يخوض العالم العربي اليوم معركته الكبرى مع الظلم والطغيان ، يخوض هذه
المعركة على مستوى الواقع ، يخوضها على هذا المستوى بكل حزم وعزم ، بل وبإصرار
استثنائي لم يُعهد منه من قبل ؛ وكأنه يتعرف لأول مرة على حقه في الوجود كإنسان
. إنه يخوضها كمعركة مصير ،لامصير جيل ولاجيلين ، وإنما مصير تاريخ يتأبّد في
الوعي إلى درجة الوعي به - ومن خلاله - وكأنه هوية وجود ، بل وكأنه حقيقة وجود.
لانقول : الشمس تُشرق من جديد ، بل نقول - وبكثير من التحفظ ! - : الشمس تُشرق
لأول مرة في فضائنا العربي ؛ لأول مرة يرى العربي بأُم عينيه المكتحلتين منذ
القِدم بالهمّ والأسى ، وبدموع من دم مسعور ، خيطاً من النور الذي يعد بغد جديد
، خيطاً من النور الذي لا نزال معه بين الحقيقة والخيال.
اليوم يبدو العالم العربي / الإنسان العربي وكأنه يفيق ، يبدو وكأنه ينبعث من
رقدة مَوات ، بل يبدو وكأنه ينبعث من حالة عدم ؛ بعد أن استطاعت قرون من الظلم
والقهر والاستبداد أن تُميت الإنسان فيه ، أن تُخرجه من ذاته ، أن تلغي وجوده ،
أن تنقله من عالمه الحقيقي : عالم الإنسان الحر ، الإنسان الفاعل ، الإنسان
المتصرف بعالمه ، إلى عالم الأشياء القابلة للتطويع والاستخدام .
هذه المعركة الإنسانية التي يخوضها العالم العربي اليوم مع طغاته وساحقيه ،
والتي يخوضها باذلا أضخم ما يمكن من تضحيات ، هي معركة تجري على مستوى الواقع
فحسب ، هي معركة لم تُسبق بمرحلة صناعة وعي جمعي مُحصّن ضد (حالة الطغيان) التي
تشربتها جميع أنسجة الجسد الثقافي لدينا . أي أن الإنسان العربي اليوم ، وكما
أشرت إلى ذلك في مقال الأسبوع الماضي ، (يحارب الطغيان) ، وفي الوقت نفسه (يصنع
الطغيان) ، يرفض ويقبل في آن واحد ، يُمجّد طاغية ، بل ويرفعه إلى درجة القداسة
، بينما يُدين ويلعن طاغية آخر ؛ ربما كان أقل من الأول طغيانا واستبدادا . إنه
يبذل روحه الغالية في سبيل التخلص من الطغيان ، في الوقت الذي يبذل فيه روحه
الغالية ذاتها في سبيل حماية ثقافة الطغيان !.
لا خلاف اليوم على أن الإنسان العربي لا يزال متخلفا ؛ رغم كل صور التحديث التي
تطفو على سطح وعيه المأزوم بعمق ، وعيه المأزوم بعمق تاريخ تخلفه الفظيع . ومن
هنا ، نلاحظ ارتباطه الآلي بالمُعطى المباشر وبالمثير الآني ، إنه كأي - كائن
بدائي غرائزي - مشدود إلى عالمه المحسوس من جهة ، ومشدود إلى عالمه الأسطوري
(وِجهة الهروب من العالم المحسوس) من جهة أخرى . وبقدر ما يضيق ذرعا ببؤس عالمه
الأول (= العالم المحسوس) ، ويتصوره غاية الجحيم ؛ نجده يهيم حباً ويتغنى
تقديساً بنعيم عالمه الموهوم (= العالم الأسطوري تاريخه القديم) .
الإنسان العربي اليوم يرفض الظلم الذي يراه ويعايشه واقعيا ، إنه يُحارب الظلم
الذي يقع عليه مباشرة ، بينما يقبل ، بل ويقدس الظلم الذي وقع على الآخرين ،
خاصة عندما يرفع الظالم المستبد بعض الشعارات الجوفاء التي تضرب على أوتار
نزوات جماهير الغوغاء . أي أن وجود فاصل زماني أو مكاني بين الإنسان العربي،
وبين حالة الطغيان ؛ يُعمي حاسته ، بل يُميتها ؛ إلى درجة أن هذا الفاصل يصبح
كفيلا بإضفاء تسامح غير محدود على حالة الظلم مهما كانت بشاعتها ؛ حتى ولو كانت
تتمثل في عملية إبادة جماعية لعشرات الأولوف من الأبرياء.
إن وجود هذا الفاصل ، وأثره في تحديد طبيعة الرؤية التي يقيّم من خلالها العربي
الوقائع والأشخاص ، هو ما يجعلنا نرى المتناقضات في الموقف الذي يتخذه بعض
الإعلاميين والمثقفين ، فضلا عن جماهير التقليدية ، من شخصيات الماضي والحاضر.
فمثلا ، نجد أن الذي يُدين الرئيس المصري السابق : حسني مبارك ونظامه بأقسى
درجات الإدانة ، هو الشخص / التيار ذاته الذي لا يرى غضاضة من الترحم على
الخليفة الأموي الذي مكّن الحجاج بن يوسف من السلطة (بل وبعضهم يترحم على
الحجاج ذاته!) ، وسمح له بارتكاب كل تلك المذابح على مدى أكثر من عقدين من
الزمان ؛ رغم أن كل الانتهاكات التي ارتكبها مبارك ونظامه ، وعلى مدى ثلاثة
عقود ، لا تصل إلى 1% من انتهاكات سنة واحدة من سنوات الحجاج !. أي أن الاحتكاك
المباشر بالحدث ضخّم بدرجة مهولة تلك الانتهاكات التي قام بها نظام مبارك ؛
بينما نجد أن الفاصل الزمني جعل من جرائم الحجاج (وغيره كثير في تاريخنا
المجيد) مجرد أخطاء وتجاوزات ، أو جرائم لا تتعدى مسؤوليتها شخص : الحجاج ؛ هذا
في أحسن الأحوال.
من المدهش حقا ، والذي يدل على ضمور الحس الإنساني لدى الإنسان العربي ، إلى
درجة الانتفاء التام في بعض الأحيان ، أن معظم المثقفين والإعلاميين المصريين
الذين شنعوا على مبارك ونظامه ، ورقصوا طربا على أشلاء النظام ، ولا زالوا إلى
اليوم يفعلون ذلك ، هم أنفسهم الذين أقاموا المآتم الإعلامية الكبرى للمجرم
الهالك : صدام حسين ، حيث رفعوه فيها إلى درجة الأبطال ، بل وإلى درجة الشهداء
. أي أن الفاصل المكاني هنا (والذي يجعل من الاحتكاك المباشر بوقائع الظلم
متعذرا ؛ حيث المعاناة من نصيب الآخرين ) ، جعل من أكبر مجرم في التاريخ العربي
الحديث : صدام حسين بطلا شهيدا ، بينما جعل من مبارك ظالما مستبدا ؛ مع أن
الفرق بين الرجلين واسع بأوسع مما بين الأرض والسماء.
بل ، أليس مما يبعث على التساؤل ، التساؤل الذي يؤكد الأثر السلبي لهذا الفاصل
الزماني / المكاني الذي يُميت الحس الإنساني ، أن أشد المُشنّعين على مبارك
ونظامه ، سواء في زمن عنفوان النظام أو حتى بعد سقوطه ، والذي كان يمارس
التشنيع من باب أن نظام مبارك نظام دكتاتوري ، نظام فرد ، نظام يقمع الحريات أو
يحجمها ، نظام لا يعترف بمبادئ الديمقراطية ، نظام تنتهك أجهزته الأمنية
القمعية كثيرا من مبادئ حقوق الإنسان ، هو ذاته الشخص الذي يعلن صراحة ، وبلا
خجل جراء هذا التناقض ، أنه ناصري ، أي ينتمي إلى أشد الأنظمة العربية
دكتاتورية وقمعا وفشلا في تاريخ العرب الحديث (= النظام الناصري) ؟! .
لهذا السبب ، لست متفائلا كثيرا بهذا الربيع العربي الذي يجري على أرض الواقع ،
لا لشيء ؛ إلا لأنه لم يُسبق بربيع فكري يتم من خلاله تحرير العقول ؛ كيما
نتوصل إلى وعي جديد . لست متفائلا ؛ لأن الفاعلين في هذا الربيع ، المحاربين
للطغيان ، لا يزالون على علاقة حميمية بطغيان الماضي وطغاته ، لا يزالون يمنحون
الطغيان المُوثّق في تاريخنا القريب أو في تاريخنا البعيد كثيرا من التمجيد ،
أو - وهذا في أحسن الأحوال - كثيرا من الصمت المريب . وهذا يعني أن هناك قابلية
شديدة لأن تعود حالة الاستبداد والقهر بأشد مما كانت ؛ لأن القادة الجدد ، أو
المؤثرين على هؤلاء القادة ، يكتنزون في أعماق وعيهم تراثا طويلا من الطغيان
المدموغ بشتى أنواع التبرير.
إن مأساتنا اليوم تتحدد في أن أكثر المُندّدين بالطغاة والطغيان ، وخاصة أولئك
الذين ينطلقون في تنديدهم من مواقع محافظة ذات صبغة دينية أو قومية ، يتسامحون
، بل ويمجدون طغيان الماضي . إنك تقرأ لهم ، وترى كيف يمرون على الشخصيات
التاريخية التي كانت تمارس الطغيان (الطغيان بأقسى وأوضح صوره) ومع هذا ، لا
تجد لهم أية كلمة تحمل طابع التجريم لأولئك الذين سحقوا الإنسان ، بل كثيرا ما
تلمسوا لهم الأعذار ، وأدخلوهم في زمرة الأبطال !.
عندما تصف - بحق - طاغية في الماضي بأنه (مجرم كبير) ، تثور ثائرة جُهّال
التقليدية ، ممن أخذوا رؤيتهم التاريخية عن طريق اجترار المقولات البلهاء ذات
البُعد التحصيني ؛ فيصفونك بأوصاف ربما تلامس سقف التكفير ؛ لأنك لا تشاركهم في
بناء وتحصين الوهم الكبير . إنهم يواجهون الحقائق العلمية ب(كبسولات تقليدية
جاهزة) لا تعكس رؤية في التفكير ؛ بقدر ما تعكس رؤية في التكفير .
هؤلاء التقليديون البسطاء ، ورغم سذاجتهم البالغة ، أو ربما بسبب سذاجتهم
البالغة ، تروج مقولاتهم في أوساط الجماهير ؛ مع أنك لو تأملت خطابهم المكرور ؛
لوجدته خطابا مفضوحا ؛ لأنهم يضعون الماضي بكل ما فيه من جرائم وانتهاكات
ومذابح في دائرة مُحصّنة ، دائرة لا يُسمح بالاقتراب منها ؛ تحصيناً بأوهام
القداسة ؛ بينما هم أنفسهم الذين لعنوا ، ولا يزالون يلعنون : ابن علي ونظامه
(وهو يستحق ذلك بجدارة) من منطلق أنه نظام دكتاتوري قمعي . أي أنهم يُشيطنون :
ابن علي ، بينما هو ليس أكثر من تلميذ نجيب في مدرسة ذلك المجرم الكبير القابع
في صدر تاريخنا المجيد.
معظم ما كتبه ، ويكتبه ، التقليديون عن تاريخنا يغيب عنه الحس الإنساني ؛ لأنه
كتب تحت وطأة البحث عن ما يمكن الاعتزاز به في زمن الاندحار . إنهم يكتبون
متسامحين مع كل جرائر التاريخ وجرائمه الكبرى ؛ وكأنهم - وإن لم يشعروا -
يصنعون مشاريع استعباد واستبداد واضطهاد ، والأدهى أنهم بعد ذلك يصرخون من ألم
هذا الاستعباد والاستبداد والاضطهاد . إنهم ينسون الإنسان هناك ، ويُطالبون
بالالتفات إليه هنا ، وكأن الإنسان هنا ليس هو الإنسان هناك . أي أن الإنسان في
وعيهم يتجزأ أو يتنوع أو يتدرج ! . ولا شك أن كل هذا ليس إلا نتيجة غياب الوعي
بالإنسان من حيث هو إنسان ، بعيداً عن موقعه من هذا السياق أو ذاك السياق .
إذن ، تاريخنا هو واقعنا ، وواقعنا هو تاريخنا . وعلى ذلك ، فليست الكتابة في
التاريخ ممارسة معزولة عن الكتابة في الحاضر ؛ لأن مواجهة التاريخ هي مواجهة مع
الحاضر ، كما أن العكس صحيح .
البحث عن الإنسان في التاريخ هو بحث بالضرورة عن الإنسان في الحاضر ، والانتصار
له في التاريخ هو انتصار له في الحاضر . وعندما لايتم تصور الإنسان هنا ، كما
هو هناك ، فهذا يعني أن هناك زيفاً في الرؤية أو تزييفا متعمدا لها ، كما يعني
أن هناك (إرادة قمع) مُبطّنة تتخلق في ضمائر المقموعين قبل أن تتراءى ماثلة في
ضمائر القامعين ، ومن ثم تتجسد في الواقع من خلال سلوكياتهم التي تتبرر - آليا
- بقوة حركة تزييف التاريخ ، وهو التزييف الذي يجري لصالح الطغاة والطغيان وضد
مصالح المقموعين من بني الإنسان.
أخيرا ، لابد من التأكيد على أن الذين يدعون إلى الحياد مع الماضي ، بوصفه
وقائع أمة قد خلت ، كاذبون أو مخطئون من جهتين :
الأولى : أنهم هم أول من يستدعي الماضي ، هم الأكثر استحضارا له ، هم الذين
يجعلونه مشروعا حاضرا بكل ما فيه ، وليس نحن الذين نستدعيه من خلال البحث
العلمي المجرد . ليس مرادهم من مناداتهم بترك الاشتباك مع أحداث التاريخ ترك
التاريخ تماما ، وإنما يريدون أن نتركه لهم ، أن ندعهم يستحضرون التاريخ كما
يريدون ، في خدمة ما يريدون ، وأن يصمت كلّ من يختلف معهم في قراءة هذا التاريخ
. هذا مايريدونه بالضبط من ترك نبش وقائع التاريخ.
الثانية : أنهم حتى لو صدقوا في نسيان الماضي وتجنب استدعائه ، فإن الواقع لا
يستجيب لذلك . التاريخ - شئنا أم أبينا - حاضر فينا ومعنا ، ومساءلته ليست
مساءلة أمة قد خلت ، بل هي مساءلة أمة تفعل فينا صباح مساء . وكمثال ، فإن
معركة صفين لم تنتهِ ، فهي لا تزال دائرة إلى اليوم ، ولعل ما يحدث الآن في
العراق ليس إلا فصلًا من فصولها الممتدة على طول امتداد تاريخنا ؛ كما أن
معركتنا مع الخوارج ليست إلا فصلًا من فصول معركة النهروان !