20-07-2011
عندما لا يكون الإنسان غاية العلم ، غاية العلم المتمثل في الجهد الإنساني الذي
يتغيا الإنسان ، لا تأخذك المفاجأة جراء تحول العلم ذاته من هذه الغاية إلى
مجرد أداة لممارسة قهر وطمس وإلغاء الإنسان . عندما يجري نقل العلم من أهدافه
النبيلة ، وتطويعه ليخدم رؤى ايديولوجية خاصة ، رؤى ضيقة ، رؤى عنصرية ، لا
تستغرب أن يقع في فخ العنصرية بعض مدعي العلم ، أو حتى بعض العلماء ، خاصة
أولئك الذين فهموا العلم في مساراته التخصصية المحدودة ؛ معزولا عن التصور
الفلسفي العام للإنسان .
قد يتقدم شاعر كبير كالمتنبي ، فيقول بنفس عنصري واضح عن نفسه وعن الناس :
وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغام
فلا نلومه شعريا على ذلك ؛ لأن يقرر حقيقة شعوره ، تلك الحقيقة التي قد ندينها
، ولكن لا نزعم ، ولا يزعم هو ، أن لها قوة نفاذ حقيقة العلوم .
المتنبي يزعم أنه وإن كان من معدن الناس ، إلا أن عنصره من جوهر آخر ، كما أن
الذهب موجود في التراب ، ولكنه مختلف عنه تماما . المتنبي يطابق بين حقيقة
شعوره العنصري المتعالي من جهة ، وبين حقيقة علمية معروفة تتحدد في أن الذهب
كامن في التراب . المتنبي يريد عن طريق هذا التشبيه الضمني أن يطابق بين حقيقة
عاطفية مزعومة ، وحقيقة علمية لا مراء فيها ؛ ليجعل من قوة العلم طريقا إلى
تأكيد نزوات العاطفة المتمثلة هنا بغريزة التعالي .
لا نلوم المتنبي كثيرا ؛ لأنه في النهاية لا يقدم هذه الرؤية بوصفها حقيقة
علمية ، بل بوصفها حقيقة شعرية ، لا تتحقق درجة ثبوتها إلا بدرجة ما يمتلكه
الشاعر من بلاغة وبيان . لكن ، عندما يأتي أحد المتلبسين بالعلم ، فيزعم مثلا ،
أن العِرق الأبيض أرقى أو أذكى من العرق الأصفر أو الأسود ، فإنه هنا لا يتقدم
بهذا كتعبير عن إحساس عاطفي خاص ، لا يعرضه كحالة شعورية ، وإنما يتقدم به
كحقيقة علمية موضوعية ، بحيث يجب على الجميع أن يقتنعوا بها ، وإلا عارضوا
حقيقة العلم المحايدة ، الحقيقة التي يجب أن يتفق عليها الجميع ؛ لأنها كما
يفترض خارج نطاق العواطف والأهواء .
مثلا ، لو أن شاعرا ألمانياً أكّد لنا بكل ما يمتلكه من قدرة شاعرية أن العرق
الألماني هو أرقى الأعراق ، وشدتنا بلاغته في هذا الاتجاه العنصري إلى درجة أن
( نوافقه شعوريا ) على ذلك ، لم يتعارض هذا مع ( استجابتنا الشعورية ) لشاعر
هندي يؤكد لنا أن العرق الهندي هو أرقى الأعراق ، ولا مع شاعر عربي يؤكد لنا أن
العرق العربي هو أرقى الأعراق . نقبل كل هذا مجتمعاً ؛ ولا نرى ثمة تعارضاً
يستوجب الرفض ، فالحقائق الشعرية تتجاور ؛ دون أن يكون ثمة إشكال في ذلك ، بل
هي تتعاضد ؛ بقدر ما تمتلكه من قوة ( المنطق الجمالي ) . صحيح أنها قد تتنافس ،
لكنها لا تتناقض ؛ لأنها تعكس حقيقة العاطفة المرتبطة بوجدان الفرد أو وجدان
الجماعة ، ولا ارتباط لها بحقيقة ما هو موجود على أرض الواقع معزولاً عن
انعكاسه على الإحساس الخاص .
هذا الادعاء قد يُقبل في الشعر ، في الخطاب الجمالي ، في التعبير الوجداني عن
الإحساس نحو الذات الخاصة أو الذات الجميعية ، أو ما يرتبط بهما ؛ كالأوطان
مثلاً . لكن لا يمكن أن يقبل في مسارات العلم ، ولا في خطاب العقل قبلا . لهذا
السبب الذي يظهر من خلاله أهمية التأكيد على الفرق بين خطابين ، أصبح العلماء
النازيون الذين جيّروا العلم لصالح الإيديولوجيا النازية ، فحاولوا بالعلم
إثبات أن العرق الألماني - الآري هو أرقى الأعراق ، محل سخرية العلماء في كل
مكان وزمان .
الحقائق العلمية مقدسة ، ويجب أن تكون مقدسة ؛ لأن التلاعب بها يدخل في باب
الكذب والتزوير المرتبط آليا بالانحطاط الأخلاقي . العالم ، أو مُدّعي العلم ،
الذي يمارس التزوير في حقائق العلم ، أو حتى تطويعها بشكل غير مباشر ، من أجل
خدمة ادعاءات ايديولوجية ، هو مجرد مجرم يجب إخضاعه لعدالة القانون ؛ كما هو
الحال في أية عملية تزوير ، بل هي هنا جريمة تزوير واسعة النطاق .
الآن ، كل المفكرين وكل العلماء المتوفرين على النزاهة المفترضة فيهم ، أصبحوا
يُسفّهون هؤلاء الذي خانوا العلم أو جهلوا بديهيات العلم ، كما نُسفّه نحن
اليوم أولئك الذين يدّعون العلم في تراثنا ، ويزعمون بادعاء علمي ! أن أمة
العرب أفضل الأمم ، أو كما يقولون : جنس العرب أفضل من غيرهم . نعم ، قد نغفر
للشعراء العرب ادعاءات كهذه ، ولكن أن يسوق لنا أحدهم هذا الادعاء زاعماً أنه
حقيقة علمية ، ويأخذه عنه بُؤساء التقليدية بهذه الصفة ( = علم ) ، فهذا ما لا
يمكن أن يغتفر ؛ لأنه جريمة علمية وجريمة إنسانية في آن .
ما يُقبَل من شاعرٍ أو شويعر ، لا يُمكن أن يُقبل من عالم أو عُويلم ! . عندما
يُعدّد شاعر ما ، بعض ما يتوهمه أمجاد شخصه أو أمجاد قبيلته أو أمجاد منطقته أو
أمجاد وطنه أو أمجاد عرقه على حساب الآخرين ، أي بتبخيس الآخرين ، فإن هؤلاء
الذين وقعوا في هذا السياق السلبي لخطابه لن يغضبوا كثيرا ، لأنهم يعون أن كل
من يتلقى هذا الخطاب الشاعري العاطفي سيتلقاه بوصفه مجرد ادعاء عاطفي خاص . لكن
، عندما يمارس الآخر عليهم هذا التبخيس بمنطق العلم ؛ فلا بد أن يغضبوا ؛ ولا
بد أن يكون الغضب للعلم وللإنسان ، وأن يصدر الغضب واضحا وصريحا ، بل وقاسيا من
ألسنة وأقلام كل المفكرين وكل العلماء بلا استثناء .
إن الأوهام الشعورية يجب أن تبقى في سياقها ، يجب أن تبقى في حدود خطابها الخاص
، وأن تكون لدينا حساسية فائقة من كل محاولات استدماجها في خطاب العقل والعلم ؛
لأن هذا الاستدماج لا ينقل هذا الخطاب ( = خطاب العقل والعلم ) من غايته ( =
الغاية الإنسانية ) إلى غاية أخرى ( = اللا إنسانية العنصرية ) فحسب ، وإنما
يدمر المنطق الخاص لخطاب العقل والعلم أيضا .
عندما يحاول أي متخصص في أي فرع من فروع العلم استدماج أوهامه ونزوات شعوره في
سياق تخصصه ، أي عندما يتقدم بأوهامه تحت غطاء تخصصه ، فإن كثيرين ، وخاصة ممن
لا يمتلكون وعيا نقديا مستوعبا لأبعاد عملية التلقي ، قد يغريهم وهم التخصص هنا
؛ فيتلقون أوهام هذا المتخصص بوصفها حقائق علمية موضوعية لا تقبل النقاش . أي
أنهم لا يعون الفرق الكبير والجوهري بين أن يقول هذا المتخصص في أحد فروع العلم
( قصيدة عصماء !) يزعم فيها أنه أو قبيلته أو منطقته أفضل الناس أو أرقى الناس
أو أوفى الناس أو أكرم الناس ...إلخ مثل هذه الأوهام ، وبين أن يقول إن تخصصه
العلمي يثبت ذلك ، وأن ما يقوله حقائق علم موضوعية ؛ لا مجرد إحساس خاص .
لا يمكن لأي عالم أن يتجرد لحقائق العلم ما دام منغمساً في خطاب إيديولوجي
تقليدي ( = معادٍ للعلم ) خطاب ينتمي إلى سياقات عنصرية تضرب في أعماق التاريخ
، إلى ما قبل أزمنة الوعي بالإنسان .
المتخصص العلمي عندما يُسوّق لنفسه بمغازلة التقليدية وخطابها العنصري ، فإن
هذا الغزل سينتهي إلى حالة هيام ، إلى عشق مجنون ، إلى حالة يتم فيها تقديم
مقدسات العلم وقوداً من أجل أن تبقى جذوة التقليد والتبليد متقدة في وجدان
البسطاء وجماهير البؤساء . أي أن المتخصص العلمي في مثل هذه الحال يضع العلم (
والذي هو حالة مضادة بطبيعتها للتخلف ) ، بل ويضع كل ما يتقاطع مع العلم من
قريب أو بعيد في خدمة التخلف ، كما نراه واضحاً وسلوك الذين يُضحّون بمقدسات
العلم في سبيل إحياء إيديولوجيا عصور الظلام .
لا يمكن لأي متخصص علمي أن يخون علمية تخصصه إلا تحت وطأة شيء ما ، شيء كبير
قادر على إرباكه من الداخل ، قادر على جعله يرتكب جريمة الخيانة العلمية بكل
راحة ضمير ؛ حتى ولو أدى هذا إلى تدمير العلم وظلم الإنسان .
لا شك أن الإيديولوجيا الجهنمية في واقعنا ، المتمثلة في التقليدية الأثرية
الاتباعية هي من أقوى المؤثرات التي تطمس ، بل وتلغي كل حساسية يجب أن يتوفر
عليها المتخصص العلمي تجاه موضوعية العلم ، فضلاً عن كونها تطمس بالضرورة كل ما
يمكن أن يعزز إنسانية الإنسان .
إننا لا نستطيع أن نتوقع ما يمكن أن تفعله التقليدية بالإنسان إلا عندما نتتبع
مسيرة كثير من التقليديين الذي انخرطوا في تخصصات علمية يفترض أنها بعيدة عن
مجالات التوظيف الإيديولوجي . التقليدية بكل مقولاتها التي تحاول إيديولوجيا
اللاعقل / اللاعلم تمريرها من خلال المقدس قادرة على جعل أبنائها / مُريديها
مجرد دراويش لها ؛ مهما بلغوا من العلم ، حتى في أدق التخصصات وأبعدها عن مجال
العبث الإيديولوجي الرخيص .
الموضوع كبير وشائك . لكن ، كي ندرك حجم هذا الأثر الذي تمارسه التقليدية على
أتباعها ، لا بد أن نتذكر أن العنصري الذي تحدثت عنه في المقال السابق ، هو
الذي ترحّم ( بصيغة صريحة ، قال : رحمه الله ) قبل بضعة أشهر ، وفي برنامجه على
الهواء مباشرة ، على أكبر طاغية منتهك لحقوق الإنسان في التاريخ العربي : صدام
حسين . وعندما أحس بأن مقدم البرنامج قد ذُهل ، وأن المشاهد كذلك ، قال مُبررا
: نترحم عليه ، لأن من مذهب أهل السنة والجماعة الترحم على من مات من المسلمين
. والسؤال هنا ، هل كان يجرؤ على الترحم على بعض المختلفين معه في المذهب من
المسلمين ، ممن لم يرتكبوا 1% مما ارتكبه صدام من جرائم بحق الإنسان ؟! ، بل هل
يستطيع الدعاء لمن هم أقل جرائم من صدام بما لا يقاس ؟ أليس وراء الترحم على
صدام نفس عنصري مذهبي واضح ؟!. لن نختلف كثيرا على الجواب ؛ لأنه كان واضحاً
للعيان ، ولكن تم التغاضي عنه لأنه يخص ذلك الإنسان ، وليس نحن !.
أخيراً ، ألم أقل : إن ثقافة التقليد تحتضن كل صور التعنصر ، تمارس التمييز
بعنصرية صارخة . وواهمون أولئك الذين يريدون الانتقاء في مجال التمييز بين بني
الإنسان . فالتمييز على أساس مذهبي لا يختلف عن التمييز على أساس قبلي أو
مناطقي أو عرقي . التمييز العنصري أياً كان نوعه ينتمي إلى بنية ذهنية واحدة .
كل هذا ينتمي إلى ثقافة تقليدية رجعية معادية بطبيعتها للإنسان ، ثقافة لا
علاقة لها بما تحقق من إنجاز إنساني على يد فلاسفة التنوير ، أولئك الذين صنعوا
عصراً جديداً للإنسان ، عصراً لا يُستساغ فيه الترحم على أمثال صدام ، كما لا
يستساغ فيه التمييز العنصري بكل أنواعه ؛ لأن كل هذا في النهاية يمثل انتهاكاً
صارخاً لبدهيات حقوق الإنسان .
إن ثقافة التقليد تحتضن كل صور التعنصر ، تمارس التمييز بعنصرية صارخة .
وواهمون أولئك الذين يريدون الانتقاء في مجال التمييز بين بني الإنسان .
فالتمييز على أساس مذهبي لا يختلف عن التمييز على أساس قبلي أو مناطقي أو عرقي.
صحيفة الرياض