gulfissueslogo
أزمة الدولة القطرية في الخليج
محمد فؤاد

 الدولة التي نشأت بعد اتفاقية سايكس بييكو 1916 كانت بإرادة اجنبية وباعتراف اجنبي ولم تنبثق من اردة شعبية واجماع عام او عقد اجتماعي سابق. ولذلك جاءت ـ هذه الدولة في سياق تطورات سياسية واتفاقيات تقسيم دولية، فبقيت الدولة مرتهنة للخارج في تصميمها لتأمين مصالح اجنبية بالدرجة الاولى. وجاء مشروع التحديث كتعبير عن حاجة لتطور نمط العلاقة الاقتصادية والسياسية بين هذه الدولة والقوى الكبرى.
 
 

تحديث بلا حداثة


 
برامج التحديث التي شهدتها دول الخليج مثلت استجابة مباشرة لعملية تحول اقتصادي وسياسي على الصعيد العالمي، وتستهدف بدرجة اساسية ارساء بنى اقتصادية وسياسية تسهل عملية انتقال الرساميل ومرور البضائع لمنطقة أريد لها ان تتحول الى سوق دائمة للبضائع الاجنبية. وكيما يتم تأمين وادامة هذه السوق تم ربط هذه الدول باتفاقيات عسكرية وامنية باهضة التكاليف حتى تجاوز الانفاق العسكري في الخليج الى ما يربو على الترليون دولار خلال العقدين الاخيرين.
 
فالتحديث الذي شهدته دول الخليج مصمم لاحداث تغيير في البنى التحتية (شبكة المواصلات والاتصالات وتحديث اجهزة الدولة الادارية والامنية والعسكرية) فيما كانت الارادة العليا في هذه الدولة مدعومة بارادة دولية تتجه الى اهمال مقصود للبنى الفوقية وتحديداً النظام السياسي.
 
فالتحولات المادية التي شهدتها دولة الخليج لم تترافق مع تبديل الاساسات الايديولوجية والسياسية لهذه الدولة، ولذلك قيل بأن هذه الدولة امتصت التكنولوجيا بلا ايديولوجيا او استوعبت التحديث بلا حداثة، فأخذت بخيار النمو وأهملت التنمية الحقيقية التي تستهدف اعادة صياغة الدولة بما يموضعها على سكة التحول الجوهري في بناها الداخلية ونظام قيمها وسلوك رعاياها ونظم ادارتها.
 
فالتشويه المقصود لعملية التحول في دول الخليج والفشل في هضم مقومات الدولة الحديثة ببعديها التحديثي والحداثي تسبب في اختلالات بنيوية عميقة وأفرز ظواهر راديكالية جاءت كانعكاسات لتشوّه الدولة ذاتها. بكلمات اخرى، أن الدولة حملت نقيضها الموضوعي وتحولت بمرور الوقت الى حاضنة لكتلة التناقضات الداخلية المفتوحة على عملية تراكمية لهذه التناقضات بما يؤدي الى انسداد شديد في افق الدولة ومستقبلها.
 
ثمة جدل واسع بين الباحثين الاكاديميين والمهتمين بتحولات الدولة في منطقة الخليج حول العوامل المساهمة في بروز تيارات متطرفة داخل هذه الدول التي كان يفترض ان يسهم الثراء النفطي في ارخاء نزعة التطرف او حتى اخمادها بين شعوبها. العجز الذي واجه الباحثين في تفسير انفجار الظاهرة الاصولية في شكلها الراديكالي في ظل عملية التحديث ساقهم للاستسلام لنتيجة تقول بأن التحديث افرز فئتين هما فئة معلمنة واخرى اصولية. واعتقد هؤلاء الباحثون بأن ذلك التفسير كفيل بتفديم رؤية تحليلية لظاهرة التطرف.
 
في حقيقة الامر، أن انبثاق اتجاهين متقابلين علماني واصولي كمفرزين داخل المشروع التحديثي ليس سوى نتيجة طبيعية لعملية تحديث مشوهة. وليس غريباً أن تختلط عناصر التحديث بعناصر من الاساس الايديولوجي للسلطة لتولد جنينين مشوهين يحمل كل منهما خصائص هذه الخليط غيرالمتجانس. فكانت النزعة العلمانية في شكلها المتطرف رد فعل على الخطاب الديني للدولة وفي نفس الوقت استجابة لموجات التحديث، وجاءت الاصولية الدينية كرد فعل على صدمة التحديث وفي نفس الوقت احياء لما توارى في خطاب الدولة الديني.
 
عملية الفصل التي تمت بين التحديث بما يحدث من تغييرات في البنى التحتية، والحداثة في تغييراتها الفوقية (الديمقراطية، حقوق الانسان، المجتمع المدني، والليبرالية الرشيدة) هي وراء انفجار ظواهر مشوّهة سواء كانت علمانية او اصولية. فلا العلمانية المنبثقة في زمن التحديث المشوّه تنسجم مع علمانية الغرب ولا الاصولية المنبثقة عن مشروع التحديث المشوّه تنتمي الى الاسلام في بعده الروحي والرسالي.
 
ان النتيجة الاكتشافية المزعومة التي توصل اليها اوليفر روي بأن التحديث هو المسئول عن انتاج هذين الاتجاهين المتقابلين يغفل الحميمية بين التحديث والحداثة لانشاء دولة مكتملة النمو سياسياً فتشييد بنية تحتية صلبة تضمن وجود الدولة وقيامها بينما تكفل الحداثة مشروعيتها واستقرارها، وهذا ما ذهل عنه روي.
 
 
 

ايديولوجية الفتح والدولة الريعية


الدولة التي نشأت في الخليج مثّلت نموذج الدولة القهرية في استعمالها للقوة العسكرية في اخضاع المناطق والحاقها بمركز السلطة، فجاءت هذه الدولة ممثلة لأقليات تجتمع على قرابة الدم او العصبية المذهبية والعشائرية. الاساس الايديولوجي لهذه الدولة تمثل في مدعى الاستحقاق التاريخي والاستحواذ القهري لمناطق ألحقت بقوة السلاح.
 
وكان التحام المناطق في وحدات سياسية واحدة وقيام دولة حديثة قد تطلب خطاباً جديداً يتناسب ومنطق الدولة ويختلف كلية عن خطاب الفتح الذي يسبق غالباً قيام الدولة تماماً كمنطق الثورة ومنطق الدولة. ما حدث ان ذات المدعى ظل فاعلاً ومهيمناً على علاقة المجتمع بالدولة بل أعيد توظيفه في بناء مشروعية وسياسة الدولة، بل وتعميمهما في كل مجالات عمل اجهزتها الادارية.
 
ولذلك ظلت الدولة تغذي وباشعاعات عالية ايديولوجية الفتح باعتبارها الكفيلة بتأمين مشروعيتها وآهليتها للبقاء على سدة الحكم.
 
وهذا يفتح أفق الحديث على نموذج الدولة الريعية كأحد تمظهرات ايديولوجية الفتح، حيث تستعيض الدولة عن الاصطفاف الشعبي الحر كضمان لاستقرارها بشراء ولاء الافراد وذمم الجماعات وتقديم التسهيلات المالية والخدمية. فالدولة الريعية او الخراجية تؤمّن بقاءها عن طريق جمع المحصول واعادة توزيعه، مما يحيل الدولة الى مؤسسة ذات وظيفة مزدوجة: جمع الخراج وتوزيع المؤونة وهذه الوظيفة تتطلب بناء مؤسسة عسكرية وأمنية قادرة على حماية مصادر الثروة وتحصيل الخراج ومؤسسات اخرى تتكفل بتأمين الحدود الدنيا من حاجيات القوة العاملة في هذه المصادر، أي بكلمات اخرى استعمال العصا والجزرة كسياسة مازالت فاعلة.
 
ولكن، وعلى المدى الاستراتيجي طويل الامد، تبقى الدولة الريعية مرتهنة لكمية الخراج وعمره الطبيعي. ان فشل الدولة في انتاج بدائل لمشروعيتها واستمرارها وتعويد رعاياها على قاعدة ان الولاء قابل للشراء والبيع يفقد هذه الدولة القيمة القابلة للاستثمار في زمن الازمة وهي عذر الرعايا، فالعلاقة الناشزة التي تأسست على مبدأ المقايضة الولاء بالمال تنتهي غالباً مع نضوب مصدر الولاء وحينئذ تصبح الدولة ذاتها عارية عن الشرعية ومبررات البقاء والاستقرار.
 
10/4/2002
 

copy_r