'هذه المرة اتمنى ان لا يتم التخفي وراء مقولة الامن القومي، كما فعل بلير'.
هذه كلمات ضابط عسكري يعمل بوزارة الدفاع البريطانية بعد ان اكتشف فسادا ماليا
كبيرا ضمن صفقة عسكرية عملاقة بين بريطانيا والمملكة العربية السعودية. فعندما
اكتشف الكولونيل السابق، ايان فوكسلي، البالغ من العمر 55 عاما المكلف بالاشراف
على صفقة تحديث وسائل الاتصال في الحرس الوطني السعودي تتجاوز قيمتها ثلاثة
مليارات دولار، طلب منه مغادرة الرياض فورا.
وفي احدى الليالي الشتوية الباردة من شهر كانون الاول/ديسمبر الماضي وجد الرجل
نفسه مجبرا على مغادرة الرياض خلال ساعات قليلة بأمر من مسؤولين كبار بوزارة
الدفاع، خوفا على حياته. فبينما كان يمارس دوره في الاشراف على سير الصفقة
اكتشف ان اكثر من 15 مليون دولار قد دفعت من قبل شركة ُ جي. بي. تي (التي
تملكها شركة إي. أيه. دي. اس، وهي شركة اوروبية كبرى لصناعة السلاح) الى حسابات
في جزر الكايمان لمسؤول سعودي، وبعد تحققه من الامر اكتشف انها اموال مدفوعة كـ
'عمولات' من الشركة للامير السعودي في مقابل تسهيل مهمة ابرام الصفقة. تحرك
الكولونيل السابق تحت وخز الضمير لوضع حد لما اعتبره 'فسادا' ماليا واخلاقيا،
فأخبر مسؤوليه، ولكن سرعان ما وجد نفسه مطالبا بالصمت ومغادرة الرياض. لم يسكت
الرجل بعد عودته الى لندن، فقام باتصالات عديدة لاقناع مكتب الاحتيال الخطير
Serious Fraud Office باجراء تحقيق في القضية، وما يزال حتى الآن يبذل جهوده
لتحقيق ذلك. الرجل يعرف ان الفساد المالي في المؤسسات الغربية الكبرى اصبح جزءا
من الممارسات اليومية، بل اصبح، في نظر الساسة وكبار التجار، ممارسة مقبولة
خصوصا في الظروف الاقتصادية الضاغطة في الوقت الحاضر.
ومن خلال تجربته يعرف السيد فوكسلي ان محاولات سابقة للتحقيق في قضايا مماثلة
لم يكتب لها النجاح لاسباب شتى من بينها ما ذكره في تصريحاته الاخيرة 'التذرع
بالمصلحة الوطنية العليا'. فقبل خمسة اعوام فقط كان لرئيس الوزراء البريطاني
السابق، توني بلير، موقفه الشهير بمنع 'مكتب الاحتيالات الخطيرة' من التحقيق في
اكبر رشوة مالية حدثت في التاريخ المعاصر. فعلى مدى عشرين عاما (ما بين 1985 و
2005) كانت شركة 'بريتيش ايروسبيس' تدفع مبلغ عشرة ملايين دولار شهريا لأمير
سعودي كرشوة مترتبة على صفقة 'اليمامة' الشهيرة التي تضمنت بيع اكثر من 100 من
طائرات 'تورنادو' للقوات الجوية السعودية. وبلغت القيمة النهائية لتلك الصفقة
اكثر من 80 مليار دولار. ومع نهاية العشرين عاما من عمر الصفقة بلغ ما استلمه
الامير السعودي 2.4 مليار دولار كعمولة في مقابل تسهيله الصفقة. ولما كشف
النقاب عن تلك الرشوة، طالب الكثيرون بالتحقيق فيها، اذ كيف تسمح كبرى شركات
السلاح البريطانية لنفسها ممارسة الفساد الرسمي على هذا المستوى؟ وبدلا من
الاصرار على التحقيق لكشف الحقائق، مارست السعودية ضغوطا هائلة على الجانب
البريطاني انتهت بتدخل بلير شخصيا لمنع مكتب الاحتيالات الخطيرة من الاستمرار
في التحقيق. اما مبررات منع ذلك التحقيق فقد اختصرها بلير بمسألتين: اولاهما ان
السعودية سوف تلغي الصفقة وتتوقف عن صفقات عسكرية مماثلة في المستقبل، وان
السعودية هددت بوقف التعاون الامني مع بريطانيا في ما يسمى 'الحرب ضد الارهاب'.
وفي العام 2008 اعلن السيد غولدسميث، النائب العام للحكومة البريطانية انه امر
بوقف التحقيق رسميا والتستر على اكبر رشوة معروفة في التاريخ الحديث، بلغت
قيمتها قرابة المليارين والنصف دولار!
فما حقيقة الفساد المالي في اكبر بلد نفطي في العالم؟ وكيف استطاع الدولار
النفطي اسكات اعرق نظام ديمقراطي ومنعه من اتخاذ خطوات ضد الرشوة والابتزاز
والسلوك غير الاخلاقي؟ وكيف يمكن النظر لنظام سياسي عالمي يعشش فيه الفساد
الرسمي على هذا المستوى؟ وهل تقتصر ظواهر الفساد على معاملات البيع والشراء
والصفقات العسكرية؟ برغم الوفرة المالية الكبيرة لدى الحكام والمسؤولين في
الدول النفطية فان الرغبة في اكتناز المزيد من المال ليس لها حدود.
وفي العديد من بلدان مجلس التعاون الخليجي، تتجسد هذه الظاهرة في العديد من
الظواهر: فاغلب المسؤولين الكبار يجمع بين السياسة والتجارة، الامر الذي ينطوي
على الكثير من تضارب المصالح والسقوط الاخلاقي واستغلال المناصب وتعارض
الاولويات. وهم شركاء في المشاريع التجارية، الكبيرة والصغيرة، وفي الوكالات
التجارية، والمشاريع العقارية، وكثيرا ما يفرضون على التجار المحليين دفع نسب
من الارباح لكي يمنحوا العطاءات الحكومية. بل انهم يزاحمون المواطنين حتى في
استيراد العمالة الاجنبية، والزراعة برغم ضآلتها. اما المشاريع العملاقة:
العسكرية والمتعلقة بالبنية التحتية والمصارف والعمارات التجارية الضخمة فيندر
ان يكونوا بمعزل عنها. ولكن الاخطر من ذلك ان يستعمل المال النفطي ضد مصالح
الشعوب، وذلك بشراء المواقف السياسية والاعلامية والتأثير على سياسات الدول
الغربية، وممارسة الابتزاز لتحييد المواقف الدولية ازاء قضايا الشعوب.
وما السياسة الغربية المتخاذلة ازاء ثورات الشعوب العربية الا بسبب تأثير المال
النفطي الذي استعمل لابتزاز الدول الغربية خصوصا الولايات المتحدة الامريكية
لمنعها من دعم التحول الديمقراطي، والتدخل للتأثير على نتائج الثورات
وتوجهاتها. وبين ليلة وضحاها تحولت الولايات المتحدة من ادارة متحالفة مع
الاستبداد الى بوابة لـ 'التحول الديمقراطي'. وتحولت دول مجلس التعاون الخليجي،
وهو المنظومة التي تستحيل على محاولات الاصلاح الديمقراطي نظرا لطبيعتها
البنيوية، الى طرف فاعل يطرح المبادرات لتحديد نتائج الثورات، كما حدث في ليبيا
واليمن. هذا مع العلم بان منظومة هذه الدول تتناقض تماما مع مفاهيم المشروع
الديمقراطي والشراكة السياسية الحقيقية. فالانظمة التي لا تسمح لشعوبها بكتابة
دساتيرها او المشاركة في انتخابات حرة تتمخض عن مجالس منتخبة قادرة على تشكيل
حكومات تعمل خارج دائرة تأثير العائلات الحاكمة، لا يمكن اعتبارها عرابة
لمشاريع الاصلاح والتحول الديمقراطي، ففي ذلك استسخاف بالعقول ليس له نظير.
الفساد المالي الخليجي بشكل عام والسعودي خصوصا لا يمكن تجاوزه او استيعابه
بشكل كامل من خلال بعض الحوادث والمعطيات، لانه يتجاوز كل تلك الاطر ويكرس نفسه
كمنظومة خاصة في اساليب الاحتيال والغش والنهب الشامل للاموال. وفي العقدين
الماضيين استعمل المال النفطي على نطاق واسع للتأثير على مراكز القرار الدولية
بشتى الوسائل. ولكي تتضح ابعاد ذلك يمكن ايراد ما يلي:
اولا: ان هذا الفساد يجد مصاديق له في عواصم الدول الغربية متجسدا في المشاريع
المعمارية العملاقة، وامتلاك العمارات والفنادق والنوادي الرياضية وبعض الشبكات
التجارية والمحلات الكبيرة، والمصانع.
ثانيا: استعمال المال النفطي للتأثير السياسي من خلال الانفاق الكبير على اعضاء
برلمانات تلك الدول وتشكيل مجموعات الصداقة من اعضائها، واستقدامهم للمنطقة
بعناوين شتى، مع انفاق هائل عليهم وعلى ذويهم بالمستويات التي لا يحلمون بها
عادة، ويضاف الى ذلك سعي الحكومات الخليجية بشكل خاص للتأثير على صناع القرار
الغربي باستمالة السياسيين والتمكين لهم ماليا ليستطيعوا خدمة المشروع الغربي
عموما.
ثالثا: شراء مواقف النشطاء والاعلاميين والسياسيين اما بشكل مباشر او بايصال
معلومات خاطئة لهم حول تطورات المنطقة، في مقابل رشاوى تدفع لهم مباشرة او
لحسابات مختلقة او منظمات ليس لها وجود.
رابعا: مساومة النشطاء السياسيين والحقوقيين لتغيير مواقفهم او تخفيفها ازاء
هذه الانظمة. وهنا قد لا يطلب من هؤلاء مدح الانظمة او الاطراء علبها، بل مثلا
تقليل عدد البيانات الصادرة بحقها وتخفيف لهجة النقد الى الحد الادنى الممكن.
خامسا: مقايضة المواقف مع ممثلي الدول الاخرى في مقابل استحداث مواقف جديدة.
ويتم شراء مواقف بعض الخبراء بمجلس حقوق الانسان مثلا بتقديم دعم مالي لمنظمات
يديرونها، بدلا من تقديم النقد بشكل مباشر. ومن بين اكثر الاشخاص استعدادا
لقبول الرشاوى العسكريون المتقاعدون. فبحكم عمل هؤلاء، يقضي بعضهم وقتا في دول
مجلس التعاون وفق الاتفاقات العسكرية بين بلدانهم وتلك الدول، وتجري الاتصالات
معهم آنذاك لتسخيرهم لدعم سياسات الحكومات الخليجية عند الحاجة. ويكتب هؤلاء
مقالات في الصحف البريطانية تدافع عن تلك الانظمة او تهاجم المعارضة، باساليب
وقحة ورخيصة. وبسبب الاوضاع الاقتصادية المتداعية في الدول الغربية، فان هناك
الكثيرين ممن يسيل لعابه لاستلام المال النفطي في مقابل خدمات سياسية واعلامية
لصالح تلك الحكومات. كما ان الخبراء العسكريين يمثلون حلقة وصل مع الجهات
العسكرية الرسمية ومصانع السلاح الغربية، ويقضمون مبالغ كبيرة في مقابل الخدمات
التي يقدمونها، ولا يجدون غضاضة في التنازل عن مواقفهم الانسانية في مقابل حفنة
من المال. ويتم تشجيع بعض هؤلاء العسكريين او السياسيين لانشاء شركات علاقات
عامة تستعمل لتمرير الرشاوى والاموال في مقابل الدفاع عن انظمة الاستبداد. انه
سقوط اخلاقي مروع، تمارسه الحكومات التي تمتلك اموالا نفطية هائلة وتشجعه
حكومات الدول الغربية التي تتسابق في ما بينها لكسب مشاريع التسليح من تلك
الدول.
ومنذ اندلاع ثورات الربيع العربي تضاعفت جهود الدول النفطية لشراء المواقف
الدولية الدولية الداعمة لسياساتها المناوئة لتلك الثورات. فقد اعلنت السعودية
عن قرارها رفع حجم وارداتها العسكرية من الولايات المتحدة من 60 الى 90 مليار
دولار. وبعد ذلك شهد العالم تغير الموقف الامريكي الذي كان الرئيس اوباما قد
اعلنه قبيل سقوط حسني مبارك: اننا لا نريد ان نكون على الجانب الخاطىء من
التاريخ، في اشارة الى رغبته بدعم الثورات. ولكن سرعان ما تغير ذلك الموقف
واصبحت السياسة الامريكية واضحة في هدفها: منع الثورات من تحقيق النصر. وحتى في
الدول التي سقط زعماؤها ما يزال الوضع السياسي يراوح مكانه، بسبب التدخلات
الامريكية والسعودية ضمن محور 'الثورة المضادة'.
واعلن اغلب دول مجلس التعاون زيادة الانفاق العسكري نظرا للوفرة المالية
الهائلة وبسبب الاضطراب السياسي الجاري او المتوقع. وفي مقابل ذلك الانفاق
الكبير خصوصا في مجال العلاقات العامة تراجعت امريكا عن الكثير من المواقف
والسياسات الداعمة للتحول الديمقراطي، واصبحت اكثر تحالفا مع الاستبداد وأقل
حماسا للتغيير. ويؤكد النشطاء الحقوقيون والسياسيون الداعمون للتغيير العربي ان
دول مجلس التعاون خصوصا السعودية ضاعفت انفاقها على شركات العلاقات العامة
وأسست لها مجموعات ضاغطة لكسب مواقف داعمة بين اعضاء الكونغرس الامريكي وفي
الدوائر الاعلامية، وتضاعف الدعم المالي للمؤسسات الاسلامية في العواصم
الغربية، كل ذلك للسيطرة عليها وتوجيه مواقفها ضمن اطر الاستقطاب الديني
والمذهبي. وكررت تلك السياسة في اغلب الدول الاوروبية ذات النفوذ السياسي في
المنطقة. انها محاولة لتكريس الاستبداد ليس بقوة السلاح والقمع فحسب بل بكسب
دعم سياسي من القوى الكبرى لمنعها من دعم حركات التغيير. واستغلت هذه الدول
حالة التوتر في العلاقات بين ايران وهذه الدول للتخويف من ان تكون الثورات
العربية امتدادا للثورة الاسلامية في ايران، واوضحت لها ان انتصار الثورات يعني
انتصار الخط المعادي للمصالح الغربية وتهديد مصالح 'اسرائيل'. وفي عالم يهيمن
عليه منطق المصلحة ويلعب رأس المال فيه الدور المحوري في صياغة مواقف الدول
الغربية، اصبحت المعادلة غير متكافئة بين دعاة التغيير الديمقراطي وقوى
الاستبداد التقليدية. انه صراع على هوية منطقة الشرق الاوسط، وتوجهه وسياساته
وانتمائه. وهو كذلك استغلال بشع للمال النفطي الذي يفترض ان يكون ملكا للامة
وشعوبها ليصبح اداة ضد مصالحها. وبالتالي اصبحت قضية الصراع اكثر تعقيدا
وتداخلا، وتوسعت دائرة الصراع التي تخوضها الشعوب الثائرة لتشمل كذلك اساليب
التأثير على مواقف الدول الغربية.
وهنا لا بد من ذكر بعض الحقائق لاكمال صورة المشهد السياسي الحالي الذي تعيشه
الثورات: اولها: ان التضحيات التي قدمتها هذه الشعوب حتى الآن كبيرة جدا، بشريا
وماديا، وان ثمن تلك التضحيات يجب ان لا يكون اقل من تحرير هذه البلدان من
الظلم والاستبداد والديكتاتورية. ثانيها: ان دور المال النفطي في التأثير على
السياسات الدولية ازاء ما يجري خطير ومؤثر، ولكنه ليس العامل الحاسم، لان
الشعوب انطلقت معتمدة على انفسها وليس على دعم الخارج. ثالثها: ان التدخل
الخارجي كان، وما يزال، لغير صالح الثورات، خصوصا بلحاظ التاريخ المعاصر
للمنطقة ودور الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، في الحفاظ على الاوضاع
السياسية الراهنة والحيلولة دون حدوث التغيير.
رابعها: ان المال النفطي استطاع في السابق شراء أحدث الاسلحة التقليدية، وأكثر
وسائل التعذيب تأثيرا، ولكنه فشل في كسر ارادة شعوب المنطقة، ولم يستطع التنبؤ
بالبركان الثوري الذي تتطاير حممه على رؤوس الطغاة. خامسا: ان قوى الثورة
مطالبة بعدد من الامور من بينها الصبر والمصابرة والمرابطة، ومنها توحيد الصف
وعدم المساومة على الطلب الجوهري وهو اسقاط الانظمة الاستبدادية، وان اية
مساومة على ذلك الهدف سيضيع فرصة لن تتكرر في المستقبل القريب. خامسا: ان الغرب
لن يكون يوما صديقا لقوى التغيير، وبالتالي فلن يحترم سوى الطرف القوي وعلى قوى
الثورة الشابة تعميق الثقة بالنفس وبالله وعدم الخوف او الخشية من هذه القوى
المعادية لحريات الشعوب وحقوقها.