gulfissueslogo
الخليج يحتاج منظومات حكم تنظم قواعد الاستخلاف
د.سعيد الشهابي

3-11-2010    القدس العربي

قد يعتقد البعض ان مسألة "الاستخلاف" بدول مجلس التعاون قضية محلية خاصة بالعائلات الحاكمة او بالحاكم نفسه المخول بتعيين "ولي العهد". ولذلك فقد يستغرب هذا البعض عندما يقال ان قضية الاستخلاف عملية معقدة تتداخل فيها العوامل المحلية بالاقليمية وربما الدولية، وتخضع لضغوط خارجية بالاضافة للمحلية، وتتأثر بمواقف الاشخاص المزمع تعيينهم لـ "ولاية العهد" وما اذا كانت منسجمة مع مواقف دول المجلس في اطرها الواسعة. ومن خلال ملاحظة ديناميكية التعيين سوف يتضح ان الاطراف الخارجية لا تغيب عن عملية الاستخلاف. فليست الولايات المتحدة وبريطانيا هما وحدهما المعنيتان بهذه القضية، بل هناك لاعبان اساسيان يحضران بقوة من خلال سباقهما على النفوذ، وهما إيران و "إسرائيل". يحدث هذا ليس على مستوى المملكة العربية السعودية فحسب، بل حتى في المشيخات الاقل حجما وتأثيرا. وتناقش مسألة الاستخلاف في اللقاءات الخاصة سواء في العواصم الغربية ام عواصم دول مجلس التعاون. اما مقولة ان التعيين تتم بشكل هاديء وفق قواعد ثابتة متبعة عبر الاجيال، فتحتاج الى اعادة النظر. فالابن الاكبر مثلا قد لا يصبح "ولي العهد"، اما بسبب عدم انسجام علاقاته مع الاب ام بسبب سياساته ومواقفه الشخصية، ام بسبب تدخلات خارجية. كما ان هناك قوى اخرى تعمل في الخفاء ولا يدرك الكثيرون وجودها، من بينها "المرأة" سواء كانت زوجة للحاكم ام لـ "ولي العهد" المرتقب. وعندما تكون شخصية هذه المرأة قوية وفاعلة فقد تصبح عاملا حاسما في عملية الاستخلاف. هذا لا يعني ان القرار النهائي لتعيين هذا الشخص ام ذاك خارج تماما عن ارادة الحاكم، بل يؤكد ان هناك عوامل اضافية تؤثر على التعيين والاستخلاف، وان هذه الظاهرة مقلقة ليس للعائلات الحاكمة فحسب، بسبب خشيتها من تصدع جبهتها الداخلية، بل للدول الاخرى التي تقرأ سياسات المستقبل من خلال شخصيات الاشخاص الذين سوف يستلمون الحكم بعد غياب الحكام الحاليين.
 
في الاسبوع الماضي انتقل حاكم رأس الخيمة، الى جوار ربه، مخلفا وراءه صراعا على الحكم بين ولديه. وبالرغم من الحسم الظاهرة لعملية  الاستخلاف فما يزال هناك ازمة صامتة تعكس طبيعة الصراع على النفوذ بين اطراف عديدة تضم جميع القوى المشار اليها: الدول الاقليمية والقوى الاجنبية، ولا يغيب دور المرأة عن هذا الصراع. فبعد حكم لهذه المشيخة امتد اكثر من ستين عاما (تولى الحكم عام 1948)، اي قبل تأسيس دولة  الامارات العربية بـ 23 عاما، توفي المرحوم الشيخ صقر بن محمد القاسمي، عن عمر يتجاوز التسعين عاما، وتولى نجله الاصغر، الشيخ سعود، الحكم. وكان سعود قد عين وليا للعهد في 2003 مكان اخيه الاكبر، الشيخ خالد، لاسباب ما تزال غامضة. ومن بين التفسيرات لعزله ان زوجته، فواقي بنت صقر بن سلطان، تتمتع بشخصية قوية ولديها اجندة سياسية تهدف لاحداث تغيير في الامارة تتجاوز ما تستطيع مواكبته. ايا كان الامر فقد شعر الشيخ خالد بالغبن، واصر على استعادة موقعه قبل وفاة والده. وهنا يبرز الصراع على النفوذ بين الدول الخارجية. فقد توافقت ارادة المجلس الاعلى للامارات، وفي مقدمتها أبوظبي، المشيخة الكبرى في الاتحاد وصاحبة النفوذ الاقوى، على دعم ارادة الشيخ الراحل، واعتماد سعود وليا للعهد. بينما روج خالد مقولات لاستمالة الولايات المتحدة و "اسرائيل" بان اخاه، سعود "حليف لايران". ووفقا لبعض المعلومات التي رشحت مؤخرا (اكدتها صحيفة "التايمز" البريطانية، فقد كان على صلة بالسفير الاسرائيلي في لندن، ووقع عقودا مع شركات بريطانية في مجال العلاقات العامة بهدف التأثير على مواقف مشيخات دولة الامارات لثنيها عن دعم اخيه، وموافقتها على استرجاعه منصب "ولاية العهد". وبعد وفاة والده، عاد الى رأس الخيمة آملا في الحكم، ولكن اغلقت الابواب بوجهه، واصبح، حتى الآن، محاصرا في قصره، محاطا بمفرزات من القوات الاتحادية والسيارات المصفحة والاسلاك الشائكة. ومنذ اعلان وفاة الشيخ صقر، اعلن المجلس الاتحادي للامارات دعمه الشيخ سعود حاكما.
 
كان البعض يعتقد ان الولايات المتحدة وبريطانيا سوف تدعمان خالد، خصوصا انه اتخذ من لندن منطلقا لعمله السياسي طوال السنوات السبع الماضية على امل اقناع السلطات البريطانية والامريكية والاسرائيلية بدعمه. غير ان الامر حسم لصالح  اخيه، وحدث ذلك كله بشكل هاديء. وكانت ايران تراقب ما يجري بصمت، ولكن كان واضحا انها اكثر ميلا للحاكم الجديد، خصوصا ان مناوئه انطلق على ارضية من التصعيد مع ايران بخصوص الجزر الثلاث، والتقارب الاوسع مع واشنطن، والتواصل مع "اسرائيل". فالبعد الاسرائيلي في التوافقات الخليجية لم يعد غريبا، خصوصا لمن يتابع الامور في المنطقة التي يسعى الكيان الاسرائيلي لاختراقها سياسيا واقتصاديا وثقافيا. وفي اطار مد الجسور مع "اسرائيل" دأب مسؤولون بحرينيون على الالتقاء مع مسؤولين اسرائيليين ومسؤولين في اللوبي الصهيوني في امريكا. ففي الشهر الماضي صافح ولي عهد البحرين رئيس الكيان الاسرائيلي، شمعون بيريز اثناء مشاركتهما في جلسة خاصة حول ما يسمى "عملية السلام في الشرق الاوسط" عقدت ضمن "مباردة كلينتون العالمية". وفي الوقت نفسه تلعب ايران دورا في الصراع على النفوذ داخل مجلس التعاون، ولا تخفي دعمها لمن تعتقد انه اقرب سياسيا لمواقفها من الحكام الحاليين والمستقبليين. وثمة معلومات تشير الى  انها ساهمت في 1986 في افشال الانقلاب الذي حدث  في الشارقة والذي قام به الشيخ عبد العزيز القاسمي ضد اخيه الشيخ سلطان الذي تمت اعادته الى الحكم، وتم نفي عبد العزيز الى القاهرة. حدث ذلك في الوقت الذي كانت ايران فيه مشغولة بالحرب مع العراق، ومستهدفة من قبل التحالف الغربي الذي تقوده واشنطن. والواضح من هذه السياقات ان ايران، برغم الضجة التي تثار بيبن الحين والآخر بشأن سيطرتها على الجزر الثلاث، اصبحت قادرة على التعايش مع الواقع السياسي الراهن بدولة  الامارات، وما تزال تعتبر الشريك التجاري الاكبر لدبي ورأس الخيمة ايضا. هذه الشراكة الاقتصادية غير المعلنة تعاني في الوقت الحاضر من توتر بسبب الضغط الامريكي على دول المنطقة لتطبيق المقاطعة الاقتصادية المفروضة على ايران، وهو امر من شأنه تكثيف التوتر والخلاف، في الوقت الذي تبحث منطقة الخليج فيه عن منظومات سياسية وامنية لحفظ امنه.
 
ان إشكالية الاستخلاف سوف تتواصل طالما بقي الحكم في هذه المنطقة محكوما بمبدأ التوارث طبقا للعادات القبلية وخارجا عن السياقات القانونية والدستورية الحديثة. وهي ليست مسألة مستحدثة بل متواصلة منذ اكثر من قرن. وحتى التوازنات السياسية القائمة حاليا انما هي نتيجة تجاذبات بين الشيوخ الكبار وابنائهم حول مسائل الحكم التي تتأثر باختلاف عقلية الاشخاص وزمانهم ورؤاهم السياسية والايديولوجية، وان كانت جميعا محكومة بالأطر القبلية. ومع وجود بعض مظاهر الاختلاف الناجم عن تباين الظروف والانتماء للحقب الزمنية المختلفة، فان للقناعات الشخصية دورها في تأجيج الصراع ايضا. ومع الاعتراف بان اغلب حالات الاستخلاف تم بهدوء ضمن التوافقات بين الاشخاص والاجنحة الحاكمة، فقد حدث التغير احيانا بطرق غير معتادة. فالسلطان قابوس أقصى والده، سعيد بن تيمور، عن الحكم في العام 1970 في انقلاب أبيض بدعم بريطاني بعد ان اصبح الاخير عاجزا عن مواكبة التطور المجتمعي والمادي خصوصا في حقبة ما بعد اكتشاف النفط. وفي 1995 أزاح امير قطر الحالي، الشيخ حمد، والده خليفة بن حمد آل ثاني، عن راس الحكم، بينما كان خارج البلاد. وفي كلتا الحالتين ترك الحاكمان اللذين أقصيا عن الحكم  بلديهما وعاشا في الخارج. وفي العشرينات (1923)  من القرن الماضي أزاح البريطانيون حاكم البحرين آنذاك، الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، وعينوا نجله، الشيخ حمد مكانه، ورفض الحاكم المخلوع الاعتراف بحكم نجله حتى وفاته في العام 1932. هذه التغيرات في شخصيات الحكم حدثت لاسباب تنطوي على دوافع شخصية، ولكنها تمت بانقلابات "بيضاء" لم تؤد الى القتل او المواجهة المسلحة. ولكن الحدث الاكثر اثارة كان اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود في 1975، على يدي أحد أبناء أخيه، فيصل بن مساعد. وبعد مرور 35 عاما على ذلك الاغتيال، ما تزال الجهة التي تقف وراءه غامضة. وثمة تفسير بقي متداولا طوال هذه الفترة مفاده ان اغتيال الملك فيصل جاء ردا على موقفه خلال حرب 1973 عندما طرح مبدأ استعمال النفط كسلاح في المعركة ضد "اسرائيل"، الامر الذي لم يعجب امريكا، وانها، وفق هذه الرواية، قررت تصفيته. والبحرين التي تبدو مسألة الاستخلاف فيها محسومة لصالح ولي العهد الحالي، ليست بعيدة عن التنافس الداخلي على المنصب. فهناك مؤشرات لتوتر داخل منظومة الحكم على مستويين: اولهما بين الملك وابنائه من جهة وعمه رئيس الوزراء وابنائه من جهة اخرى بسبب شعور الاخير بالتهميش المتواصل، وثانيهما بين ابناء الملك، وبالتحديد بين ولي العهد واخيه الآخر، ناصر، من ام اماراتية. وليس خافيا وجود المماحكات والتنافر بين هذه الاطراف جميعا، الامر الذي لا يعكس استقرارا امنيا حقيقيا خصوصا مع استمرار الازمة  السياسية في البلاد.
 
ايا كان الامر فان الاستخلاف قضية تستحوذ على تفكير طبقة واسعة من الحكام المحليين والاقليميين والدوليين. وتعتبر الكويت حالة متميزة من بين دول الخليج، نظرا لتأطير نظام حكمها بدستور متوافق عليه بين عائلة آل  الصباح والشعب الكويتي. مع ذلك فهذا الدستور لم يحل اشكالية الاستخلاف، بل يقتصر على ما تضمنته المادة الرابعة التي تنص على ان "الكويت إمارة وراثية في ذرية المغفور له مبارك الصباح. ويعين ولي العهد خلال سنة على الأكثر من توليه الأمير، ويكون تعيينه بأمر أميري بناء على تزكية الأمير ومبايعة من مجلس الأمة". ولكن بسبب الحراك السياسي، اصبح العرف الحالي، منذ العام 2003، يقتضي فصل ولاية العهد عن رئاسة الوزراء، وهو تطور متميز في منطقة ما تزال تحكم شعوبها بمراسيم اميرية او ملكية، وليس بقرارات صادرة عن برلمانات منتخبة وفق دساتير توافقية. مع ذلك ففي غياب الدور الشعبي عن تشكيل الحكومة، سيظل الوضع الكويتي مهيأ للمزيد من التطورات، خصوصا مع السجال المتقطع حول طبيعة الحكم. وتبقى ا لمملكة العربية السعودية، محور النقاش والسجال حول مسألة الاستخلاف. فهي الدولة الكبرى في مجلس التعاون، وصاحبة النفوذ السياسي والاقتصادي الاكبر، والركن الاقوى للسياسة الغربية في المنطقة. وما تزال المملكة تعيش حالة مخاض عسير بانتظار حسم مسألة الاستخلاف في غياب مشروع سياسي اصلاحي ينظم عملية الحكم والادارة في هذا البلد الشاسع. فقد حان الوقت للانتقال من الجيل الاول الذي حكم الجزيرة العربية بعد وفاة مؤسس الدولة، الملك عبد العزيز بن سعود في 1953. فمع ان ولي العهد الحالي هو وزير الدفاع، الامير سلطان، فان حالته المرضية وتقدمه في السن قد تحولان دون توليه الحكم بعد وفاة الملك الحالي. ومن المتوقع ان تحدث بلبلة على اقل تقدير في اوساط العائلة السعودية حول منصب ولاية العهد وما اذا كان سيعهد به الى الامير نايف، وزير الداخلية، او الامير سلمان، امير الرياض. ومهما حاول البعض التقليل من شأن ا لمشكلة الاستخلافية في السعودية، فان هناك صراعا متواصلا خصوصا بين الأبناء، الذين تتقدم بهم الاعمار ولا يبدو افق التغيير الذي يتيح لهم المشاركة واضحا. ومن المؤكد ان مشكلة الحكم في بلد كبير كالسعودية أصعب منها في المشيخات الاخرى. وقد يستطيع بلد كهذا مواصلة الحكم بانماط قديمة بضعة عقود، ولكنه لا يستطيع الاستمرار على هذه الانماط مع تقدم الزمن وتغير الظروف وتطور العالم من حوله.
 
تعتبر مسألة  الاستخلاف من اشد القضايا حساسية في منطقة الخليج وبالتحديد دول مجلس التعاون الخليجي التي اصبحت اكثر عرضة للتأثيرات الخارجية خصوصا في ظل العولمة التي فتحت الحدود وكشفت المستور. فلا شك ان الاوضاع الاقتصادية في السنوات الاخيرة وما ادت اليه من تكدس اموال النفط بمستويات غير مسبوقة، ساهمت في اشغال الشعوب الخليجية بالمسائل الحياتية وحولتها الى مجتماعات اكثر جنوحا للاستهلاك، ولكن ظاهرة التخدير هذه لا يمكن ان تقضي على الشعور العام بضرورة اقامة منظومة سياسية مستقرة ينظمها القانون، وتحظى بقبول شعبي ومؤسسة على قوانين مقبولة. يصدق هذا القول خصوصا في منطقة الخليج التي تعاني من تجاذبات اقليمية غير قليلة واطماع اجنبية بدون حدود. ويكفي ان تنفجر اوضاع واحدة من هذه المشيخات نتيجة عدم التفاهم في اوساط العائلات الحاكمة، لتصبح هذه البلدان عرضة للمزيد من التوتر والاضطراب. ان هناك حاجة لمنظومات دستورية وقانونية على مستويين: الاول دستوري ينظم أطر الحكم وموقع العائلات الحاكمة فيه، والثاني، لوائح ملزمة تحدد أسس الاستخلاف والتوارث السياسي. فقد اصبحت السياسات القائمة على الموروثات القبلية والامزجة الشخصية غير كافية لتحقيق وجود مجتمعات مستقرة وانظمة استخلاف فاعلة، تمنع تكرر ما حدث في العقود الماضية من تناحر وإقصاءات وانقسامات وانقلابات. وبدون ذلك ستتلاشى الثقة الاجنبية في مدى استقرار انظمة  الحكم الخليجية ومدى قدرتها على مواكبة تطورات العصر ومستلزمات بناء مجتمعات مدنية حديثة.
 

copy_r