gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
قضايانا بين الحتمية والامكان والاستحالة
د.سعيد الشهابي

من القضايا التي يجدر ان يدور السجال البناء بشأنها في ظل تطورات الثورات، النفسية العربية في ابعادها المتعلقة بالأمل واليأس. ليس المطلوب في هذا السجال التطرق لقضايا الفلسفة العرفانية وجدليات الإشراق، كما ليس المطلوب الدفع باتجاه أحلام اليقظة او الآمال السرابية، بل ثمة تغير في الوجدان العام لدى الشعوب العربية، خصوصا لدى الاجيال الجديدة التي تفتحت أزهار شبابها في ربيع هذا العام، وانطلقت بقدرة قادر، بعد عقود من السبات الشتوي القاتل، في نهضة لم يحدث نظيرها منذ عقود.
ويمكن القول ان التغير النفسي لدى هذا الجيل يعتبر واحدا من اهم ضمانات انتصار الثورات، وانه انجاز عظيم لا يمكن التقليل من شأنه. فاذا كان التغيير يبدو حلما لدى الجيل المناضل طوال الاربعين عاما الاخيرة (اي منذ هيمنة المال النفطي ومعه العصر الامريكي) غير قابل للتحقيق، فقد اكتشف الجيل الحاضر ان تراث هذه الامة حافل بالروح المفعمة بالامل والعمل من اجل الاصلاح والتطوير. وما تزال كلمات شعراء الخمسينات والستينات النابضة بالحيوية والنضال، تتردد على ألسنة عشاق الشعر الذين يرون فيه محركا للمشاعر ودافعا للعطاء. فعندما يتحدث الشاعر المصري ، عزيز أباظة عن غبطته لبناء السد العالي في الخمسينات، ويعتبر ذلك 'حلما تحول الى حقيقة' فان كلماته تؤكد قدرة الشعوب على العطاء والتصميم وانها لا يمكن ان تموت تحت وطأة الجلادين.
روح التحدي التي كانت مفعمة لدى الشعراء والشباب في منتصف القرن الماضي كانت واضحة في الشعر النابض بالحيوية والحماس، الذي ما يزال يتردد على ألسنة ثوار اليوم. وربما من غرائب الصدف ان ينطلق التغيير على يدي الشاب التونسي، محمد بوعزيزي، الذي ضحى بنفسه لاظهار ظلامته فتحول الى شعار للثورات الشعبية، وان تكون أبيات الشاعر التونسي، أبي القاسم الشابي، الذي توفي في،1934 وهو شاب ايضا، عن عمر لا يتجاوز الخامسة والعشرين، شعار الثورات الذي يعلن تارة ويتوارى اخرى:
اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر
هذه الحتمية في تحقق ارادة الشعب كانت تبدو من الناحية العملية مستحيلة لدى جيل النضال الذي اتعبته عقود القمع والسجون والتواطؤ الغربي، ووقع ضحية للقوة المفتعلة لدى المال النفطي. هذا المال ما يزال يطل برأسه بكل صلافة حتى بعد انطلاق الثورات، وينظم صفوف قوى الثورة المضادة، ويتآمر ضد إرادة الشعوب، ويسعى لهندسة انظمة ما بعد الثورة. وقد تصاب نفسية الثوار بشيء من الاحباط على الطريق الوعر باتجاه التغيير، كما قد تتضاعف اعداد الشهداء الذين يسقطون بالاسلحة الفتاكة التي تستورد بذلك المال، ولكن الانجاز الاكبر الذي تحقق والمتمثل بتحطم حواجز الخوف، أحدث تغيرا له ابعاده الميدانية والنفسية، والفكرية ايضا. من هنا اصبحت بصيرة الثائر تنظر لقضايا التغيير، أيا كان شكلها وهدفها، ضمن واحد من أطر ثلاثة: اما انها 'حتمية' او 'ممكنة' او 'مستحيلة'. ومع الاعتراف بان كلا من المفهوم والمصداق في هذا التصنيف يخضع للتقييم الشخصي، وقد لا يكون موضوعيا بشكل كامل، فانه معيار مفيد لاستشراف المستقبل في ظل ما يمثله من تغيرات جوهرية في نفسية المواطن العربي الشاب الذي اكتشف قواه الذاتية وأدرك موقعه في مشروع التغيير الذي لن يحققه سواه. فكيف يمكن تصنيف قضايا الامة وفق هذه التصنيفات الثلاثة؟
يمكن الاشارة هنا ان ثمة قضايا حتمية، بمعنى انها مؤكدة الوقوع، وفقا لقوانين الاجتماع والسنن الالهية والتاريخية، وان أحدا لا يستطيع منع حدوثها مهما كانت قوته. من هذه الحتميات: انتصار الشعوب في نضالاتها سواء من اجل تحرير اوطانها من الاحتلال، ام من الاستبداد والديكتاتورية، ام من الجهل والفقر. هذه الحتمية مشروطة بارادة التغيير لدى الجماهير، كما هو حادث اليوم. وكما يقول احد المفكرين المسلمين، الشعوب قد تهزم، ولكنها لا تستسلم. وفي غياب الاستسلام فالنصر هو النتيجة المحتومة. وقد يطول الزمن قبل ان يتحقق النصر للشعوب الناهضة، ولكن تحققه محتوم ولا يستطيع احد منع حدوثه. ومن هنا اصبح شعر الشابي شعارا للثوار في البلدان العربية، الذين فتحت لهم روح الشهيد التونسي مداخل للتغيير والتحرر. فالشعوب التي تتمرد على الموت تستحق الحياة، وتعجز آلات الموت السلطوية عن كسر ارادة هذه الشعوب. فما أكثر الذين استشهدوا في اقبية السجون بأيدي الجلادين في الحقبة العربية السوداء التي تلازمت مع الحقبة النفطية في منتصف السبعينات، ولكن ما أكثر الذين التحقوا بمواكب الشهادة والثورة والتغيير. ومن الحتميات ايضا سقوط الظلم وما يلازمه من استبداد وقمع وفساد. والواضح ان دول الغرب خصوصا الولايات المتحدة الامريكية دعمت، وما تزال تدعم، تلك الانظمة، وتسعى لمنع سقوطها، ولكنها باءت بالفشل وبدأ تساقط تلك الانظمة كالقطع الكارتونية. وثمة حتمية اخرى وهي ان تفرعن الحكام يؤتي عكس ما يهدفون اليه، فبدلا من إطالة أمدهم في الحكم، فان ديناميكية الظلم وتداعياته تساهم عادة في تحريك عجلة المقاومة لهم وسقوطهم. ان سقوط الحكام الظالمين حتمية لا يمكن تفاديها، مهما سعوا للتذاكي على شعوبهم. ومن الحتميات ايضا ان احتلال اراضي الغير لا يدوم، مهما طال به الامد، وعليه فليس ضربا من الاحلام الاعتقاد بحتمية تحرير فلسطين، او خروج القوات الامريكية من العراق وافغانستان، او القوات السعودية من البحرين. وكما تمت الاشارة، فان هذه النتائج مشروطة بوعي الشعوب الواقعة تحت الظلم والاحتلال، وحراكها المستمر بكافة الوسائل المشروعة، وعدم الاستسلام للظالم او المحتل بالتنازل له عن الارض او توقيع اتفاقات الصلح معه.
وفي سياق الحراك الثوري والصراع بين الشعوب وانظمة القهر والاستعباد، هناك امور 'ممكنة' الحدوث، اي انها ليست حتمية وليست مستحيلة. فقد ينتصر الظالم في معركة ولكنها سيخسر الحرب حتما، وقد يحقق المحتل غلبة على اصحاب الارض الشرعيين، ولكنها غلبة مؤقتة. وقد تتطور الشعوب او تتأخر، فكلا الحالين ممكن الوقوع، وليس محتوما او مستحيلا، بل مرتبطا بمدى الحراك الشعبي على طريق التطور والبناء. وفي ذروة الصراع، قد يتمكن المعذب من الحصول على 'إفادات' مزورة من الضحية باستعمال وسائل التعذيب الوحشية، ولكن ذلك لا يعني انتصار المعذب على الضحية. وعندما يحدث 'المحتوم' تطول ساعة الظالم امام ضحاياه. وهذا ما يحدث اليوم في المحاكم المصرية التي يمثل فيها حسني مبارك ونجلاه ووزراؤه في قفص الاتهام، يقاضيهم ضحاياهم، ويشهد عليهم موظفوهم الذين نفذوا اوامرهم، وكما يقال فان 'يوم المظلوم على الظالم، أشد من يوم الظالم على المظلوم'. من الممكن ايضا ان يطول حكم الطاغية، ويمتد به العمر، وتبسط له اليد، وتنحني امامه الاعناق، ولكن ذلك لا يدوم ما لم يكن الحكم مشفوعا بالعدل من جهة وقبول الجماهير به من جهة اخرى. كما ان من الممكن ايضا ان تساعد الدولارات النفطية النظام الديكتاتوري على التحرك خارج ما يسمح به حجمه الطبيعي، فيقوم بالمبادرات، ويبالغ في استعراض قوته، ويتدخل في شؤون الآخرين، ويسعى للتحكم في مصائر الشعوب الاخرى، ويمارس هندسة نتائج الثورات. وقد يستطيع ايضا تسخير الأبواق الاعلامية لتقديسه وتبرير جرائمه، وتسويقه على غير حقيقته. وفي غياب المعارضة الفاعلة، ومع تواطؤ القوى الكبرى معه، قد يعتقد الديكتاتور ان سيطرته على الامور كاملة وان احدا لن يستطيع ان يكسرها. وقد اظهرت تجربة الثورات العربية ان الديكتاتوريين الذين لم تصل رياح الثورة الى عروشهم، ما يزالون يعتقدون بانهم بمنأى عما يحدث لجيرانهم، وان شعوبهم لن تستطيع التحرك ضدهم، فهم يملكون الارض وما عليها ومن عليها، وان لديهم من القدرات الامنية والعسكرية والمالية والعلاقات مع امريكا والغرب ما يحول دون سقوط انظمتهم. هذه امور ممكنة الحدوث، ولكن هذا الحدوث مؤقت، وهو حال بين المحتوم والمستحيل.
وثمة قضايا مستحيلة الحدوث، برغم محاولات البعض الترويج لها. ومنها: اصلاح انظمة الحكم الفاسدة في عالمنا العربي. فقد اثبتت تجارب كافة الفعاليات السياسية وقوى المعارضة على مدى العقود الخمسة الماضية فشل محاولات 'الاصلاح من الداخل'. وسعت الفعاليات السياسية التقليدية كالاحزاب والجمعيات للانخراط ضمن انظمة الحكم هذه على امل تحقيق الاصلاح من داخلها، اي ضمن مؤسساتها وقوانينها ومنطق قادتها. وكانت النتائج مخيبة للآمال في افضل حالاتها، ومأساوية في حالات اخرى، عندما تم احتواء بعض قطاعات المعارضة او شخوصها ضمن انظمة الحكم، فاصبحت جزءا من الاستبداد والقوانين الجائرة. ولا يسجل التاريخ العربي الحديث ان ايا من الانظمة العربية استطاع اصلاح نفسه (سواء بفعل الحاكم الديكتاتور ام بفعل الحزب المعارض الذي انضوى تحت رايته). ولو تحقق ذلك الاصلاح لما انطلقت ثورات الشعوب في تونس ومصر والبحرين واليمن وليبيا وسورية والمغرب والاردن. ومن المستحيلات ايضا هزيمة الشعوب، فالشعوب لا تهزم، وان أصرت على شيء حققته. هذه الشعوب قد تتعرض للضربات الامنية المتلاحقة، وقد تكتظ المعتقلات بأبنائها، وقد تتحول الى ثكنات عسكرية في قبضة اجهزة الامن والجيش، ولكنها لا تهزم ولا تستسلم. فالطغاة يذهبون وتبقى الشعوب، الا اذا حدثت حرب ابادة شاملة وهذا نادر الحدوث، خصوصا في عالم اليوم. شعب مصر غلب على امره عقودا، ولكنه نهض ثائرا، وكذلك الشعوب العربية الاخرى. ولكن الشعب يستطيع ان يهزم نفسه بالاستسلام والقبول بالتبعية والانقياد لشرار الخلق من مستبدين وسفاحين وفاسدين. اما اذا اصر على رفض الاستسلام فلن يستطيع الديكتاتور هزيمته. وثمة امور اخرى تستحيل على التحقق، من بينها ان تقف امريكا بجانب الشعوب، وتدعم قيام ديمقراطيات حقيقية في العالم العربي، او تتخلى عن طمعها وسعيها الحثيث للهيمنة على الشعوب ومقدراتها. فالفاسد لا ينتج الصلاح، والظالم لا تبقى رأفة في قلبه. وحتى لو تدخلت، كما فعلت في العراق وافغانستان وليبيا، فانها تتشبث بالبقاء وتسعى للسيطرة وممارسة الاحتلال بأشكال شتى، وتتدخل لادارة شؤون البلاد ولو بشكل غير مباشر. وهذا ما حدث مع بريطانيا عندما مخرت اساطيلها البحار العاتية ووصلت الى مشيخات الخليج، فاستعمرتها 150 عاما ولم تؤسس فيها نظاما ديمقراطيا واحدا. ان الرهان على الدول الاجنبية لاصلاح اوضاع البلدان خاسر لا يمكن ان ينجح. اما الشعوب فهي مفتاح الاصلاح، ضمن الاطر المذكورة، بشرط وجود ارادة التغيير والاصلاح كثقافة عامة، والتخلص من عقدة الخوف من جهة والقابلية لـ 'الاستحمار' من جهة اخرى، وهي ظاهرة تنتشر في اوساط بعض المثقفين والانتهازيين الذين يصفقون للديكتاتورية ويسوقونها باقلامهم ويستهدفون قوى التغيير بالشجب والطعن.
لقد ادركت شعوبنا العربية، بفضل اجيالها الجديدة التي ما تزال فطرية في بصيرتها، عذرية في ممارستها، ان التغيير لا يتحقق الا على ايدي ابنائها وان انظمة الديكتاتورية والاستعباد ليست سوى 'نمور ورقية'، وان دماء الشهداء اقوى من سلاح الطغاة، وان الشعوب هي التي تقرر مصائرها بعيدا عن املاءات الآخرين وتدخلات القوى الاجنبية. فانتصارها 'حتمية' وتحقيق بعض الانجازات الهامشية في ظل الانظمة القائمة 'ممكن' ولكن هزيمة ارادة الجماهير 'مستحيل'، وكذلك انتصار الاحتلال وبقاؤه. من هنا يبدو مستقبل الامة واعدا لان شبابها انتصروا لشعوبها المظلومة، فحققوا ما لم يكن في الحسبان، وصمدوا كالجبال، فحق لهم النصر وتهاوت تحت وقع اقدامهم قلاع الطغيان والاستبداد والاحتلال.


copy_r