيانه في كتاب اقتلاع الجذور،  حيث وُظِّفت التركيبة السكانية بشكل أساسي لخدمة متطلبات رؤوس الأموال والمصالح السياسية لمتخذي القرار. على صعيد المواطنين، أدت العوائد النفطية إلى فك الاعتمادية التاريخية من متخذي القرار على شعوب المنطقة في تزويدها بالعوائد المالية، وهُمِّش دور المواطنين على المستوى العمالي عبر تقليص الاعتماد عليهم في أغلب القطاعات المنتجة، حيث تركز توظيفهم في القطاع الحكومي أساسا. في المقابل، مكن ريع النفط متخذي القرار من إضفاء وحصر مزايا الدولة بشكل رئيس على المواطنين، حيث زادت الاعتمادية على الدولة لتلبية أغلب احتياجاتهم بدءا من الرواتب وصولا إلى السكن وحتى الدفن، ورُبِطت هذه المزايا بالولاء  لرجال الحكم.
على صعيد مواز، لٌبِّيَ الطلب المتزايد للعمال عبر استقطاب الأيدي العاملة الأجنبية  بشكل موسع، ولكن سُيطِر على هذه الفئة عبر قوانين وتشريعات قيدت قدرتهم على بناء النفوذ والاندماج الاقتصادي أو السياسي، وجعلتهم في حالة من “عدم الاستقرار” والتغير المحتمل الدائم. فمع تطور الفترة أصبحت نسب الوافدين غير العرب تزداد، التي نظر إليها بأنها أقل تكلفة وأقل خطرا سياسيا وأمنيا من نظيرتها العربية. وهكذا أصبح الهدف الأساس للتركيبة السكانية في دول الخليج  هو توظيفها لخدمة متطلبات رؤوس الأموال المستثمرة والفئة التي تتحكم فيها، حيث أصبحت المنطقة أقرب إلى معسكر عمل، توجهها الرئيس يتمحور حول تدوير عوائد النفط والتغيرات الاقتصادية المتسارعة، من دون أن تتبلور قوة اقتصادية-سياسية سواء للعمال المواطنين أو الوافدين.
وصل حال الخلل السكاني بأن برزت مع بدء الألفية الجديدة ظاهرة غريبة في دول المجلس هي لعلمي فريدة عالميا. في الفترة الممتدة من 2000 الى 2008، انشغلت دول المجلس بالتخطيط والتفعيل لتشييد مدن ضخمة وجديدة كليا كانت تشكل وتبنى من الصفر. الأموال التي انصبت في هذه المشاريع كانت خيالية، حيث وصلت القيمة المعلنة لها إلى 1.2 تريليون دولار ( أي 57%) من إجمالي قيمة المشاريع المعلنة في المنطقة عام 2008. إن أكبر عشر مشاريع في دول الخليج من ناحية القيمة كلها من النوع العقاري الضخم، وتقدر قيمتها بحوالي 393 بليون دولار أمريكي .هذا التوسع العقاري جاء ضمن خطط مدروسة لجعله في قلب الرؤى الحكومية المستقبلية للمنطقة، فجُيِّيشت الموارد والخطط لجعلها في صلب برامج الدولة، حيث سيطرت على أهم مخططين وضعا لرسم المسار الاقتصادي والجغرافي المستقبلي، وهما الرؤى الاقتصادية لهذه الدول والتخطيط الهيكلي لمدنها. فظهرت رؤية البحرين وأبوظبي وقطر 2030 وغيرها، بالإضافة إلى التخطيطات الهيكلية لهذه المدن الجديدة. أدت الزيادة المتوقعة في السكان والمشاريع العقارية إلى الإعلان عن صرف هائل على البنية التحتية، بما في ذلك مشاريع طاقة تقدر ب 134 بليون دولار، وخدمات مياه ومجاري تقدر بحوالي 40 بليون دولار أمريكي.
 ونظرا لانخفاض عدد المواطنين نسبيا في دول المجلس، ما كان لهذه المدن الجديدة والمشاريع العقارية العملاقة أن تنجح إلا باستقطاب أعداد متزايدة من الوافدين المقتدرين لسكنها. أُعلِن عن حزمة من القوانين في أربع من دول المجلس (الإمارات، البحرين، عمان، قطر) تشرع شراء هذه الوحدات العقارية للأجانب في أول مرة في تاريخ المنطقة، ورُبِط شراء العقار بالحصول على إقامات طويلة المدى من قبل المشترين الأجانب. أعلن عن النية لبناء ما لا يقل عن 1.3 مليون وحدة سكنية ذات التملك الحر أو الإيجار الطويل المدى في هذه الدول الأربع فقط، مما يسع لاستيعاب ما لا يقل عن 4.3 مليون قاطن فيها. إذاَ ما يبنى من وحدات سكنية بهدف بيعها على غير مواطني المنطقة يعد بجلب سكان يتعدون في عددهم مجموع مواطني هذه الدول الأربع، والذي لم يتعدَّ 3.6 مليون نسمة عام 2008.
أخذت أغلب هذه المشاريع شكل المشاريع “المتكاملة” و”العملاقة”، فهي تتميز بهول حجمها حتى اقتربت من صنف الخيال العلمي. وأكثرها كانت مشاريع جديدة كليا، حيث ركزت على خلق مجتمعات متكاملة من لا شيء. أما أحجام هذه المدن والمبالغ المنصبة فيها فتقترب من الخرافية. وما علينا إلا أن نلقي نظرة على مشروع دبي “واترفرونت”٬ أو “الواجهة المائية”٬ المزمع إنجازه حوالي عام 2020، وهو عبارة عن مدينة جديدة كليا يتوقع أن تستوعب مليون وثلاث مائة ألف شخص على مساحة 130 كم مربع، أي على مساحة تتعدى بكثير حجم مدينة باريس عاصمة فرنسا، وبتكلفة 20 بليون دولار امريكي.
ورغم أن الأزمة المالية العالمية أدت إلى توقف عدد معتبر (ولكن ليس بغالبية) هذه المشاريع العقارية، إلا أن الرؤى والموارد الهائلة والحملات التسويقية التي جيشت  لهذه المشاريع العقارية، كل هذه الأمور تبين جدية هذه المشاريع وتدعو الى التوقف عندها وتحليل تداعياتها على الخليج ومدنه وتركيبته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ا

قتلاع الجذور

استهوتني قصة المشاريع العقارية الضخمة والمدن الجديدة التي سيطرت على النشاط الاقتصادي في دول الخليج العربية لأنها تجسد في طياتها كل أوجه الخلل المزمنة التي تواجه المنطقة. فيتجسد الخلل السياسي والاستئثار بالسلطة في الفساد الذي استشرى في صفقات الأراضي وعمليات ردم البحر (الدفان) الذي تطلبته هذه المشاريع، بالإضافة إلى انعدام دور غالبية المواطنين في التخطيط والموافقة على هذه المشاريع. أما الخلل الاقتصادي المتجذر في المنطقة فيبرز في الكميات الهائلة من الأموال التي أتت أساسا من الريع النفطي لتنصب في هذه المشاريع (حوالي 1.2 تريليون دولار) ، التي بدورها أيضا نوع آخر من الريع (العقاري). هذا بالإضافة إلى التركيبة المتشعبة من الشركات الاستثمارية والمطورين العقاريين والبنوك التي تشكلت حول هذه المشاريع. في المقابل، فيتجلى الخلل السكاني المزمن في هذه المدن الجديدة الموجهة في الأساس لشعب جديد لأن يسكن فيها، حيث تغيّرت رؤية ومعاملة متخذي القرار إلى ظاهرة تدفق الوافدين من النّظر إليها بوصفها ظاهرة عرضيّة لا بد منها، هدفها سد متطلبات الإنتاج، إلى تبني استقطاب الوافدين هدفا أساسيا ينبغي تبنيه لزيادة الطلب الاقتصادي عليه في دول المجلس.
تبين هذه المدن الجديدة بشكل جلي أن أوجه الخل المزمنة في المحاور السياسية والاقتصادية والسكانية مترابطة وتغذي بعضها البعض في جدلية مستمرة ، حيث لا يمكن فصل هذه المحاور عن بعضها البعض والنظر اليها منفردة. وهذا التشعب المتعمق بين العوامل السياسية والاقتصادية والسكانية الحادة ينذر بخلطة متفجرة من الصعب التنبؤ بتبعاتها، بل أنه من شبه المستحيل على صناع القرار ان يتحكموا في مسارها في خطط مرسومة مسبقا.
طبيعة هذه المشاريع العقارية تشير إلى مسارين:  إما أن تنجح هذه المشاريع العقارية، وبذلك تتحول إلى مدن جديدة ضخمة يقطنها الملايين من السكان الجدد.  في المقابل، قد تفشل المشاريع العقارية فشلا ذريعا، وتتحول إلى مبان خاوية ينبذها الناس، وتكون في نهاية الأمر مشاريع فيل بيضاء white elephants  وعملية نصب كبرى مصيرها أن تكون مدن أشباح.
كلا الخيارين ما زالا مطروحين، ومن الممكن أن يحدث الاثنان على مر الزمن.  فكثير من هذه المشاريع قد أوقفت في خضم الأزمة المالية العالمية. في المقابل، فإن كثيرًا من هذه المدن الجديدة قد تم بُنيت فعليا وأصبحت مأهولة، كمنطقة المارينا في دبي و أمواج في البحرين. والقول بأن رؤوس الأموال والمتنفذين بها ستقف مكتوفة الأيدي وسترضى بأن تبقى هذه المشاريع شاغرة يعبر عن فهم ضيق لمنطق رؤوس الأموال وتحركاتها. وكما رأينا، فقد سمحت البحرين لملاك العقار الدولي بالتصويت في الانتخابات البلدية لعام 2010، كما مددت الإمارات مدة الإقامة المرتبطة بشراء العقار من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات في عام 2011. كما تدل تصريحات المسؤولين عن هذه المشاريع إلى أنهم يتطلعون إلى إعادة المشاريع التي أوقفت متى ما سنحت الفرصة، هذا بالإضافة إلى نية لبناء مشاريع عقارية ضخمة جديدة.
النقطة الرئيسة هنا هو أنه من المستحيل أن يتواصل الخلل السكاني في التراكم  دون أن تكون له تبعات جذرية مصيرية على المنطقة في المستقبل غير البعيد.  بعض هذه التبعات نُقِشت بإسهاب، بما فيها  ازدياد أعداد الوافدين في سوق العمل، وتهميش دور المواطنين إنتاجيا وعدديا، بالإضافة إلى تشوه الهُوية العربية في المنطقة وازدياد حدة التعصب xenophobia بين صفوف بعض المواطنين . في المقابل  ستتواصل حالات الاضطهاد التي يتعرض إليها كثير من العمالة الوافدة وتدني حقوقهم على المستوى الاقتصادي والسياسي، التي بإمكاننا تلخيص هذه الإفرازات في حالة شديدة من “الاغتراب” التي يعيشها المواطنون والوافدون معا.
أما عن ظاهرة المشاريع العقارية فلها معطيات تختلف كما ونوعا عن ظاهرة توافد العمالة الأجنبية. ولعل الخاصية الأهم هي بروز ظاهرة “المجتمع المغلق” أو ما يمكن تسميته “بالمدينة داخل المدينة”. حيث يُخلَق مجتمع من “الكانتونات” المنفصلة، تعيش كل مجموعة منه في منأى تام عن باقي الأطراف، لا يربطها ببعضها أي انتماء قومي أو ثقافي أو سياسي، ولا يكون هدفها الجامع سوى النمو الاقتصادي وتحريك رؤوس الأموال تحت إطار اللغة الانجليزية الحاضنة. هنا تصبح المدينة مفهوما بالإمكان بنائه وتجديده وإعادة تركيبه بشكل سريع بناء على أهواء متخذي القرار والخبراء المنفذين للمشروع. والحالة الأساسية التي تميزها هي التغير المستمر في ملامح وعمران وحتى سكان المدينة، فلا البيوت ولا النخل ولا حتى البحر في مأمن من الهدم والاقتلاع والدفن.  كل هذا قد يحصل في سنين بل أشهر معدودة، فلو قدر لأحد أن يشد الرحال إلى الخارج طلبا للعلم، لما عاد بإمكانه التعرف على المدينة أو سكانه عند عودته من الدراسة.
فالمدينة في الخليج لم تعد تعكس وتعبر عن رغبات  حياة أهلها وساكنيها ونمطها، فهم عامة مهمشون ودون أي دور فعال في تحديد ملامحها العمرانية والاجتماعية. فها هم يشاهدون العمارات تعلو من حولهم وليس في يدهم إلا أن يراقبوا ويتأقلموا، فقد لا يكونوا هم حتى من ساكني منطقتهم الحالية في المستقبل القريب. وهكذا تم هز واقتلاع الجذور التي كانت تربط السكان بمدنهم ، وفي المقابل أمست المدينة  مفهوما متقلبا قد يتبدل هو  وساكنيه في غضون أيام معدودة. وهكذا أصبح ما يحدد شكل وحتى جغرافية المدينة ليس سكانها، الذين يتغيرون بنفس سرعة تغير المدينة، بل المردود المادي وتطلعات متخذي القرار.

موقع المقال

copy_r