gulfissueslogo
دراسة صادرة عن مركز الدراسات الإستراتيجية و المستقبلية - جامعة الكويت
آن الأوان لقرارات تاريخية في منطقة الخليج
فاهان زانويان

 مقدمة
 
 
 
لقد أصبح معروفا أنه بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 تغيرت الخريطة الجيوبوليتيكية بشكل أضر بمنطقة الخليج عموماً والمملكة العربية السعودية بشكل خاص. ومن ناحية ثانية هناك نقص في فهم وإستيعاب عمق هذه النتائج وأثرها على مستقبل منطقة الشرق الأوسط. فمنطقة الشرق الأوسط التي تمر حاليا بمرحلة مصيرية حرجة، حيث ستحدد قرارات وسياسات واحداث اليوم مصير شعوبها لعدة أجيال قادمة. وما يفاقم من خطورة الموقف أن المنطقة نفسها لا يد لها في الدفع بهذه العملية، وإلا خسرت الكثير وتفاقمت مشكلاتها.
 
 فبعد مرور أكثر من عام على أحداث 11 سبتمبر 2001 أصبح من المتعارف عليه في الولايات المتحدة أن ظاهرة أسامة بن لادن ليست معزولة بل هي تجسيد لفشل أساسي في النظام العربي. وبدأت الأضواء تسلط على التحديات الداخلية التي تواجه المملكة العربية السعودية - وهي الدولة الخليجية الأكثر ثقلا- ودول الخليج، وصارت الأنظار توجه نحو المسؤوليات التي تقع على دول المنطقة في مواجهة الإرهاب، ويتم هذا في ظل طرح عام من قبل قوى عالمية، وخصوصا الأميركية، بأن الوضع المحلي الحالي من الضعف والهشاشة بحيث لا يمكنه التعامل مع خطر الإرهاب. ويدعم هذا المفهوم بشكل مستمر ما تعتبره واشنطن رد فعل رسمي متأخراً ضعيفاً وغامضاً وغير مقنع من الحكومات العربية عامة والحكومة السعودية خاصة، على تلك الأحداث ، وهو، جزئيا، أحد الأسباب التي أدت إلى تدهور العلاقات السعودية-الأميركية. كما يعكس الكثير من الأراء الأميركية المكتوب منها وغير المكتوب والذي تتناقله أوساط عدة في العاصمة الأميركية.
 
 في مفهوم الرأي العام الأميركي إمتد هذا "الحط من شأن" المملكة العربية السعودية وعلاقتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة ليشمل منطقة الخليج ككل، حيث تعتبر المنطقة بأسرها  "جزءا من المشكلة" الإرهابية وفق التعريف الأميركي. إن الإختلافات الهامة بين دول مجلس التعاون تصبح تفاصيل غير مهمة في مثل هذه المفاهيم المعممة. إلا أن المسؤولين رفيعي المستوى في الإدارة الأميركية لا يزالون يدركون القيمة الاستراتيجية للعلاقة مع الخليج والفروقات البسيطة في علاقة الولايات المتحدة مع مختلف دوله. إن غياب الجهود النشطة والصادقة من قبل دول المنطقة لدعم العلاقة الإستراتيجية، أوجد فراغا أفسح في المجال لسيطرة العناصر الراديكالية في أوساط قادة الفكر المحافظين (الانتليجنسيا) في واشنطن الذين يروجون لمفاهيم وسياسات من المحتمل أن تؤثر على مستقبل المنطقة أكثر من أي تدخل خارجي في مرحلة ما بعد الحرب مع العراق. وسوف تتم مناقشة فكر هذه الراديكالية الحديثة القوة، بتفصيل أكثر لاحقا.
 
في موازاة التقليل من شأن منطقة الخليج تزايدت أهمية وقدرة  المنافسين السياسيين والاقتصاديين الرئيسيين للخليج العربي. وخرجت إسرائيل وروسيا وتركيا "كمنتصرين" إلى عالم ما بعد 11 سبتمبر. وهناك مجال لدول أخرى، منها الهند وباكستان،  للظهور بمظهر المنتصرين. أما إيران فوضعها غير ثابت بسبب  مجموعة كبيرة من القضايا المحلية، إضافة لآثار المناخ الإقليمي المتغير ولما حصل في أفغانستان والضغط على منطقة الشرق الأوسط والعراق.
 

 لماذا يعتبر الوضع الحالي أكثر خطورة من التحديات السابقة التي مرت على منطقة الخليج؟


 
 اجتاز الخليج في الماضي العديد من العواصف السياسية والعسكرية. وإستطاع  التعامل، على سبيل المثال لا الحصر، مع موجة القومية العربية وأربع حروب بين العرب وإسرائيل، والثورة الإيرانية، والحرب العراقية-الإيرانية، والغزو العراقي للكويت والحرب التي أعقبته. وقد إجتاز الخليج ومعه المملكة العربية السعودية كل ذلك في الوقت الذي كان يمر بمرحلة تحول اجتماعية اقتصادية هائلة، كما إستطاع الخروج من تقلبات لا يستهان بها في مركزه المالي. فلماذا تشكل إذن التهديدات الحالية تحديا أكثر خطورة؟ وما هو وجه الاختلاف هذه المرة؟
 
 هناك العديد من الاختلافات الدقيقة بين تحديات اليوم وتحديات الأمس، الأمر الذي يجب أن يدفع دول الخليج لتبني سياسات جديدة وجريئة.
 
أولا:    إنها المرة الأولى في التاريخ المعاصر التي يشكك فيها صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة الأميركية بالدور الذي تلعبه السعودية (ومنطقة الخليج بوجه عام) كمصدر استراتيجي هام للنفط. إذ أنه حتى في عام 1973 عندما استخدمت السعودية "سلاح النفط"، وأدى ذلك إلى إتخاذ الدول الصناعية لمجموعة من الإجراءات المضادة، لم يكن هذا الدور موضع شك، فقد كان رد الفعل العالمي والأميركي آنذاك دفاعيا. أما اليوم فرد الفعل هجومي، من دون وجود تهديد مباشر للإمدادات النفطية.
 
 ثانيا:    كما أنها المرة الأولى أيضا، منذ انتهاء الحرب الباردة، التي تتعرض فيها العلاقات السعودية الأميركية والعلاقات الأميركية الخليجية لتوتر شديد. ويعطي غياب الحرب الباردة هذه المواجهة المفاجئة أهمية استراتيجية مختلفة. فليس للولايات المتحدة نظير ومنافس جيوبوليتيكي، فضلا عن أن روسيا لا تعتبر منافسا مباشرا للولايات المتحدة على بسط النفوذ على المنطقة- بل هي مستعدة للعمل وستحصل على الأموال بأي طريقة ممكنة. والحقيقة أن كل القوى الرئيسية في العالم راغبة وقادرة مبدئيا على التعامل مع الولايات المتحدة عوضا عن معارضتها، ما يجعل هذا الوضع فريدا جدا.
 
 ثالثا:    إن التحديات المحلية في كل دولة من دول المنطقة وإن لم تكن جديدة في مضمونها إلا أنها جديدة في أبعادها. وتشكل هذه التحديات التي تفرضها التركيبة السكانية في كل دولة خليجية، بالإضافة إلى الضعف والقصور في البنية الاقتصادية وغياب الحوافز الاقتصادية الضرورية للنمو والتوظيف؛ وحجم الأسر الحاكمة في بعض دوله، والأهمية الحيوية للقطاع الخاص والحاجة إلى إحداث توازن دقيق بين النزعة المحافظة ومتطلبات القرن ال 21 ،  ضغوطا على دول المنطقة أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الحديث.
 
 رابعا: لقد أدى الإنحراف الخطر لعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية عن مسارها، والتصعيد المتتابع للعنف، والوقاحة الإسرائيلية الجديدة منذ 11 سبتمبر 2001، المتمثلة في القيام بعمليات عسكرية في الضفة وقطاع غزة، إلى تزايد الإحساس بالعجز والإحباط في العالم العربي.
 
 خامسا: أنه لم يحدث إطلاقا في التاريخ الحديث أن تركز الاهتمام على مواطن الضعف الداخلي لدول الخليج، ولم يحدث أن وقعت تحت مجهر المراقبة الشعبية كما الحال الآن. فالعالم اليوم أكثر انفتاحا من أي وقت مضى، وتنكشف القضايا بشكل غير مسبوق من خلال طرحها باستمرار على الهواء مباشرة. هذا الوضع يزيد على الأقل من سخونة هذه القضايا وإلحاحها ما يضيق من فسحة الوقت في صنع القرار التي تمتع بها صناع القرار الخليجيون في السابق.
 
 سادسا:  وأخيرا، إن ظهور فكر محافظ متطرف في الولايات المتحدة يضاعف من أهمية ما سلف. إذ يمكن استغلال ضعف المنطقة أبشع استغلال (وهذا ما يحدث فعلا) للترويج لرؤية جديدة جريئة للمنطقة، تنظر وتزين لمحاسن الإستغناء عن الوضع القائم في دول المنطقة.
 
 

الراديكالية الجديدة في الولايات المتحدة الأميركية


 
 لقد حققت أحداث 11 سبتمبر  2001، ما لم يكن بمقدرة الانتخابات الرئاسية التي خاضها الرئيس جورج بوش والتي كانت موضع خلاف، أن تنجزه منفردة: فقد أعطت زخما لمجموعة من المفكرين المحافظين. وفي سياق الحرب على الإرهاب أضفت هذه الأحداث مصداقية على بعض الأفكار التي تطرحها هذه المجموعة والتي لم تكن مقبولة لدى الجمهور الأميركي قبل ذلك التاريخ. ولعل أوضح المدافعين عن الراديكالية الجديدة في الولايات المتحدة وأكثرهم صخبا هم من  يطلق عليهم "المحافظين الجدد". وتضم مجموعة من الديموقراطيين السابقين الذين انفصلوا عن الحزب في السبعينات والثمانينات لاعتقادهم بأن على الولايات المتحدة أن تتبع سياسة أكثر صلابة تجاه الاتحاد السوفيتي مما يطرحه حزبهم. وقد دفعهم توجههم هذا للإصطفاف وراء الرئيس ريغان الذي صعَّد من المواجهة مع الإتحاد السوفياتي. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة تحول المحافظون الجدد إلى جماعة نشطة لها صوت في قضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية. ومع انتهاء الحرب الباردة سنحت لهم الفرصة للعمل على أن تصبح الولايات المتحدة، بتفوقها العسكري والتكنولوجي، القوة العظمى الوحيدة في العالم. فقد منحتهم أحداث 11  سبتمبر 2001 فرصة تفعيل معتقداتهم، حتى وإن أدت إلى بعض الاختلافات داخل ما يمكن وصفه عامة بمفكرة (أجندة) المحافظين الجدد، إذ أعطتهم أحداث 11 سبتمبر الوسائل اللازمة للإنهماك بتوسيع القاعدة المؤيدة لهم في الولايات المتحدة الأميركية.
 
 وفي ما يخص الشرق الأوسط تجد أن بعضاً من القادة المحافظين الجدد الأكثر تشددا والأكثر تأثيرا موالون بحماس لإسرائيل وهم في الوقت نفسه  يؤيدون الخط المتشدد الذي تتبناه إسرائيل، كما يتمتع هؤلاء بنفوذ واسع ولهم صوت مسموع في إدارة الرئيس بوش ولا سيما في المؤسسة العسكرية. بالإضافة إلى ذلك نجد أن أعضاء المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، وهي منظمة أسست منذ أكثر من 25 عاما وإكتسبت أهمية ونفوذاً جديدين في المناقشات السياسية بعد أحداث  11 سبتمبر 2001، يتعاون أعضاؤها بشكل وثيق مع المحافظين الجدد داخل الإدارة الأميركية؛ أضف إلى ذلك أن اليمين المسيحي الذي تتطابق وجهات نظره بشأن الشرق الأوسط مع هاتين المجموعتين قد اكتسب هو الآخر قوة إضافية جديدة في هذا المناخ السياسي السائد منذ 11 سبتمبر، الأمر الذي عزز من قوة المحافظين الجدد وعمق من دورهم.
 
 ويمكن تلخيص الأفكار والسياسات التي يتبناها المتشددون في أوساط المحافظين الجدد كالتالي:
 
 أ‌- إسرائيل هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط والحليف الاستراتيجي الوحيد الذي تثق به الولايات المتحدة. فالمصالح الأميركية والإسرائيلية متطابقة، ومن مصلحة الولايات المتحدة توظيف أكبر قدر من رأس المال السياسي والعسكري والمالي في الدفاع عن إسرائيل وتعزيز قدراتها. ما يعني في هذا السياق، أنه قد آن الأوان  لتوقف الولايات المتحدة عن أخذ الحساسية العربية تجاه القضية الفلسطينية بعين الاعتبار.
 
ب‌- لا ينبغي للولايات المتحدة أن تخجل من ممارستها القوة الانفرادية وأن تحافظ على تفوقها العسكري الهائل من اجل ممارسة هذه القوة. كما أن التحالفات الاستراتيجية يجب أن تعقد مع الأنظمة والثقافات الشبيهة بها، أي أن "العلاقة الخاصة" مع السعودية ليست في محلها وبالتالي يجب إعادة تقييمها.
 
ت‌-على الولايات المتحدة أن تتبنى سياسة خارجية تتسم بالمبادرة، وأن تشجع على تغيير الأنظمة في الدول التي تشكل تهديدا للولايات المتحدة أو إسرائيل، وفي هذا السياق على الولايات المتحدة أن لا تتسامح مع المواقف الغامضة. فالذين ليسوا جزءا من الحل هم إذن جزء من المشكلة.
 
 هذه الأفكار كانت ستبقى ضمن دائرة ضيقة في أوساط صقور المحافظين الجدد لولا أحداث 11 سبتمبر. إلا أن المشاركة النشطة لهذه المجموعة في إعداد وصياغة رد بوش على تلك الأحداث ساعدت في تضمين هذه الأفكار والسياسات في الحملة ضد الإرهاب. فقد تعاطف العديد من موظفي إدارة بوش، ومنهم مسؤولون في أعلى المستويات، مع هذه الآراء وأيدوها مع أنه لم يتم تبني هذه الأجندة كسياسة حكومية.
 
 انطلاقا من هذا السياق ينبغي التدقيق في الجدل الدائر حول الإجراء العسكري ضد العراق وتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية. فالصقور يتبنون رؤية جديدة وجريئة للشرق الأوسط تكسر فيها الحواجز والمحرمات القديمة ويتم التخلي عن الأولويات السابقة. وبناء على هذه الرؤية، لامكان إلا للدول الديموقراطية التي هي في سلام مع إسرائيل،  وهو شرط لا ينطبق اليوم على أية دولة في الشرق الأوسط. وإنطلاقا من هذه الرؤية، لا  يتم  فقط التخلي عن حماية الأنظمة المعتدلة والمستقرة كأنظمة دول الخليج فحسب -التي تعتبر جزءا مركزيا من السياسة الخارجية للولايات المتحدة في المنطقة-، بل يتم إستبدال هذه السياسة بأخرى ترى أن تغيير "أو تعديل" الأنظمة في منطقة الخليج، بما فيها في المملكة العربية السعودية، من شأنه أن يخدم مصالح الولايات المتحدة على المدى البعيد. وشتان ما بين هذه السياسة والمسلمات الرئيسية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الخليج قبل أحداث سبتمبر. 
 
 وغالبا ما تغلف هذه الرؤية، سواء في المناظرات الداخلية للسياسة أو تلك المخصصة للرأي العام، برداء المثل العليا مثل: إن الولايات المتحدة تغزو من أجل "تحرير" الدول لا "احتلالها"؛ وأنها تقود العالم إلى مكان أكثر حرية وديموقراطية وسلاما؛ وأنها مسؤولة عن حماية مواطنيها من "الشر". هذه المقاربة الممتزجة  بالتضامن الذي أوحت به الحرب على الإرهاب، والذي عززه بشكل رئيسي وهام رد الفعل العربي الضعيف على أحداث سبتمبر، أدت إلى اتساع رقعة المتعاطفين والمؤيدين لآراء المحافظين الجدد. وهكذا، فبالرغم من عدم تبني الإدارة الأميركية رسميا لهذه الرؤية إلا أنها وجدت لها صدى وتعاطفا وقبولا لدى أرفع المستويات في الإدارة وفي أوساط الشعب الأميركي.
 
 هناك مجالات مهمة تتقاطع فيها أهداف الإدارة الأميركية مع أهداف المحافظين الجدد. ومن الأمثلة على ذلك، تغيير النظام في العراق والحملة على الإرهاب. إلا أنه تجدر الإشارة إلى وجود بعض من الإختلافات الهامة أيضا. وقد يذهب المحافظون الجدد إلى أبعد مما قد تذهب إليه الإدارة الأميركية. إن الهدف الرئيسي للإدارة الأميركية من تغيير النظام في العراق، هو إزالة أسلحة الدمار الشامل ووضع حد لإيواء الإرهابيين في بغداد، فيما تذهب أهداف المحافظين الجدد إلى أبعد من ذلك. وبينما ترى الإدارة الأميركية أن هدف الحرب على الإرهاب هو القضاء على أي تهديد لأمنها ومصالحها، يرى المحافظون الجدد في هذه الحرب المبرر والوسيلة لإعادة تشكيل الواقع السياسي في منطقة الشرق الأوسط. وما يتوجب على الزعماء العرب فهمه، هو أن رضاهم عن الأوضاع الراهنة في المنطقة وعدم قيامهم بإصلاحات فعلية، سيؤدي إلى تقبل الإدارة الأميركية للعديد من الأفكار المدرجة في أجندة المحافظين الجدد. بمعنى آخر: إن لم يقم القادة والمسؤولون العرب والنخب العربية المثقفة بقيادة حركة إصلاح تنبع من تصوراتهم وواقعهم فسوف تفرض الأجندة فرضا من قبل اليمين الجديد من دون أي إعتبار لمعالم المنطقة وطروحاتها.
 
 الواقع أن بعض الاختلافات والفروقات داخل معسكر المحافظين الجدد لاتشكل تحديا للمسلمات الأساسية لهذه الرؤية. فالإختلافات هي مجرد خلافات حول التكتيك والوسائل التي يتوجب إتباعها والتي تمكن من  تحقيق هذه الأهداف. هناك دعوات وسط اليمين الجديد لتوخي المزيد من الحيطة والحذر والعمل على بناء تحالف أوسع للإيحاء ب "الإعتدال". وعلى المرء الخوض في تفاصيل أطياف الاختلاف في أوساط المحافظين الجدد لإكتشاف الاختلافات الكبيرة في مفاهيمهم حول المصلحة القومية وأولوياتها. ورغم وجود أصوات أخرى مختلفة لا تقل مصداقية وثقة عن اليمين الجديد، إلا أنها لا تملك تأثيرا على سياسات الإدارة.
 
 بناء عليه، فإن هدف تغيير النظام الحاكم في العراق وإحلال نظام موال للغرب مكانه، يعتبر من أهم أركان هذه الرؤية. إذ يعتبر ذلك من الأمور المهمة وذلك ليس فقط لهدف التخلص من التهديدات المباشرة التي يشكلها صدام حسين بل لإطلاق مجموعة من ردود الأفعال المرغوبة في باقي دول المنطقة. أما المطلب الرئيسي الثاني للرؤية التي يتبناها المحافظون الجدد فهو التقليل من الاعتماد على الدور الاستراتيجي الذي تلعبه منطقة الخليج.
 
 

تقويض الدور الاستراتيجي لمنطقة الخليج


 
 بدأت الأهمية الجيوبوليتيكية لمنطقة الخليج بالتآكل جراء الحملة الرامية - بعد 11 سبتمبر - إلى تقويض دورها كممول استراتيجي وحيد للنفط في العالم (بمعنى كونها الملاذ الأخير  الذي يملك سعة وطاقة إنتاجية نفطية كبير). وبالرغم من أن أحداث سبتمبر لم تغير من الحقائق الأساسية عن احتياطي النفط إلا أنها غيرت الشعور تجاه هذه الحقائق بما يشكل تحديا للدور الذي تلعبه منطقة الخليج كممول استراتيجي للنفط الخام. ويمكن وصف هذا التغيير من خلال مجموعتين منفصلتين من القضايا:
 
 أولا: القلق المتزايد من عدم الإستقرار الداخلي في الخليج ، الذي لا يمكنه من الاستمرار في لعب دور الممول للنفط الذي يمكن الاعتماد عليه.
 
ثانيا: طبيعة البدائل النفطية للطاقة المطروحة لمنطقة الخليج وكمنطقة مصدرة للطاقة (المصادر البديلة للمنطقة).
 
 لقد لعب الإعلام وبعض من المراكز البحثية التي تعنى بأبحاث السياسة دورا كبيرا في الترويج لهاتين المجموعتين من القضايا بشكل متعمد ومنهجي. والمجموعة الأولى من القضايا كانت هي الأكثر وضوحا ولفتا لأنظار العالم وتحمل رسالة رئيسية بسيطة وواضحة تروج لها أوساط اليمين الجديد يمكن إيجازها كالتالي:
 
أن العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة والسعودية أصبحت محط تساؤل، ذلك لأن السعودية ومن خلال نظم التعليم لديها والتي تتسم بمناهضة الغرب، والاعتماد على التطرف الديني قد أفرخت إرهابيي 11 سبتمبر وعاشت حالة إنكار حول هوية من قاموا بالعملية.  وتؤكد هذه النظرة المعادية للمملكة أن النظام في السعودية ضعيف بحيث لا يمكن الاعتماد عليه كحليف في محاربة الإرهاب وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه كحليف في الحفاظ على أمن النفط. وتستمر هذه الرؤية مؤكدة أنه وبصرف النظر عن سجل العلاقات خلال25 سنة الماضية، فإن السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي فشلت في إجراء إصلاحات إقتصادية رئيسية في السنوات العشر الأخيرة، ما أدى إلى تفاقم أزمة البطالة، وذلك يعني أنها تتجه إلى حالة فشل تضعها في مصاف "الدول الفاشلة"، لأنها ستفشل من جراء تناقضاتها الداخلية المتنامية. أضف إلى ذلك أن الفكر الوهابي، الذي يضفي الشرعية على السعودية، يقف على طرفي نقيض بل وفي حرب مع صميم القيم التي تقوم عليها حضارة الغرب. وأي تحالف يفتقد القيم المشتركة لا يمكنه الصمود طويلاً، وهذا هو درس الحادي عشر من سبتمبر، كما تؤكد أوساط اليمين الجديد وأطراف رئيسية في الولايات المتحدة. وأخيرا يرى صقور المحافظين الجدد أن الولايات المتحدة هي التي حمت عسكريا الاحتياطيات النفطية لدول المنطقة من المخاطر الخارجية ما يعني أن "الإعتماد على موثوقية" حلفاء الولايات المتحدة في الخليج كممولين للنفط كان في المقام الأول مشروطا ومؤقتا، وذلك لأن هؤلاء الحلفاء غير قادرين على الدفاع عن النفس.
 
 أما المجموعة الثانية من القضايا والمرتبطة بالبحث عن بدائل نفطية لمنطقة الخليج فهي الأقل حظا في التركيز الإعلامي من الأولى، وإن لم تقل عنها أهمية. فقد أعلن عن بديلين للسعودية، أو بمعنى آخر مصدرين آخرين للمنافسة من شأنهما إضعاف قبضة المملكة على دورها كممول استراتيجي: أولا، روسيا وشركات النفط الروسية التي تمت خصخصتها حديثا، وثانيا، العراق الذي يتوقع له أن يدخل السوق النفطية بقوة. ولإضفاء مصداقية على هذه التصورات، ضخمت من قبل هذه المدرسة  إمكانيات روسيا التي قد تؤهلها لتصبح ممولا استراتيجيا للنفط الخام، حيث استخدمت الزيادة المطردة في إنتاج كبريات شركات النفط الروسية في السنتين الماضيتين كمؤشر على وجود إمكانيات أخرى ضخمة في روسيا. وأبدت الولايات المتحدة في خطوة غير مألوفة استعدادا لتقديم المساعدة لشركات النفط الروسية لزيادة إنتاجها النفطي. وخطت هذه الشركات خطوات كبيرة لتحسين صورتها في الولايات المتحدة- فكانت شركة T.N.K أول شركة نفط روسية تنضم لغرفة التجارة الأميركية حيث أنفقت، ومعها شركة يوكوس، أموالا طائلة في عملية جمع المعلومات والضغط لكسب التأييد في واشنطن. ولقد أبدت هذه الشركات مقدرة وكفاءة في جمع المعلومات والضغط لكسب التأييد فاقت مثيلتها لدى دول الخليج.
 
 
 
ومع أن روسيا أثبتت أنها منافس تجاري لا يستهان به لمنتجي دول الخليج وللأوبك بوجه عام، إلا أن ذلك لا يمكنها من أن تحل محل الخليج كممول استراتيجي للنفط الخام. إذ من شبه المستحيل على الشركات الروسية التي تمت خصخصتها الحفاظ على قدرة إنتاج إحتياطية للنفط أو أن تلعب دور المنتج المنتظم؛ و دون تلك المواصفات، ستبقى روسيا دولة منتجة ومصدرة للنفط لها أهميتها التجارية ولكنها لا يمكن أن تكون ذات أهمية استراتيجية حقيقية.
 
أما العراق فهو موضوع مختلف.
 

 تغيير النظام في العراق


 
 كما ذكرنا سابقا، فإن تغيير النظام في العراق يعد من المسائل المركزية  في رؤية المحافظين الجدد الجديدة للشرق الأوسط وذلك على أكثر من صعيد. فالهدف هنا ليس الإطاحة بصدام حسين فحسب بل الإشراف على إقامة نظام جديد في بغداد موال للغرب. وهذا من شأنه أن يخدم عدة أغراض، أولها، إن تغيير النظام في العراق يعد الوسيلة الوحيدة للتخلص من كافة أسلحة الدمار الشامل في العراق وضمان التخلي عن برامج تطوير هذه الأسلحة كافة.
 
 ثانيا، تنظر الإدارة الأميركية إلى تغيير النظام في العراق بإعتباره جزء من الحرب على الإرهاب وذلك بسبب ممارسات النظام العراقي المتمثلة في توفير ملجأ للإرهابيين وبسبب علاقاته المزعومة مع القاعدة. إلا أن قضية الصلة بين العراق والقاعدة أو أحداث 11 سبتمبر، لا تكتسب أي أهمية عند المحافظين الجدد إلا من ناحية أنها قد تعزز من مسألة إتخاذ إجراء عسكري ضد العراق. ويرى المحافظون بأن إحتمال أن يشكل العراق تهديدا لإسرائيل هو تبرير يكفي لقيام الولايات المتحدة الأميركية بعمل عسكري منفرد ضد العراق. ولكن المحافظين الجدد أكثرهم إصرارا، قد يواجهون صعوبة كبيرة في إقناع الإدارة والشعب الأميركي بالهجوم على العراق إستنادا  إلى ذلك الإحتمال المتعلق بإسرائيل.
 
 ثالثا، تنظر الإدارة الأميركية إلى أن هزيمة النظام العراقي واستبداله بآخر موال للغرب سيؤديان إلى إضعاف الروح المعنوية والتخفيف من تطرف الشارع العربي. وهذا بدوره - وفق تصورات الإدارة سيقلل من إرادة الفلسطينيين لمقاومةالاحتلال ويرغمهم على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل. وفيما يرى معظم المراقبين العرب أن هذه الفكرة هي من قبيل الأماني وأن المقاومة حق مشروع ومستمر، فإن الحقيقة تبقى أن تغيير النظام في العراق كدافع لتغيير إقليمي شامل بات مقبولا بشكل عام في أوساط المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية. وهو تغيير سيترك آثاراً كبيرة على الشارع والواقع العربي.
 
 رابعا، يستمر المنطق ذاته في التأكيد بأن العراق بعد "إعادة تأهيله" سيكون الوحيد الجدير بالثقة من منافسة السعودية كممول استراتيجي للنفط الخام. ولا شك أن المتطلبات الهائلة لإعادة إعمار العراق وتدفق الأموال الغربية في القطاع النفطي و باقي القطاعات الاقتصادية، سيدفع العراق إلى زيادة طاقته الإنتاجية بشكل سريع جدا. وهذا ليس من شأنه إضعاف مركز السعودية في الأسواق النفطية العالمية فحسب بل سيضعف اقتصاد كل من إيران وليبيا. وبالتالي فإنه طالما بقي إنتاج النفط العراقي وسياسات تسعيره متوافقة مع رغبات الغرب فإن هذا سيحقق الأهداف المتعددة للمحافظين الجدد.
 
 خامسا، إن فرض تغيير للنظام في العراق يعتبر شرطا أساسيا لتغييرات مماثلة أو إصلاحات سريعة في غيره من "الدول المعادية للولايات المتحدة". فالنظام الحالي الحاكم في العراق "يتمتع" اليوم بمكانة شبه أسطورية "كرمز" لكل أنظمة الحكم االتي تتصادم والولايات المتحدة، كما يمثل النظام العراقي "الإرادة" للإبقاء على كل ما هو ضد مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، وبالتالي فإن تدميره يعتبر شرطا أساسيا للانتصار على جبهات أخرى.
 
 وأخيرا، فإن استخدام القوة لتغيير النظام في العراق سيقوي التحالفات الأخرى في المنطقة، وبخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا. هذا فضلا عن أنه سيقنع المتشككين في الداخل (الولايات المتحدة) والمنافسين المحتملين في الخارج (مثل الصين) بأن الولايات المتحدة قادرة فعلا على لعب دور القوة العظمى الوحيدة في العالم وأنها لن تسمح لأية قوة أخرى أن تتحدى هذا الدور.
 
 

تعاظم تأثير المنافسين  السياسيين والاقتصاديين الإقليميين للخليج


 
 إن "الرابحين" الرئيسيين في عالم ما بعد 11 سبتمبر هم إسرائيل وروسيا وتركيا. فهذه الدول الثلاث كانت هي الأكثر حظا في الاستفادة من الحملة الأميركية ضد الإرهاب بعد الأحداث. فقد إستغلت روسيا مركزها إلى أبعد الحدود لتصبح جزءا لا يمكن الاستغناء عنه في العمليات العسكرية ضد أفغانستان ومن خلال السماح للولايات المتحدة باستخدام القواعد العسكرية في أوزبكستان. أما تركيا، التي تعتبر الفائز الإيجابي والأكثر حظا وأهلية بالمقارنة مع إسرائيل وروسيا، فقد استفادت من كونها جزءا من الحملة العسكرية في أفغانستان ومن خلال الدور المهم الذي ستلعبه في أية حملة مستقبلية ضد العراق. أما إسرائيل التي تراجعت مصداقيتها في الأسابيع الأولى من أحداث 11 سبتمبر 2001 فقد استردت هذه المصداقية بسرعة كبيرة وساعدها في ذلك فشل السلطة الفلسطينية في احتواء أحداث العنف ضد المدنيين الإسرائيليين. ولكل من هذه الدول، تركيا وإسرائيل وروسيا، أجندتها الخاصة بها غير مكافحة الإرهاب كما تحدده واشنطن. ولقد نجحت كل من هذه الدول  في دمج عناصر مختلفة من أجندتها ضمن مساهمتها في الحرب ضد الإرهاب. 
 
 على الدرجة نفسها من الأهمية يأتي التحالف الوثيق بين هذه الدول، ومبادئها الإستراتيجية وعلاقاتها مع المحافظين الجدد. فقد بدأ التحالف التركي-الإسرائيلي في عام 1996 وازدهرت العلاقة بسرعة وتطورت لتشمل كل الجوانب الثنائية بين البلدين، وهي التعاون في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والطاقة. وتقوم جماعات الضغط الإسرائيلية في الولايات المتحدة بالترويج للمصالح التركية، فيما دعم المحافظون الجدد تعزيز العلاقات التركية الإسرائيلية منذ البداية. أما "التعاون" الإسرائيلي-الروسي فيشمل قطاعين رئيسيين هما أسواق رأس المال والطاقة. ولقد توغلت إسرائيل في هذين القطاعين داخل الاقتصاد الروسي. ويلعب التحالف الإسرائيلي-الروسي، تماما كالتعاون الإسرائيلي-التركي، دورا في الساحة السياسية الأميركية من خلال المحافظين الجدد واللوبي الإسرائيلي. وذلك هو السبب في الترويج لروسيا كبديل لنفط الشرق الأوسط والاهتمام الكبير الذي تحظى به شركات النفط الروسية التي تمت خصخصتها حديثا. وأخيرا، يتركز  "التعاون" الروسي-التركي بشكل أساسي في قطاع الطاقة حيث تتطلع روسيا لأن تصبح الممول الرئيسي للغاز في السوق التركية، فيما تتطلع الشركات الروسية للاستثمار في القطاع  التجاري والسوق المحلي في تركيا مقابل مشاركتها ودعمها وإستثمارها في البنية التحتية التركية والأسواق المحلية, ويتوقع لروسيا أيضا أن تلعب دورا في جلب النفط من بحر قزوين إلى تركيا وإلى الغرب بواسطة تركيا.
 
 في المناخ الإستراتيجي الحالي تم التقليل من شأن الدور الذي قد تلعبه العديد من الدول الأخرى. ومعظم الدول الأوروبية التي تنتقد شفهيا السياسة المتفردة التي تنتهجها الولايات المتحدة، هي فعليا عاجزة أو غير راغبة في معارضة المبادرات الأميركية بشكل قاطع. وحتى أكثر المعارضين الأوروبيين صخبا للسياسة الأميركية لا يملكون إجراءات مضادة ومحددة. وقد يكون لحلفاء الولايات المتحدة من الأوروبيين تأثير لو توفر لديهم البديل الملموس لتقديمه، أو إذا أدركت واشنطن الحاجة لاتخاذ إجراء بمشاركة أطراف متعددة وحاولت تشكيل تحالف واسع ذي قدرة على الإستمرارية. إلا أن الإتجاه الذي يتبعه الصقور المتشددون يجعل من هذه الفرضية أمرا غير محتمل إلا في أضيق نطاق، وبالتالي يستبعد أي دور أوروبي له أثر هادف ومعتدل.
 
 ويعيدنا هذا إلى الولايات المتحدة  وإلى النقاش الدائر حول مدى حاجة الولايات المتحدة إلى مساعدة فعلية، سياسية أو عسكرية، من حلفائها قبل شروعها في هجوم عسكري آخر في الشرق الأوسط. وباختصار، لن يكون لأوروبا أي تأثير حقيقي على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ما لم يخسر المحافظون الجدد معاركهم السياسية على الجبهة المحلية حول القضايا التالية: (أ) التوجه الفردي مقابل الجماعي بالنسبة للعمليات العسكرية؛ (ب) تفضيل الضربات الوقائية على شن حرب ضد تهديدات مباشرة ومؤكدة. وإلى أن تحسم هذه النقاشات أميركيا، فإن الدول الأوروبية ستبقى إلى حد كبير مراقبا سلبيا للمبادرات السياسية والعسكرية الأميركية.
 
 بخلاف أوروبا، فلا اليابان ولا الصين في موقع يؤهلهما لاتخاذ إجراء مباشر ضد المبادرات الأميركية. أما باكستان، فعلى الأرجح أنها ستتعاون مع الولايات المتحدة بدلا من معلرضتها. وأما الهند التي تعتبر نفسها حاليا حليفا للولايات المتحدة فستدعم واشنطن عندما تتعلق المسألة بالقضايا السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط. هذه الدول، فضلا عن أوروبا، ستلعب دورا اقتصاديا وتجاريا هاما في المنطقة، وهي وإن كانت ستعمل جاهدة لحماية مصالحها التجارية إلا أنها لا تملك القوة اللازمة لمواجهة الولايات المتحدة عاقدة العزم وذات نزعة إنفرادية.
 
 قرب الخليج تقبع إيران التي تواجه تحديات داخلية خطيرة على مستويين، فهي تواجه صراع القوى بين المحافظين والإصلاحيين، وتواجه تنامي الضغوط الاقتصادية. فالجمود السياسي في أعلى قمة الهرم السياسي في إيران حال دون تحقيق أي تقدم مادي ملموس في الإصلاحات الاقتصادية ما أدى إلى استياء شعبي واسع. أما على الصعيد الخارجي فإيران تجد نفسها محاطة بما تعتبره دولا حديثة الانضمام إلى الفلك الأميركي وهي أفغانستان وباكستان برويز مشرف والهند وأوزبكستان وربما قريبا العراق. وفي الوقت نفسه أصبحت روسيا وتركيا اللتان تعاظمت قوتهما جزءا من المشهد الجيوبوليتيكي الناتج عن مرحلة ما بعد 11 سبتمبر لإيران، تماما كما الأمر بالنسبة لدول الخليج العربية. وأخيرا، هناك الإسرائيليون والأميركيون المناهضون لإيران في الولايات المتحدة والذين يمارسون ضغوطا متزايدة لإستهداف حزب الله وإيران كجزء من الحملة على الإرهاب. هذا المزيج من الضغوط الداخلية والأخطار الخارجية الحقيقية أو المستشعرة لا تبشر بالخير بالنسبة لخطوات إيران المستقبلية. فقد تؤدي هذه الأوضاع إلى تزايد التطرف الإيراني بما سيؤدي إلى إجهاض الجهود الإصلاحية للرئيس محمد خاتمي من جانب، وتعزيز مراكز وسياسات صقور المحافظين الجدد في الولايات المتحدة من جانب آخر، وذلك بإتجاه مواجهة وصراع.
 
 في غياب المبادرات والإجراءات الجذرية والبناءة في الشرق الأوسط، فإن الساحة جاهزة لرسم مستقبل المنطقة دون الأخذ بعين الإعتبار المصالح العربية والإيرانية. وذلك يعني أن التحالف الإسرائيلي-التركي المدعوم من صقور المحافظين الجدد ورؤيتهم التي أتينا على شرحها سابقا، سيكون لهم الأثر الأكبر على مستقبل المنطقة. هذا يتطلب من المنطقة تحركا سريعا وإمتحانا حقيقيا للقدرات وإنفتاحا إصلاحيا داخليا.
 
 

أين مكمن الخطر ؟


 
 لعل من المستحيل التنبؤ بالمسار الدقيق  للأحداث التي ستقع في الشرق الأوسط ولكنه ليس من قبيل المبالغة القول أن هناك احتمالاً لحدوث تغييرات أساسية في الأوضاع القائمة مع تغير جذري في ميزان القوى الحالي وربما في خريطة الشرق الأوسط برمتها. وفي أكثر الأحوال تطرفا ليس من المستبعد توقع عراق مقسم، تحتل تركيا الجزء الشمالي منه ويقسم الباقي منه ليدخل بعد ذلك في دوامة من الاضطرابات والهيجان. وهذا من شأنه أن يفتح جبهة جديدة للصراع بين العرب وغيرهم، لن تقل حساسية وإثارة للجدل عما هي عليه جبهة الصراع العربي الإسرائيلي منذ 54 عاما؛ وهذا سيكون مصدرا مباشرا ووشيكا لعدم الاستقرار في دول الخليج ، فضلا عن أنه سيكون سببا لإضطرابات جديدة في  إيران وسوريا. كما أنه ليس من المستبعد توقع أن تتوسع إسرائيل التي استغلت انشغال العالم بالحرب ضد العراق لتضم الضفة الغربية فعليا، ما قد يؤدي إلى نزوح كبير للاجئين الفلسطينيين إلى الأردن وغيرها من الدول العربية. ومن المتوقع في مثل هذا المناخ أن يصبح الشارع العربي أكثر تطرفا وإحباطا بحيث لا يمكن احتواؤه بالوسائل التقليدية المتبعة حاليا. أما الدول الخليجية "المعتدلة" فحتى وإن استطاعت الصمود أمام ردود الفعل الأولى، إلا أنها لن تكون في وضع تستطيع فيه تأييد الغرب علنيا، وربما تجد نفسها مرغمة  على اللجوء إلى "سلاح النفط" مرة أخرى وهي تعلم جيدا بأن تلك الخطوة قد تثير هذه المرة المزيد من العدائية واحتمالات التدخل العسكري في المنطقة ما قد يؤدي إلى تغييرات لا يمكن التكهن بها. وباختصار، فإن نظام ما بعد الحرب يمكن أن يختفي برمته من المنطقة ويحل محله نظام آخر جديد تقابله خريطة سياسية جديدة.
 
 حتى السيناريوهات الأقل مغالاة لا تعطي صورة متفائلة عن مستقبل الاستقرار والإزدهار في المنطقة؛ إذ تبقى الحقيقة الأساسية وهي أن حرب الخليج الأخيرة شنت لحماية الأوضاع القائمة في المنطقة بينما حرب الخليج المقبلة ستشن لتدمير هذه الأوضاع. ومهما أتت النتائج مختلفة بعض الشيء عما تم وصفه بالنسبة للعراق وإسرائيل فهي لن تغير الدافع الخفي للحرب. ومحاولة خلق واقع جديد وتغيير أوسع على الأرض يصعب أن يصب لمصلحة دول المنطقة. فسلبية دول المنطقة، التي ستكون الأكثر تضررا من هذه التغييرات، خلقت فراغا خطرا وتخلت عن دورها وفرصتها في أن يكون لها كلمتها في عملية التغيير هذه. وإن تعزية النفس على الصعيد العربي بافتراض عدم احتمال حدوث السيناريو الأكثر تطرفا أو الافتراض أن السيناريو الأقل تطرفا ينطوي على مخاطر أقل على الأوضاع القائمة، هي عبارة عن حالة من حالات نكران الواقع.
 
 

الخيارات السياسية الممكنة و"غير الممكنة" على الصعيد الخليجي


 
 قبل الدخول في الخيارات السياسية المتاحة والتي ينبغي التفكير فيها، لابد من التأكيد على حقيقة أساسية وهي أن الوضع الحالي نجم عن مزيج من السلبية والقبول بالأمر القائم وتفادي التغيير التدريجي والإصلاح في التعامل مع مشكلات المنطقة من جانب، والنشاط العدائي المحموم لإسرائيل وإيديولوجية المحافظين الجدد الأميركيين من جانب آخر. وقد ملأت قوى المحافظين الجدد وإسرائيل فراغا كبيرا مستغلة المزاج السياسي الذي ساد بعد أحداث سبتمبر إلى أقصى الحدود. لكنها لم تكن هي التي خلقت هذا الفراغ (المنطقة خلقته) كما لم تكن السبب في تلك الأحداث التي وقعت في 11 سبتمبر. ومن دون فهم هذه الحقيقة بشكل صحيح وإدراك مضامينها سيكون من المستحيل حتى البدء في صياغة استراتيجية بناءة للتعامل مع الوضع الحالي.
 
 إن منطقة الخليج تواجه اليوم قرارات وخيارات مؤلمة، كان ينبغي اتخاذ معظمها قبل زمن بعيد لكن ذلك لم يحدث. ويعزى ذلك في جانب كبير منه إلى أن الاستراتيجية المفضلة في منطقة الخليج للتعامل مع المشاكل التي كانت تحتدم ببطء هي "بالتخبط عبرها". ففي 30 سنة الماضية انشغلت هذه المنطقة بحماية الوضع القائم فيها واحتواء مختلف المخاطر المحلية والخارجية بدءا من القومية العربية إلى القضية الفلسطينية مرورا بالثورة الإسلامية في إيران وتهديدات العراق العسكرية، فضلا عن تفاقم المشكلات السكانية والاقتصادية في الداخل. ولم تحظ أي من تلك القضايا والمشكلات بتفكير جدي ورؤية استراتيجية فعلية بعيدة المدى. فقد كانت السياسة الشائعة إما شراء ولاءات مختلف اللاعبين أو إيجاد طرق لكسب الوقت بأمل أن تحل المشكلات نفسها بنفسها. ففي حين عبرت سائر المنطقة عن صدمتها وذهولها من تصميم الإدارة الأميركية على تغيير النظام الحاكم في العراق بعمل عسكري منفرد، لم يعبر أحد منها -إلا ما ندر- عن صدمته من رضا العالم العربي عن الأحوال التي تسود العراق منذ 11 عاما الماضية. فإذا كان الوضع في العراق مشكلة إقليمية في المقام الأول، فلماذا لم تعالجها المنطقة؟ ولماذا لم تكن هذه السنوات ال11 الطويلة كافية للتنسيق وإيجاد حل للمساعدة في إعادة تأهيل العراق بشكل مقبول لعرب الشرق الأوسط عموماً ومنطقة الخليج بشكل خاص؟ لقد ترسخت سياسة التخبط عبرالأزمات بحيث أصبحت السياسة الوحيدة المتوقعة لدول المنطقة أمام التحديات. إنها الاستراتيجية التي لا يأبه أحد في التشكيك بها لأنها تعكس سياسة عدم التعامل مع الأحداث والمشكلات وتصديرها للجيل القادم.
 
 لقد كانت ردة الفعل الأولى للمنطقة على أحداث سبتمبر لا تقل سلبية وقبولا بالوضع عن تعاملها مع قضاياها. وكان الأخطر تأخر دول المنطقة في رؤية الحدث والإنحراف به وتحجيمه، والأخطر هو التأخر في بلورة ردود فعل مسؤولة ومعقولة على الحدث. فقد كان يتعين على المنطقة أن تمطر الولايات المتحدة بجهود ديبلوماسية صادقة وحثيثة فور علمها بالحقائق الأولية عن الحادث، وأن تستمر في هذه الجهود حتى اليوم. وكان يجب أن يكون هناك إعتراف فوري وواضح بجنسيات الخاطفين و وتعبير عن تعاطف لالبس فيه وإستعداد لتقديم العون والمساعدة عوضا عن التأخر والتردد والتخوف من علنية المساعدة. والمؤسف أنه تم إستغلال غياب هذه الإستجابة من قبل المعادين للعرب في أميركا وأخذ الأمر إلى أبعد أبعاده. وحتى بعد أن اتضح أن "التقاعس" وعدم عمل شيء لا يجلب أمنا، كما كان الأمر في السابق، فقد ظل رد الفعل الرسمي في الخليج  "قليل" و "متأخر". وقد جرى التركيز على صورة "الخليج" من زاوية العلاقات العامة بأكثر من محاولة التعامل مع الوضع الإستراتيجي والأشمل الذي يهدد المنطقة برمتها.
 
 لا شك أن الأمر يحتاج إلى أكثر من مجرد حملة علاقات عامة وشراء إعلانات، بل إلى جهود مضنية لإعادة المصداقية في منطقة الخليج. فالمنطقة الآن عند مفترق طرق، حيث بوسع زعمائها وحكوماتها الإختيار مابين مقاربة ذات حد أدنى  تهدف إلى التحكم بالأضرار بشكل هامشي وسطحي، أو بين تأمين مستقبل المنطقة. وفي ظل المناخ الجيوبوليتيكي الحالي لا يمكن تأمين المستقبل بالتخبط؛ إن مقاربة الحد الأدنى تعني بلا شك التنازل عن حق إبداء الرأي في مستقبل المنطقة والقبول بهيمنة القوى الإقليمية الأكبر ونهاية مشروع دول الخليج للمستقبل.      
 
قد يجادل البعض بالقول إن تفرد واشنطن ومنطق استعمال القوة لتحقيق الأغراض السياسة من شأنه أن يضعفها ويعزلها ليؤدي في النهاية إلى فشلها، وبالتالي من الحكمة الانتظار إلى أن تنحسر هذه الموجة. ومنهم من يقول أن ما يحدث الآن ما هو إلا عارض من أعراض النشاط المفرط للحزب الجمهوري، وأنه عندما يفوز الحزب الديموقراطي ستتغير السياسة. وقد تذهب هذه الحجة إلى أبعد من ذلك لتشمل معارضة صريحة وغير مشروطة لمبادرات الولايات المتحدة بانتظار أن تثبت هذه الاستراتيجية فشلها، إما  بأن يسفر ضرب العراق عن سقوط أعداد كبيرة من القتلى في صفوف الجنود الأميركيين، أوبسبب حدوث ركود اقتصادي خانق في أميركا. والمشكلة في هذه التصورات هي أنها لا تعالج الضعف المتأصل في المنطقة نفسها بل تعول على فشل التهديد الخارجي وهذا في أحسن الأحوال ضرب من الأمنيات لكنه لا يعتبر استراتيجية بالتأكيد.
 
 خيار آخر غير مقبول هو خيار الإذعان غير المشروط لمطالب وتوجهات المحافظين الجدد. وهذا ليس خيارا حتى لو وافقت عليه منطقة الخليج من موقع القوة. أما إذا اعتمدته من موقع الضعف الذي تعاني منه حاليا فهو كارثة. فقد ينطوي على التنازل عن حقوق أساسية لدول الخليج للولايات المتحدة من دون قيد أو شرط و قبول ترتيبات سلام مجحفة مع إسرائيل، وبالتالي غير قابلة للاستمرار. وهذا ينطوي أيضا على غياب مزمن للإستقرار الداخلي في دول الخليج ودورة جهنمية من المعارضة الداخلية – أي بالضبط على عكس الاتجاه الذي ينبغي أن تتوجه إليه شؤون الخليج الداخلية.
 
إذن، ما هي الخيارات السياسية المطروحة أمام منطقة ودول الخليج؟ كما ذكرنا سابقا، فإن الخيارات المعقولة هي التي تعالج المشكلات الأساسية المزمنة والتي أهملت طويلا، وليس الخيارات التي تقدم حلولا ترقيعية وسطحية لأعراض واضحة حدثت خلال السنة الماضية. فالخليج في سباق فعلي مع الزمن وهو لا يملك حلا سريعا دائما. وهنا يكمن أحد أكبر أوجه التحدي السياسي الذي تواجهه حكومات دول منطقة الخليج حاليا، وهو أن الوضع الحالي يتطلب نتائج سريعة، من دون توفر حلول قصيرة المدى ذات معنى وأثر. وعليه فإن الفكرة القائلة بأنه على الحكومات أن تركز على الأهداف الأساسية الطويلة المدى وتأمين المستقبل في الوقت الذي يكون فيه الحاضر في خطر تبدو فكرة ضعيفة ومستبعدة. ومن غير المعقول والملائم الطلب من السلطات في المنطقة التركيز على الأهداف الإستراتيجية البعيدة المدى في الوقت الذي دأبت هذه السلطات على التردد في الإستجابة حتى لمتطلبات الحاضر. إلا أن هذا هو بالضبط ما تتطلبه المرحلة الراهنة، وخصوصاً وأن الظروف الحالية الحرجة لا تقيم فرقا بين الإجراءات الطويلة أو القصيرة الأمد. فالمنطقة تواجه اليوم النتائج المتراكمة لردود الفعل المتأخرة على سلسلة طويلة من المخاطر، التي كانت  تعتبر "مخاطر حاضرة" في حينها. فلقد استغرق الأمر 30 عاما من الإهمال والتخبط لتقع المنطقة في المأزق الذي تواجهه اليوم. ولا توجد وصفة واحدة يمكنها أن تزيل كل هذه التراكمات ما بين ليلة وضحاها. فالإجراءات طويلة الأجل ما هي في الواقع إلا مجموعة من الإجراءات قصيرة الأجل ولكنها هادفة ومدروسة ضمن رؤية. وقد حان الوقت للتفكير بحزمة من الإجراءات –من دون توفر حرية الاختيار والانتقاء- تكون بمثابة استراتيجية شاملة وموحدة حتى وإن تم تنفيذها على مراحل.
 
 هنا ينبغي أن تتخذ دول الخليج بعض الخطوات الفورية ضمن هذه الاستراتيجية الموحدة للتخفيف من آثار المعوقات التي قد تواجهها وتعيق تنفيذ هذه الاستراتيجية. كما وينبغي كسب الوقت على المدى البعيد  لتؤتي الإصلاحات الطويلة الأجل ثمارها. وتختلف هذه الخطوات الفورية من بلد لآخر، ولكن من الخطأ أن تعتبر أي من دول الخليج أن هذه الإجراءات هي سياسات كافية وتفي بالغرض. ومهما كان الوقت الذي تحاول سلطات المنطقة كسبه، فسيذهب أدراج الرياح ما لم تتبنَ هذه الحزمة من الإجراءات في كل دولة من دول المنطقة في وقت واحد ، على أن تحظى كافة جوانب الاستراتيجية الموحدة بالأهمية نفسها والصفة العاجلة. وتشمل الأبعاد الرئيسية لهذه الاستراتيجية الموحدة ما يلي:
 
 

بناء قاعدة قوية في الداخل:


 
 ربما تكون تقوية قاعدة الدعم السياسي المحلي هي الخطوة الأهم التي يجب على حكومات منطقة الخليج القيام بها. ويجب أن لا يتم هذا لمواجهة الأخطار الوشيكة التي يمكن أن يتعرض لها الاستقرار المحلي في دول المنطقة فحسب، خاصة أنه ما لم تتمتع كل حكومة بالشعبية الكافية والثقة والأمن الداخلي فإنها لن تكون في موقع يؤهلها للمبادرة أو حتى المشاركة في صنع سياسات خارجية جديدة وجريئة ومؤثرة في الآخرين . ومن المهم أيضا تغيير الإنطباع السائد عن دول الخليج بأنها دول ضعيفة داخليا وهشة لذا فهي تعتمد على الحماية الخارجية والسلبية وإنتظار تحركات الآخرين لنجدتها. فعلى المستوى السياسي يتطلب ذلك إجراء إصلاحات رئيسية في أسلوب الحكم، وليس بالضرورة أن يأخذ شكل الديموقراطية الكاملة، بل يتعين رسميا إحترام وضمان الحقوق المدنية، والتسليم بأن لسلطات الدولة حدوداً لا تتجاوزها، وتأسيس إجراءات معقولة للمشاركة الشعبية السياسية. ولعل الشرط الأساسي لكل مما ذكر هو الاقتناع بضرورة إقامة حوار جوهري وبناء-  أي حواراً يؤدي بالفعل إلى تغييرات حقيقية في السياسة- حول دور الدين في السياسة والحياة العامة، وعلاقة كل مجتمع خليجي بالمجتمع الدولي، وأهداف التنمية، والقضايا المتعلقة بسلطة الشعب وحقوق وواجبات المواطنة.
 
 هذه القضايا التي تمس صميم كل مجتمع في الخليج لم يسمح لها إلا نادرا بأن تصبح جزءا من الحوار الشعبي. كما أنه لا يمكن تجاهل هذه القضايا في المناخ الحالي، فكل مجتمع بحاجة إلى إقامة حوار علني وصريح وصادق حول تأثير كل من هذه القضايا على أسلوب الحياة الذي يختاره وعلى مستقبله. وباختصار، على كل دولة من دول الخليج أن "تتصالح مع نفسها" من خلال التوصل إلى تصالح سياسي محلي دائم، وعلى كل حكومة في مجلس التعاون الخليجي أن تتوصل إلى "عقد اجتماعي" جديد مع شعوبها. وقد يختلف أسلوب ذلك من دولة لأخرى – فالبحرين مثلا تحاول التوصل إلى ذلك عن طريق الملكية الدستورية، بينما قد تختار الدول الباقية سبلا أخرى. ولكن الحكومة هي المسؤولة عن المبادرة في هذه العملية وهي المسؤولة عن زرع الثقة فيها من خلال إشراك قطاعات واسعة من فئات الشعب، ومن ثم الإشراف على إنجازها بكل ما يتطلبه ذلك من تغييرات في الهيكلية أو تعديلات في النظام السياسي.
 
 إن إطلاق العنان لمثل هذه العملية يحمل في طياته مخاطر جمة، وهي ناتجة إلى حد كبير عن الإهمال وتراكم القضايا المؤجلة الذي ساد في العقود الماضية. إن قمع حرية الفكر، وكبت مطالب التغيير، فضلا عن الإحساس القوي السائد  بالإحباط بين جميع فئات المجتمع، وذلك بسبب الظروف السياسية إقليميا والظروف الإقتصادية محليا، كل هذه الأسباب مجتمعة ستؤدي إلى إعطاء دفعة قوية لوجهات النظر الدينية المتطرفة والمعادية لأنظمة الحكم وللعالم. أما الذين يطمحون إلى بناء مجتمع مدني يثق بنفسه وبإنفتاحه، يتمتع بقدر من التسامح الديني والثقافي ويطمح إلى التحديث، فهم ليسوا منظمين بقدر معارضيهم، والتفسير البسيط لذلك هو أنه لم يسمح لهم بالقيام بذلك تاريخيا. وقد تأتي هذه الإصلاحات بنتائج عكسية إذا احتكرت أية جماعة أو حزب -ومن ضمنها المؤسسة الدينية- وسائل التأثير على الرأي العام أو إملاء أجندتها عليه. فالشرط الأساسي لتحقيق هذه الإصلاحات هو وجود رأي عام مستنير ومنابر للتعبير عن الرأي متعددة الأبعاد والاتجاهات. إلا أن أيا من هذه الشروط لم يحظ في السابق بالتشجيع بل تعرض الكثير منها للقمع والإغلاق. إن إزالة الحواجز التي تعيق تدفق المعلومات والأفكار لم تعد خيارا سياسيا محليا تفكر به حكومات هذه المنطقة على مهلها، بل إنه ضرورة اقتصادية واستراتيجية لا مهرب منها وإلا واجهت المنطقة الأسوأ.
 
 يتوجب على الحكومات إطلاع مواطنيها على طبيعة الأخطار الخارجية –ذلك لأن الوعي بهذه الأخطار من شأنه أن يجلب التأييد والاعتدال في المواقف. بناء عليه يكون الهدف النهائي من هذه العملية هو تشجيع النخبة في القطاع الخاص وعامة الشعب على تقديم الدعم للحكومة في كل الخيارات والقرارات الصعبة التي تواجهها كل دولة. ويجب كذلك توخي الموضوعية والاتزان في تغطية القضايا ذات الحساسية الخاصة كالدين، وقضية الشعب الفلسطيني في ظل الإحتلال والقضايا المحيطة بالسلطة الفلسطينية وسياسات الولايات المتحدة.
 
 على سبيل المثال، في الظروف الحالية في العالم العربي والتي تتسم بالعداء الشديد لكل ما هو أميركي وحيث يتركز الوعي على الخطوات التي تتخذها السلطات الأميركية لمنع تكرار أي عمل إرهابي آخر في الولايات المتحدة، وما تعنيه هذه الإجراءات بالنسبة للحريات المدنية للعرب الذين يعيشون في الولايات المتحدة، هناك تعتيم أعلامي واضح على كل الإجراءات الإيجابية التي تتخذها الولايات المتحدة لحماية حقوق العرب الأميركيين والمسلمين عامة في أميركا. فكلا الإجراءين، حماية الأمن الأميركي وحماية حقوق العرب والمسلمين مهمان وكلاهما يعدان جزءا من الطريقة الأميركية في معالجة الأمور. وبينما نجد أن العالم العربي على علم تام بالانحياز السافر للإعلام الأميركي لإسرائيل بحيث من النادر وجود تغطية إعلامية توجه انتقادا لإسرائيل، فمن المسلم به أيضا أن الإعلام العربي منحاز من جانبه، وبالدرجة نفسها، لفلسطين بحيث من النادر وجود تغطية إعلامية توجه انتقادا للسلطة الفلسطينية. إن النقد الذاتي هو أمر حيوي للحوار السياسي الذي تتم الدعوة له هنا؛ فقط من خلال النقد الذاتي الموضوعي والصادق تستطيع المنطقة إستيعاب المأزق الذي تجد نفسها به ووضعه في المنظور الصحيح.
 
 إن الإصلاحات السياسية التي ذكرناها ليست مهمة بحد ذاتها فحسب، بل تعتبر شرطا أساسيا لا غنى عنه في دول الخليج لإجراء إصلاحات اقتصادية مؤلمة هي في أمس الحاجة إليها. ولعل أحد أهم الضرورات الاستراتيجية التي يتوجب على المنطقة أن تواجهها هي تعلم العيش بأسعار نفط منخفضة. فالاعتماد المستمر لدول المنطقة على عائدات النفط حول هذه السلعة التي تعتبر من أهم الموجودات لديها إلى "كعب أخيل" ونقطة ضعفها. وإذا وضعنا جانبا القيود التي يفرضها ذلك على كافة جوانب النظام، فإن الإعتماد المستمر على عوائد النفط في كافة جوانب الإقتصاد يزود الصناعة النفطية العالمية بوسائل منافسة لمنتجي الخليج. وعلى سبيل المثال إن سعر 20-25 دولارا لبرميل النفط الذي تفرضه دول الخليج يعتبر سببا كافيا لتتجه شركات النفط والغاز الدولية للبحث عن مصادر نفط وغاز جديدة وتطويرها، الأمر الذي يهدد في النهاية حصة  دول الخليج في السوق النفطية وبالتالي دورها الاستراتيجي. فلو استطاعت دول الخليج أن تكيف نفسها وفق سعر للنفط أدنى من 15 دولاراً للبرميل لكانت نعمة النفط التي حبتها بها الطبيعة ذخرا استراتيجيا؛ بينما هي اليوم عبء استراتيجي عليها.
 
 إن تعلم التكيف مع أسعار نفط أدنى مما هي عليه الآن يجسد كافة مجالات الإصلاح الاقتصادي التي تحتاجها دول الخليج اليوم. ولتحقيق مطلب التقليل من الاعتماد على النفط، فإن  كل دولة خليجية مدعوة للتعامل مع المشكلات البنيوية في اقتصادها، ومواجهة التحديات التي يواجهها القطاع الخاص، والتخلص من الكثير من قنوات توزيع الدخل القائمة منذ السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. هي مطالبة بتغيير ثقافة الاعتماد على الإنفاق العام، والبدء بإقامة وتدعيم نظام الكفاءات (إسناد المناصب العليا لذوي الكفاءات العليا) في كلا القطاعين العام والخاص. ومطلوب منها أيضا إصدار قوانين تجارية تتسم بالشفافية والإنصاف، وإيجاد وتشجيع ثقافة للمحاسبة والمساءلة، والحد من الإنفاق المفرط للأسر الحاكمة في بعض بلدان المنطقة. هذه الإصلاحات السياسية تقتضي وتنطوي على تغييرات أساسية في دور المرأة في المجتمع وفي إقتصاد الخليج بوجه عام والسعودية على وجه الخصوص. غير أنه يجب قبل كل هذا أن تحظى الحكومات في هذه الدول بدعم وثقة شعوبها والتي تجعل من الإصلاحات السياسية التي ذكرت آنفا مقدمة أساسية هامة لتحقيق هذه العملية. والحقيقة أن هذه المهام ليست بالهينة ولعلها السبب الرئيسي في عدم تقليل اعتماد المنطقة على النفط في الأعوام الثلاثين الماضية. لكن تحقيق هذه الأهداف لم يعد خيارا من بين خيارات بل ضرورة استراتيجية لا بد منها لضمان إستقرار ومستقبل الخليج.
 
 لعل من أهم الخطوات التي يجب اتخاذها عند تنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية إشراك القطاع الخاص في هذه العملية. فالقطاع الخاص في الخليج من أكثر القطاعات التي لم يتم إستغلالها كما يجب. ففي السنوات الثلاثين أو الأربعين الماضية أثبت القطاع الخاص في الخليج كفاءة عالية على الصعيد العالمي وبنى لنفسه قاعدة دولية متينة من موارد مالية ضخمة. كما أنه نجح في إقامة علاقات تجارية واسعة على مستوى العالم. وإدارة فتية واضحة ومثقفة، وشبكات عمل تجارية واستراتيجية واسعة، بالإضافة إلى الاتصال بصناع القرار الرئيسيين عالميا. ويعتبر كل ذلك مصدر قوة استراتيجية يمكن لمنطقة الخليج استخدامها كأفضل ما يكون في المناخ الحالي- إذ من دون إشراك القطاع الخاص يكون من الممكن تحقيق الإصلاحات فحسب بل إن إشراك القطاع الخاص بقدراته ورؤوس أمواله لا شك سيخفف من أثر الألم والاضطراب الاقتصادي القصير الأجل الذي سيرافق هذه الإصلاحات.
 
 المبادرة سبيلا لمعالجة المشكلات الإقليمية:
 
 من الممكن زيادة وتكثيف فعالية الخليج في مبادرته لإيجاد حلول لبعض المشكلات الإقليمية المستعصية لو تسلح بالتماسك والوفاق الداخلي في كل دولة والإنسجام بين دوله. وذلك يتطلب تكريس الجهود لصياغة رؤية مشتركة بين دوله لمعالجة القضايا الرئيسية العالقة، ومنها العراق والقضية الفلسطينية والتطرف الإسلامي ومنظمات مثل القاعدة  والطائفية وغيرها من المشكلات العالقة. ليس لدى دول الخليج علاقات طبيعية مع العراق، البلد الذي حاربته المنطقة بأكملها منذ 11 سنة مضت. على الرغم من التزامها بقرارات الأمم المتحدة بشأن العراق، إلا أن معظم دول الخليج عبرت عن قلقها البالغ من معاناة الشعب العراقي، وقد ساهم البعض منها في تقديم المعونات الإنسانية. وتعلم كل حكومة من حكومات المنطقة (وكانوا على علم بذلك في السنوات ال11 التي مضت) أنه لا يمكن الإبقاء على الوضع الراهن في العراق. وفي أواخر التسعينات حاول بعض الحكومات العربية، أن تمارس سياسة أكثر دعما لبغداد. والسؤال هو: ما هي الطريقة المثلى لإعادة تأهيل العراق من وجهة نظر دول الخليج؟ أي نظام و حكومة وهيكل سياسي سيمثل "جارا" واقعيا وبناء لدول المنطقة؟ وما هي الخطوات التي يجب القيام بها للترويج لمثل هذا الحل، في الشرق الأوسط أولا وفي العالم لاحقا؟هذه هي الأسئلة الصحيحة التي كان يجب التفكير فيها مليا والتصرف على أساسها مباشرة في الـ 11 عاما الماضية. لو كان هناك جهد منسق في هذا الاتجاه في السنوات العشر الماضية، لما أمكن فقط تفادي الطريق المسدود حاليا، بل لأصبحت النتيجة النهائية أكثر ملاءمة لمصالح دول الخليج. وقد تم إلحاق الضرر بأفاق هذه الاستراتيجية بسبب السلبية وعدم المبادرة وربما يكون الوقت قد تأخر جدا لتفادي تدخل عسكري أميركي لتغيير النظام في العراق. لكن الوقت ليس متأخرا لتكون منطقة الخليج ناشطة وتساهم مساهمة بناءة في إعادة تشكيل مستقبل العراق حتى في أعقاب تدخل عسكري خارجي.
 
 تحتاج المسألة الفلسطينية إلى الاهتمام نفسه من دول الخليج. لقد تم الاعتماد أكثر مما ينبغي على سياسة الضغط على الولايات المتحدة لتمارس بدورها الضغط على إسرائيل، ولم يعط الاهتمام الكافي لما كان بإمكان الخليج بالتعاون مع سوريا والأردن ومصر القيام به لمساعدة السلطة الفلسطينية على توحيد جهودها للتعامل مع العدوان الاسرائيلي.  
 
 يجب أن يكون واضحا الآن لكل عربي أن الولايات المتحدة لن تقدم فلسطين المحررة لنا. إلا أنها بشكل عام وفي ظل المناخ السائد بعد 11 سبتمبر ستقوم بدعم كل مبادرة إيجابية تأتي من المنطقة. لقد تناقصت مصداقية القيادة الفلسطينية في منطقة الخليج بشكل متزايد في العقد الماضي، فضلا عن أن زعماء الخليج كانوا على علم مسبق بما ينشر الآن من أخبار عن الفساد والحاجة للاصلاح في السلطة الفلسطينية. ويجب أن يكون واضحا أنه من دون حل هذه المشكلات لن تتحقق تطلعات الشعب الفلسطيني. والرسالة هنا شبيهة بتلك الموجهة لدول الخليج، وهي: أصلح الأوضاع في منزلك لكي يصبح بمقدرتك مواجهة التدخلات والتحديات الخارجية. إلا أن ذلك لا يعني أن المنطقة لا تستطيع استخدام كل الوسائل المتاحة للتأثير على الرأي العام العالمي وللضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية. من ناحية ثانية، يعني ذلك أن هذا الضغط سيحوز على مصداقية أكبر ويكون فعالا أكثر إذا ما دمج مع محاولات متوازية على صعيد الإصلاحات والتنمية الداخلية. 
 
 من الضروري أن يكون جزء مهم من جدول الأعمال الإقليمي لدول الخليج هو الحفاظ على العلاقات الإيجابية مع إيران. إن المصالح الجيوستراتيجية لدول الخليج العربي وإيران هي أكبر تقاربا مما مضى. وكما ذكرنا سابقا، فإن إيران تجد نفسها محاطة بدول تدور في الفلك الأميركي الجديد، وعرضة لحملة هجومية مركزة ومباشرة من إسرائيل ترمي إلى تحويلها إلى هدف للحرب على الإرهاب. وتعاني إيران في الوقت نفسه من الانشقاق الداخلي العميق، الذي لا تلوح له نهاية سهلة في الأفق، وذلك بسبب الصعوبات الاقتصادية والسياسية على الصعيد المحلي. ويعتبر السماح بعزل إيران ودفعها إلى أن تكون أكثر تطرفا بهدف التأثير السلبي على التحسن الذي شهدته العلاقات العربية – الإيرانية في السنوات الأخيرة، خطأ فادحا ينبغي تجنبه. وعلى الرغم من أن خيارات الدول العربية محدودة جدا لمساعدة إيران في صراعاتها الداخلية المستمرة، إلا أن دول الخليج العربي تستطيع طمأنة إيران في ما يتعلق بشؤون الأمن في المنطقة والسياسة النفطية وذلك يعني بالتحديد، الاشراك الفعلي لإيران في القضايا الإقليمية الهامة مثل العراق، منطقة الشرق الأوسط وأفغانستان والباكستان. وفضلا عن ذلك، قد يستلزم الأمر معالجة بعض القضايا الطائفية والعرقية العالقة في منطقة الخليج. إذ مع تزايد الضغوط والتحديات التي يجب مواجهتها والتغلب عليها في القرن الـ 21، يعتبر بقاء المنطقة مقيدة ومعاقة بالتوتر السياسي القائم بين الطوائف المختلفة والأعراق الأخرى في العالم العربي فشلا ذريعا. وفي هذا الخصوص، تكتسب الإصلاحات السياسية التي سبق لنا الكلام عنها، أهمية أكبر، حيث أنه عبر خلق قاعدة اقتصادية مشتركة تستطيع  المنطقة نزع فتيل التوتر الطائفي والعرقي الذي ابتلت به.
 
 إن المبادرة الفاعلة في السياسة الخارجية والإقليمية، التي تم التحدث عنها سابقا، هي إسلوب غريب عن التقليد الراسخ في الخليج. إلا أن ذلك لا يجعله منهجا خاطئا، حيث لم يساعد المقترب التقليدي على حل الصراعات الإقليمية، بل الأسوأ من ذلك، وكما ذكرنا سابقا، لقد أدى إلى تدخلات خارجية مرفوضة وأصبح يشكل نقطة ضعف للخليج وساهم في الترويج للمصالح الجيوبوليتيكية والاقتصادية لمنافسي دول الخليج. هناك عواقب مكلفة لعدم المبادرة ولعدم الأخذ بزمام الأمور في ما يتعلق بالمصالح الحيوية، والاعتماد الكلي على لأطراف أخرى في معالجة القضايا الإقليمية، والتجربة الراهنة في الخليج هي أوضح مثال على ذلك.
 
إن المبادرة الفعالة والنشطة في  السياسة الخارجية يجب أن تنطلق لتشمل العلاقات الإقليمية الاقتصادية بين دول الخليج. وكما أن الإصلاحات الداخلية تتطلب أن تسير الإصلاحات الإقتصادية جنبا إلى جنب مع السياسية، فإن العلاقات الإقليمية تتطلب هي الأخرى إصلاحا سياسيا وإقتصاديا. إن التعاون الاقتصادي ينبغي أن يعني التعاون الاقتصادي ذا الأبعاد الإقتصادية أكثر من انسياب المعونات المالية من عاصمة إلى أخرى بناءً على إعتبارات سياسية. على السلطات التفكير بما هو أبعد من القضايا الإقتصادية الصغيرة وعليها التركيز على القضايا الإقتصادية الاستراتيجية الكبيرة، حيث أن الهدف الاقتصادي النهائي يجب أن يكون استمرارية الاقتصاد الكلي والمنافسة والنمو المستمر وليس عوائد وحصصا قصيرة المدى.  إن المساعدات المالية الناتجة عن الازدياد غير المنتظم لأسعار النفط ليس مثل تحسين الوضع الاقتصادي والتنموي الحقيقي لأي دولة أو إقليم بشكل عام. إن الاقتصاد السياسي لدخل غير مكتسب، والذي تمتد جذوره في المنطقة إلى حقبة السبعينات، أثبت عدم صلاحيته منذ زمن، إلا أنه وحتى الأن كان الرد الرسمي عموما هو التخبط ، بدلا من اتخاذ القرارات الضرورية القادرة على بناء إقتصاد تنموي. هذا بطبيعة الحال يتطلب قرارات جريئة ومؤلمة، لكن ضرورية للمستقبل.
 

 إعادة الإرتباط بالعالم:


 
 فقط عن طريق قاعدة سياسية محلية تتحلى بالمصداقية وتمتلك رؤية واضحة للنظام الإقليمي السياسي والاقتصادي، تكون دول الخليج ( والشرق الأوسط عموما) جاهزة لإعادة الإرتباط بالعالم بطريقة بناءة وشاملة. والهدف النهائي هو أن يتم عرض رؤية تقدمها المنطقة لنفسها والعالم تهدف إلى إعادة بناء الشرق الأوسط اقتصاديا وإعادة تأهيله سياسيا، وليس تدميره بالحرب. وتعتبر المبادرة الأوروبية المتوسطية خير مثال على الارتباط الاقتصادي بين مختلف المناطق. ويمكن أن يمتد ذلك ليشمل كل الشرق الأوسط تحت مظلة مشروع مشابه ل "مشروع مارشال"، وقد يكون ذلك في البداية عن طريق أوروبا وآسيا وليس بالضرورة من خلال الولايات المتحدة. على أن تهدف الاستراتيجية الجديدة إلى خلق بيئة وحوافز مشجعة لشراكة اقتصادية ذات مغزى مع كل من أوروبا ، الصين، اليابان ومن المحتمل روسيا. في نهاية الأمر يكمن التحدي في إعادة بناء كل المنطقة من المغرب إلى باكستان. وكما تبين في العقود الماضية، فإن ترك أي جزء من المنطقة يتقيح كجرح، سواء كان ذلك لبنان، الجزائر أو أفغانستان، يترك كامل المنطقة معرضة للثورة والإرهاب والفوضى الاقتصادية والتدخل الخارجي.
 
 يجب أن لا تعني هذه الرؤيةاستثناء الولايات المتحدة، بل على العكس ضرورة إعادة الإرتباط بالولايات المتحدة لأنه سيكون مفتاحا رئيسيا لإعادة الإرتباط بالعالم. إلا أن إعادة الارتباط بالولايات المتحدة يجب أن تتم عبر اشراك جمهور أوسع من داخل الولايات المتحدة أكثر مما مضى. يجب على المنطقة إيصال رسالتها إلى الشعب الأميركي أولا، عندها فقط  سيجد العالم العربي أذانا صاغية في واشنطن. في هذه الحقبة من الاهتمام المتزايد والفضول حول كل ما يتعلق بالشرق الأوسط، والعرب والمسلمين، يستمع الشعب الأميركي إلى أراء معلقين معظمهم من المعاديين للعرب ويتلقى الاجابات عن معظم تساؤلاته من هؤلاء. ونادرا ما كان دافع الفضول بحد ذاته كافيا للإيضاح والتثقيف. وإذا أخذنا بعين الاعتبار المزاج السائد الآن في واشنطن، فإن أي دعوة مباشرة لمشاركة أميركية في إعادة بناء اقتصاد المنطقة تحتاج إلى انفتاح حقيقي وإصلاحات فعلية ومقنعة.
 
 إن الاستراتيجية البناءة في هذه الحالة تتمثل في خلق وتقديم أفكار إيجابية عن إعادة البناء الاقتصادي والشراكة الاقليمية بتغيير( ومن المفضل تعرية ) وجهات النظر السلبية التي يدافع عنها صقور المحافظين الجدد. إن التحذير والشكوى الصادرة عن كثير من العرب ليست سببا كافيا لإحداث تغيير في سياسة  الولايات المتحدة. فقط عبر بناء وصياغة رؤية بديلة للشرق الأوسط عما هو قائم الأن وتقديمها للعالم والولايات المتحدة تستطيع المنطقة قلب الموجة الحالية لصالحها. هذه العملية ستساعد حتما في تجديد التحالفات الاستراتيجية مع واشنطن والتي قد تكون مفيدة للولايات المتحدة في النهاية.
 
 إن إعادة الإرتباط بالعالم تتطلب أيضا اتخاذ بعض القرارات الصعبة. ومعظم الإصلاحات الداخلية التي تم ذكرها سابقا هي شروط أساسية لمشاركة أساسية وذات مغزى على الصعيد العالمي. فضلا عن ذلك، على المنطقة الانفتاح فعليا، إذ على الرغم من كل المظاهر الإيجابية وبعض الاستثناءات، فإن منطقة الخليج ليست منفتحة فعليا أمام الاستثمارات الخارجية المباشرة، فبعض من هذه الاقتصاديات مقيدة بقوانين وأنظمة مباشرة والبعض الآخر مقيد بسبب عوائق مثل البيروقراطية، وقيود والإجراءات. والانفتاح لا يعني بالضرورة الخصخصة، ولا يعني بالضرورة إعطاء حصص ملكية موارد النفط والغاز للشركات الأجنبية. أنها تعني الترويج لمناخ تجاري تنافسي نشط ترغب الشركات الأجنبية بالعمل فيه، ويصبح المناخ هدفا واضحا تعترف به كل القواعد والأنظمة التي تحكم الاستثمار الخارجي.
 
 إن عدم الانفتاح يعني أن تعزل المنطقة نفسها وهذا يصب في طاحونة من يعملون على عزلها وخنقها. في الوقت الذي أصبح العالم كله منفتحا عمليا، فإن إبقاء دولة أو مجموعة دول غير منفتحة واستثنائها من النشاط التجاري العالمي، والرأسمال، والتكنولوجيا، ومهارات الإدارة، والإبداع في العمل، والمزايا التنافسية، وأفضل الممارسات.. وإلى ما هنالك من فوائد، هو نوع من أنواع الخنق والتدمير البطيء. ونجد مثلا دولة قطر منفتحة في القطاعات الهيدروكربونية الصغيرة (الغاز الطبيعي)، ولكنها منغلقة نسبيا في القطاعات الأخرى. على عكس البحرين ودبي، اللتين نشأ لديهما حافز للانفتاح في القطاعات الأخرى بسبب صغر حجم القطاعات الهيدروكربونية. أما مشروع الغاز السعودي والذي ابتدأ العمل به قبل 11 سبتمبر والذي تعرض للكثير من النكسات مؤخرا، فيجب أن يعاد العمل به بأسلوب عملي أكثر وأن يتم تحريره من مجموعة كبيرة من العوائق البيروقراطية والإجرائية التي ابتلى بها سابقا. فضلا عن ذلك؛ يجب أن يتم العمل على تخطيط وتنفيذ انفتاح أكبر وذو مغزى في كل دول الخليج بحيث يتخطى القطاع الهيدروكربوني إلى قطاعات أخرى مثل القطاعات المالية والسياحية.
 
 إن إعادة الإرتباط بالعالم تتطلب فهمه بشكل أفضل. وتستطيع كل دولة في المنطقة، الاستفادة من النكسة الحالية كفرصة لتطوير مهارات التحليل وجمع المعلومات عن التغيرات الهائلة في الأوضاع الإقليمية والدولية. ويتطلب ذلك رصد وفهم التحولات الضمنية العميقة للمصالح الجيوبوليتيكية والتجارية التي تتسبب بهزات على السطح. على أقل تقدير، يجب أن تتمتع كل حكومة في المنطقة بقدرة على التحليل المتواصل في عدة مناطق رئيسية، ومنها: (أ) التركيز على الأوجه الاستراتيجية والهيكلية لمشاريع الطاقة العالمية  وإتجاهاتها– بالإضافة إلى الأوجه التجارية وسياسة السوق. حيث أن الدول الغير نفطية تمتلك خبرة في المجال التجاري، بينما لم يتم التركيز على الأبعاد الإستراتيجية والهيكلية لسوق النفط؛ (ب) المحركون الجيوبوليتيكون للعلاقات الثنائية الرئيسية في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل – تركيا،  وروسيا– إسرائيل، وروسيا – تركيا، وإيران – روسيا ، وباكستان – أفغانستان؛ (ج) دلائل ومنافع الروابط الاقتصادية والسياسية المتقاربة بين دول المنطقة الدول الأوروبية والصين وروسيا؛ (د) الولايات المتحدة ، نظامها السياسي وقيمها وطريقة عملها والتعامل معها.
 
 إن الحاجة إلى فهم العالم ليست مطلبا للحكومات فقط بل هي مطلب للشعوب أيضا. وضمن سياق النقاش السياسي الناتج عن المشاركة الواسعة الذي يدعو له هذا البحث، من المهم أن يتم إطلاع الشعوب بشكل عام على الشؤون العالمية. وذلك يعيدنا إلى قضيتين مثيرتين للجدل هما: التعليم والإعلام. هناك القليل مما يتم تدريسه في جامعات الخليج عن الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص. وإذا أخذنا التأثير الذي تمارسه الولايات المتحدة على المنطقة، نرى أنه يجب أن يكون في كل جامعة على الأقل وحدة "دراسات أمريكية" بحيث تشمل تاريخ وثقافة والتاريخ السياسي الراهن للولايات المتحدة. وهذه هي الخطوة الأساسية التي يجب القيام بها للتخلص من بعض الأساطير التي تتميز بالجهل، التي يواجهها زائري المنطقة بشكل مستمر. هناك ضرورة لفهم الولايات المتحدة، بغض النظر عما إذا كان ينظر إليها كعدو لدود أو كحليف إستراتيجي محتمل، أو دولة يجب إعادة ارتباطها بالمنطقة من جديد. إن جهل العالم العربي لحقيقة أميركا وكيف تعمل يشابه إلى حد كبير جهل المواطن الأميركي العادي للشرق الأوسط. إلا أن منطقة الشرق الأوسط تدفع ثمن هذه الجهل أكثر مما يدفعه الأميركي العادي.
 
 وأخيرا يتطلب إعادة الارتباط بالعالم مهارات اتصال أفضل واستراتيجية معينة تمكن من الوصول إلى جمهور عالمي أوسع بكثير مما هو عليه الوضع الحالي. إن الأغلبية الواسعة للمعلقين وصناع الرأي العام الذين يستمع إليهم الشعب الأميركي هم غير عرب وغير مسلمين، وهم يعطون وجهات نظرهم إلى الشعب الأميركي عن الإسلام والعداء لأميركا في العالم العربي، وعن خطر الإرهاب الإسلامي المتطرف. ولا يمكن القول بأن الحضور العربي في وسائل الإعلام خارج الولايات المتحدة يعتبر مثيرا للإعجاب. إذ على الرغم من عدم تأثر الرأي العام الأوروبي باللوبي الصهيوني وبالمعلقين الذين ينتمون إلى تيار المحافظين الجدد، إلا أنهم مثل الجمهور الأميركي لا يحصلون على معلومات من الجانب العربي الذي قلما يقوم بواجبه ويطرح قضاياه.
 
 الملاحظات الختامية
 
 معظم السياسات المقترحة في هذه الورقة، تمثل إبتعاداً جذريا عن طريقة العمل التقليدية في الشرق الأوسط بشكل عام ومنطقة الخليج بشكل خاص.  ويشير بعض المقترحات إلى ضرورة إعادة النظر وصياغة بعض البنى الإجتماعية السياسية. وهذا سيقود حتما إلى حقبة قصيرة ومؤلمة. بالرغم من أن المنطقة تجد نفسها عند مفترق طرق مما يتطلب إتخاذ قرارات تاريخية، إلا أنه ومهما بدت هذه التوصيات شاملة وكبيرة، إلا أنها ليست بعيدة عن متناول اليد وليست مستعصية على شعوب المنطقة. إن مستقبل المنطقة وفرصة شعوبها وتحديد مصيرها هي على المحك. إن العدو الأكبر للخليج والعرب هو الإستكانة والسلبية والإنتظار. وفي المناخ الجيوبوليتيكي الحالي، يرتبط ضياع كل فرصة بأخطار مباشرة.  فكل فرصة ضائعة وكل تردد في الترويج لرؤية إيجابية، سوف تفسح المجال بالضرورة أمام رؤى وتوجهات سلبية يتبناها منافسوا منطقة الخليج، وهذا بدوره قد يطيح بمستقبل الخليج والعرب وآفاق خروجهم من مأزقهم الراهن.
 
 
 
 
 
نبذة عن الكاتب
 
 
 
السيد فاهان زانويان هو الرئيس التنفيذي لشركة The Petroleum Finance Company (PFC)، وهي شركة مقرها في واشنطن، تقدم إستشارات إستراتيجية في حقل الطاقة العالمية ، ولها فروع في كل من باريس وكاراكاس ولبنان وهيوستن. وهي شركة متخصصة بالتوجهات التجارية والسياسية والاستراتيجية للنفط العالمي والغاز والطاقة. ولد السيد زانويان ونشأ في لبنان ثم انتقل إلى الولايات المتحدة في العام 1975 لمتابعة تعليمه. وخلال ال25 عاما الماضية تنقل زانويان في منطقة الشرق الأوسط ولا سيما دول الخليج ويتمتع بخبرة مهنية في دراسات تحليل أسواق الطاقة والإنتاج واستراتيجيات تسعير النفط والغاز في الدول المنتجة للنفط، فضلا عن مستقبل أسواق الطاقة.
 
 
 
المصدر:
 
مركز الدراسات الإستراتيجية و المستقبلية -  جامعة الكويت
السلسلة الإستراتيجية والمستقبلية 
الاصدار الاول  نوفمبر 2002
 
الموقع على الإنترنت: www.csfs-kuwait.org
 
 

copy_r