gulfissueslogo
د.ناصر الغيث
خارطة طريق للتنمية الإقتصادية في الإمارات (1)
د. ناصر أحمد بن غيث

 في مقالات سابقة تم التطرق إلى نماذج التنمية في كل من دبي وأبوظبي والتي تعتبر إبرز نماذج التنمية الإقتصادية في الإمارات وتم تحليل هذه النماذج من حيث الأسس النظرية والتطبيقات العملية لتحديد التحديات التي تواجهها وإمكانيات نجاحها وفرص فشلها , وقد تم التوصل إلى أن أبرز نماذج التنمية في دولة الإمارات تعاني بعض الإشكاليات النظرية والصعوبات العملية التي يمكن أن تحد بدرجة كبيرة من فرص نجاحها , فمن ناحية يعاني كلا النموذجين من إشكالية الخلط بين النمو الإقتصادي بمفهومه الضيق والتنمية الإقتصادية بفهومها الشامل , ومن ناحية أخرى فقد قام نموذج دبي على أساس غير متين بإعتماده في تحقيق هدفه للتنمية المستدامة على قطاع غير أساسي وغير مستدام هو قطاع العقار ومن ناحية ثالثة يقوم نموذج أبوظبي على تنمية القطاعات الإقتصادية المختلفة من خلال الإنفاق الحكومي الذي يعاني من عدم الإستدامة من جهة , ومن جهة أخرى عن طريق الشركات الحكومية التي أثبتت التجربة العملية إنها تعاني الكثير من المشاكل ليس أقلها تدني مستوى الكفاءة
 
وقد إعتمدت تلك المقالات في تحليلها على أساليب الإقتصاد الموضوعي البحيثة (Positive Economics) والتي تعنى بتفسير الظواهر الإقتصادية من خلال تحليل المعطيات والنتائج والعلاقة السببية بينهما دون الخوض في الأساليب المثلى للتعامل مع هذه الظواهر , بمعنى أن المقالات تعاملت مع نماذج التنمية الإقتصادية في دولة الأمارات من خلال البحث فيما هو كائن دون الخوض فيما يجب أن يكون , لكن نعتقد أن تحليل هذه النماذج سوف لن تكون له قيمة عملية ما لم يتم البحث في الأساليب المثلى للتعامل مع الإشكاليات التي تعاني منها والتحديات التي تواجهها والبحث كذلك في الطرق المثلى لمعالجة المثالب التي تعتيرها , وذلك من خلال إعتماد إساليب بحث الإقتصاد القيمي إو المعياري (Normative Economics) التي تبحث في وعن الوضع الإمثل للإقتصاد
 
وفي سلسلة مقالات قد تصل إلى عشر مقالات سيتم محاولة وضع إستراتيجية إقتصادية شاملة للتعامل مع المشكلات التي يعاني منها الإقتصاد الإماراتي من ناحية ومن ناحية أخرى رسم خارطة طريق للوصول به إلى مرحلة النضوج أولا والتشغيل الكامل والأمثل لعوامل الإنتاج ثانياً وتحقيق الرخاء الإقتصادي والإجتماعي لأبناءه ثالثاً , ولعل هذه المحاولة المتواضعة تنجح –إذا نجحت في شيء- في رمي حجر في المياة الراكدة وفي إستثارة الأطراف الفاعلة في الإقتصاد الإماراتي من مسؤولين وأكاديميين ونشطاء ومهتمين للدخول في نقاش عام على المستوى الوطنى تنتج عنه رؤية واضحة وتوافق وطني على ما يجب عمله وما يجب أن يكون عليه الإقتصاد الوطني في المرحلة القادمة -مرحلة ما بعد النفط- التي ستكون حتماً مرحلة مصيرية حاسمة
 
في هذه المقالات سيتم في البداية تحديد الإطر العامة للإستراتيجية التنموية التي سيتم من خلالها توضيح المفاهيم وتحديد الأسس التي ستقوم عليها هذه الإستراتيجية هذا من ناحية , ومن ناحية ثانية سيتم البحث في إعادة هيكلة وإصلاح القطاعات الأساسية التي تمثل العمود الفقرى للإقتصاد الوطني وهي: أولاً سوق العمل وثانياً سوق رأس المال وثالثاً قطاع البنوك , وسيكون ذلك من خلال تخصيص مقالة منفصلة لكل منها وذلك –كما تمت الإشارة إليه- لما تمثله هذه القطاعات من أهمية قصوى لإقتصاد أي دولة ودورها المحورى في التنمية الإقتصادية , فسوقا العمل ورأس المال يعتبران من أهم الإسواق المكونة للإقتصاد ككل وذلك كون الأيدى العاملة ورأس المال أهم عاملين من عوامل الإنتاج التي يقوم عليها الإقتصاد ومن ثم عملية التنمية الإقتصادية , فلا يتصور مثلاً أن تقوم تنمية إقتصادية أو أن ينشأ إقتصاد ناضج صحي وقوي دون أن تكون سوقا العمل ورأس المال فيه ناضجة وصحية وقوية , كما أن القطاع المصرفي يعتبر سيد القطاعات الإقتصادية المكونه للإقتصاد الوطني وأهمها على الإطلاق وأي خلل يعتري هذا القطاع سوف ينعكس بشكل مباشر وكبيرعلى الوضع الإقتصادي للدولة ككل
 
ومن ناحية ثالثة سيتم تبني مقاربة ثلاثية الأبعاد تعتمد على ثلاث حزم من الإجراءات يتم تناول كل حزمة في مقالة منفصلة: الأولى إجراءات قصيرة الإجل تستهدف علاج توابع الإزمة الإقتصادية العالمية وأزمة قطاع العقار في دبي , والثانية إجراءات متوسطة الأجل تهدف إلى إعادة هيلكة الإقتصاد الإماراتي وتحويله من إقتصاد ريعي يعتمد على مداخيل النفط إلى إقتصاد حديث ناضج يعتمد على الكفاءة والإنتاجية والتنافسية , والثالثة أجراءات طويلة الإجل تهدف إلى ضمان إستمرارية تحقيق الإقتصاد الإماراتي اعلى درجات التشغيل وإقصى درجات الإزدهار المعتمد على كفاءة وتنافسية القطاعات المختلفة .
 
وفي هذا المقام تجب الإشارة إلى إننا جميعاً -فيما يتعلق بعملية إصلاح الإقتصاد الوطني في دولة الإمارات بل وفي كل دول الخليج- نعمل كما يقال في الوقت الضائع وذلك لأننا نعيش الطفرة النفطية الأخيرة التي قد لا تستمر لسنوات أخرى قادمة تنتهي بعدها حقبة الرخاء المجاني وتنقضي معها سنوات الوفرة الكبيرة وتدق معها ساعة الحقيقة وتبدأ مرحلة الحساب وتجزى كل دولة بما كسبت في حقبة الطفرة النفطية والوفرة المالية فإما ثواب ورخاء وإما عقاب وشقاء , إذ من المعروف أن الإعتماد على الطاقة المستمدة من المصادرالإحفورية الناضبة والملوثة أصبح غير مجدي إقتصادياً وغير ممكناً سياسياً وغير مقبول أخلاقياً ما دفع مختلف الدول والحكومات إلى السعي إلى إعتماد السياسات التي تهدف إلى تقليل الإعتماد على هذه المصادر ما سيؤدي في المحصلة ألى إنخفاض الطلب على هذه المصادر كمصدر رئيس للطاقة الأمر الذي يعني دخول أسعارها في منحنى هبوطي , ما يحتم على دول الخليج أن تحسن إستغلال الوفرة المالية الحالية لبناء إقتصاد ناضج يعتمد على الإنتاجية والتنافسية وعلى الإمكانيات البشرية الذاتية , لذلك يجب علينا أن لا نفوت هذه الفرصة -التي أرها وغيري كثير- الفرصة الإخيرة التي إن تم تفويتها كما غيرها من الفرص فإنه لن يكون هناك أخرى وسيفوتنا قطار التنمية الأخير بعد أن فوتنا القطار تلو القطار في الماضي , كما تجب الإشارة إلى أن فشل خطط التنمية في الإمارات والخليج عموماً قد يكون له اَثار تتعدى الإقتصاد إلى الإجتماع والسياسة بمعنى أن الفشل في إستغلال الفرصة الأخيرة سوف لن يؤثر على وضع دول الخليج الإقتصادي -التي إعتادت شعوبها على دولة الرفاهية- فحسب بل قد يكون له اًثاره السلبية على كياناتها السياسية وأنسجتها الإجتماعية بل وعلى وجودها المجرد كدول وكيانات سياسية مستقلة وذات سيادة
 
الأطر العامة:
 
- أولاً: التنمية الإقتصادية والنمو الإقتصادي
 
في البداية يجب أن تقوم الإستراتيجية التنموية على فض الإشتباك بين التنمية الإقتصادية بمفهومها الشامل والنمو الإقتصادي كأحد مكوناتها وأن تحدد الحد الفاصل بينهما بكل وضوح , لأن هذا الخلط –سواءاً المقصود إو غير المقصود- كان أحد أهم أسباب التي حدت من فرص نجاح التجارب التنموية في دولة الإمارات , والسبب في هذا الخلط هو أن هدف تحقيق النمو الإقتصادي بمفهومه الضيق هدف مغري لأنه سهل التحقيق ونتائجه سريعة واَنية , في حين أن التنمية الإقتصادية الشاملة هدف صعب المنال ويحتاج قبل كل شيء إلى رؤية واضحة وصبر لا يلين ومثابرة لا تخبو , إذ أن نتائج أي خطة تنموية لا تظهر جلية قبل جيل وربما جيلين ما يجعلها عملية غاية في الصعوبة وهو ما يفسر قلة الدول التي إستطاعت تحقيق درجة مقبولة من التنمية
 
 
- ثانياً: وضوح الرؤية
 
يعتبر تحديد الأهداف التنموية بدرجة مقبولة من الدقة أحد أهم متطلبات خطط التنمية الإقتصادية وأول منطلقاتها , ومن ضمن دقة تحديد الأهداف يأتي الإطار الزمني الموضوع لتحقيق هذ الأهداف , حيث أن الكثير من التجارب التنموية قد فشلت بالرغم من مقومات النجاح العديدة التي تملكها بسبب عدم وضوح الرؤية والإهداف أو إستعجال تحقيقها , ولعل عدم وضوح الرؤية هذا يعتبر –من قبل البعض- أحد أبرز الأسباب التي أدىت إلى فشل تجربة دبي العقارية , حيث أن الإهداف لم تكون محددة بصورة واضحة من ناحية إضافة إلى درجة عالية من الإستعجال في تحقيق النتائج وهو ما أدي إلى فقدان الحكومة السيطرة على نمو القطاع العقاري والإقتصاد ككل الذي إدى في النهاية إلى تراجعه بشكل ملحوظ
 
- ثالثاً: حساب التكلفة الحقيقية
 
يقتضي التسلسل المنطقي –بعد تحديد الإهداف والإطار الزمني- تحديد التكلفة الإقتصادية والتكلفة الإجتماعية (التي تشمل التكلفة البيئية والأمنية والثقافية وغيرها) لخطة التنمية وللمشاريع المكونه لها , إن عدم حساب التكلفة الحقيقية بإبعادها المختلفة قد لا يؤدي إلى إرتفاع التكلفة الكلية للعملية التنموية فحسب بل قد يعطي بعض الجهات المتنفذة ذات المصالح الخاصة الفرصة لتحقيق مصالحها على حساب الإقتصاد الوطني والمصلحة العامة , ولعل هذا ما حدث في دبي إبان الطفرة العقارية إذ إستغلت بعض الجهات والإفراد عدم معرفة التكلفة الإجتماعية "للمغامرة" العقارية للضغط بإتجاه إتباع سياسات معينة تكفل لها تعظيم أرباحها على حساب المجتمع ككل ما أدي إلى إقرار الكثير من السياسات والمشاريع عديمة الجدوي كان ضررها على الإقتصاد الوطني أكثر من نفعها
 
- رابعاً: واقعية الطموحات وجدوى الأهداف
 
لعل من أهم مقومات نجاح الخطط التنموية هو أن تكون واقعية من حيث الطموحات ومجدية من حيث الإهداف , لذا وجب على أي خطة تنمية إقتصادية -كي تكون قابلة للتطبيق والنجاح- إن تكون معقولة الطموحات وممكنه الأهداف , كما يجب ان تكون الإهداف مجدية كذلك من ناحية التكلفة سواءاً التكلفة الإقتصادية المباشرة أو التكلفة الإجتماعية غير المباشرة , ولعل ما كان يؤخذ على نموذج دبي –وبدرجة أقل- نموذج أبوظبي أن كليهما كانا يقومان على تحقيق إما اهداف غير واقعية (من باب الأكبر أو الإفضل في العالم) أو أهداف –رغم واقعيتها- ذات تكلفة إجتماعية باهظة تحد من الجدوى من تحقيقها بدرجة كبيرة
 
- خامساً: مراعات البعد المحلي والإتحادي والخليجي
 
من أهم الماَخذ على نماذج التنمية في الإمارات إنها لم تتم على المستوى الكلي للدولة بل إنها تبنت مقاربات محلية لا تتناغم في كثير من الإحيان مع بعضها البعض وفي أحيان أكثر مع التوجه الإتحادي ما أدخل الإمارات المختلفة وشركاتها (شركات الطيران مثلا) في منافسة لم تكن دائما منافسة بناءه , لذا وجب عند إقرار أي خطة تنموية تبني مقاربة على المستوى الإتحادي لها بُعد خليجي مع مراعاة التناغم والتنسيق المحلي والخليجي من خلال تبني مقاربة تكاملية لا تنافسية , إذ أن المقاربة الخليجية قد يكون لها دور كبير إما في تقليل التكلفة غير المباشرة لعملية التنمية –كالإستفادة من فوائض الإيدي العاملة في بعض الدول الخليجية- أو زيادة فرص النجاح لكونها تعمل في محيط أكبر –كالإستفادة من أسواق الخليج الأخرى-
 
- سادساً: إختيار الإطار الزمني المناسب
 
أحد أكبر المشكلات التي تواجه أي خطة تنموية هي إشكالية تحديد الإطار الزمني المناسب الذي يجب أن لا يكون أطول من اللازم بحيث يعجز عن أخذ المتغيرات الاَنية ولا أقصر من الازم بحيث يفتقد البعد الإستراتيجي بعيد المدى , ويمكن التغلب على هذه الإشكالية من خلال بناء خطة إستراتيجية طويلة الأمد تنقسم إلى خطط خمسية قصيرة الإمد ما يضمن تحقيق الإهداف بعيدة الأمد من خلال التطبيق التدريجي من جانب وسهولة المتابعة والتعديل حسب ما يطرأ من متغيرات من جانب اَخر , كما يجب عدم إستعجال النتائج لأن إي عملية تنموية حقيقيه تحتاج إلى سنوات طويلة كي تبدأ نتائجها بالظهور بحيث يحس بها الناس العاديين , ولعل إستعجال النتائج هو ما شجع على تبني "النموذج العقاري" الذي تبنته دبي حيث إن نتائج التنمية العقارية كانت سريعة وأخاذه في صورة أبراج وبحيرات وجزر تخلب الألباب
 
- سابعاً: الحجم والكفاءة
 
يجب أن تراعي أي خطة تنموية يتم إقرارها الإمكانيات المادية والبشرية للدولة , ولعل الإمكانيات البشرية الوطنية المحدودة من حيث الكم والكيف هو ما أدى إلى رفع التكلفة الكلية لنماذج التنمية في الإمارات التي كانت أهدافها أكبر بكثير من إمكانياتها البشرية , لذلك يجب في البداية قبول الواقع والإقرار بإن إقتصاد الإمارات كان وما يزال ويجب أن يكون أقتصاد صغير , والحقيقة أن كون إقتصاد الأمارات ثاني أكبر إقتصاد عربي –رغم أن الإمارات من أصغر الدول العربية من حيث عدد السكان- أمر يجب أن يثير التساؤل وربما القلق بدل الإعجاب , لذلك يجب التركيز –عند وضع الخطة التنموية- على تحويل إقتصاد الإمارات إلى إقتصاد كفؤ يعتمد على إمكانيات ذاتية عالية التنافسية والكفاءة بدل من محاولة تحويله إلى أقتصاد كبير ربما يكون غير كفؤ يعتمد على ثقافة الإستيراد إستيراد كل شيء إبتداءاً من قوة العمل مروراً الثقافة والتعليم وإنتهاءاً بالنمو الإقتصادي ذاته
 
- ثامناً: الإدارة والشفافية
 
من الإهمية بمكان في الخطة التنموية الوطنية أن يتم التركيز في مرحلة التنفيذ على حسن الإدارة والحكم الرشيد من ناحية والشفافية من ناحية أخرى ما يضمن أقصى درجات النجاح , كما يجب أن يتم التفرقة بين إدارة الإقتصاد الوطني وإدارة المشاريع والشركات التجارية , وكذلك يجب التأكيد على أن ما يتم التعامل معه هو إقتصاد الوطني لا مشروع تجاري أو شركة يتم الحكم على أدائها بمقدار ما تحققة من أرباح مالية مباشرة , ولعل تهكم الإعلام الغربي بإستخدام مصطلح (Dubai Inc.) للإشارة إلى دبي وإقتصادها فيه دلالة كبيرة لا تحتاج إلى الكثير من التوضيح
 
- تاسعاً: بناء الإماكنيات الذاتية
 
أن من أهم فوائد التفرقة بين النمو الإقتصادي والتنمية الإقتصادية هو معرفة أن التنمية تقوم وتركز على أهيمة بناء رأس المال البشري الوطني وحسن إستغلال الموارد الوطنية , في حين يقوم النمو الإقتصادي على تحقيق زيادة فيما يتم إنتاجه من سلع وخدمات دون النظر فيما إذا تم تحقيق هذه الزيادة من خلال تنمية والإعتماد على الإمكانيات الإنتاجية الوطنية أو أنه تم إستيراد الإمكانيات الجاهزة من موارد بشرية وأولية من الخارج بسبب كون ذلك أكثر جدوى , لذا يجب أن تركز الخطة التنموية على تنمية الأمكانيات الوطنية المختلفة لضمان تحقيق نمو إقتصادي ذاتي ومستدام
 
- عاشراً: التركيز على إستدامة النمو بدل من معدلاته
 
من الضروة في البداية بيان أن معدلات النمو الإقتصادي المرتفعة -خاصة معدلات النمو الإسمية (Nominal)- ليست دائماً أمر جيد وذلك لأنها قد تكون غير مستدامة بسبب كون النمو الإقتصادي يقتات على نفسه -كما يقال- , بمعنى أنه كلما زاد معدل النمو الإسمي كلما ترا جع معدل النمو الحقيقي بسبب التضخم هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى غالباً ما تصاحب معدلات النمو العالية معدلات تضخم أعلى تفوق معدلات النمو ذاتها ما قد يودي إلى إنكماش الإقتصاد الحقيقي وتراجع مستوى المعيشة والرفاهية للأفراد بسبب تراجع القوة الشرائية للنقود نتيجة للتضخم , لذا يجب التركيز على تحقيق معدلات نمو ثابتة ومستدامة وإن كانت منخفضة بدل من السعي لتحقيق معدلات نمو عالية قد تكون غير مستدامة أو تكون نتائجها الفعلية على الإقتصاد بسيطة أو حتى سلبية مقارنة بما تم إستثماره من موارد كان يمكن أن تكون لها فائدة أكبر لو تم ترشيد إستغلالها
 
- أحد عشر: المشاركة الجماعية
 
التنمية الإقتصادية بمفهومها الشامل هي عبارة عن مشروع وطني إستراتيجي شامل يقتضي مشاركة الجميع ويحتاج مساهمة الكل , بمعنى أنها عملية تركز على تنمية جميع الإمكانيات لدى الجميع من خلال إستغلال جميع الإمكانيات لدى الجميع , لذا يجب مراعاة مشاركة جميع الأطراف عند وضع الإستراتيجية التنموية سواءاً في وضع الأهداف أو صياغة الخطط أو تحديد التكلفة من خلال طرحها للمنقاشة والمداولة العامة لتحقيق أقصى درجات التوافق الوطني وذلك لضمان المساهمة الفعالة من جميع الأطراف في مرحلة التخطيط وكذلك في مرحلة التنفيذ إذ لا يمكن تصور مشاركة أي شخص بصورة فعالة في تنفيذ مشروع ما دون أن يكون مساهماً أو على الأقل مقتنعاً به من حيث المبدأ
 
- ثاني عشر: الموازنه بين القطاعات والفئات والإمارات
 
لعل إثم التنمية غير المتوازنة أكبر من نفعها , والمقصود بالتنمية غير المتوازنة هنا أنها إما تركز على تنمية وإستغلال قطاع بعينه على حساب القطاعات الإخرى أو أنها لا يستفيد منها إلا فئة معينة وقليلة من الأفراد أو أنها لا تتم إلا في جزء معين من أجزاء البلاد , لأن التركيز على قطاع بعينه خاصة إذا كان هذا القطاع من القطاعات غير الرائدة (كالصناعات أو الخدمات) قد يؤدي إلى هشاشة الإقتصاد الوطني لأنه من قبيل "وضع كل البيض في سلة واحدة" , ولعل في الدول الغربية التي إعتمدت في الفترة الإخيرة بشكل إساسي على قطاع الخدمات خير مثال على ذلك إذ أنها كانت أكثر تأثراً بالإزمة المالية وأبطأ تعافياً منها مقارنه بباقي الإقتصادات الصاعدة كالصين التي تعتمد على قطاعات متعددة , كما أن التنمية التي تستفيد منها فئة معينة عادة ما تؤدي إلى تاَكل الطبقة الوسطى وإلى إتساع الفجوة بين الطبقات ما يعني الكثير من المشكلات الإقتصادية والإجتماعية وربما السياسية , أما عن التنمية التي تركز على إقليم معين من البلاد فإنها غالباً ما تؤدي إلى إتساع الفجوة في مستوى المعيشة بين مناطق البلد المختلفة ما قد يؤدي إلى موجة هجرة داخلية أو حتى إلى قلاقل داخلية تؤدي إلى تفكك الدولة ككل مثل ما حدث في السودان , من أجل ذلك يجب مراعاة الموازنة في التنمية بين القطاعات والإمارات المختلفة من خلال دعم وإستغلال الأفضلية النسبية لكل إمارة
 
تنظيم القطاعات الإساسية:
 

- سوق العمل

يعتبر العمل أحد أهم عوامل الإنتاج , لذلك كانت أسواق العمل من أهم الإسواق المكونه للإقتصاد الوطني لإي دولة , ونتيجة لهذا الدور تولي الحكومات الكثير من الإهمية لإسواق العمل من خلال التشريعات المنظمة للعلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال وكذلك التشريعات المنظمة لساعات العمل وبيئة العمل وظروفها والأجور والتشريعات التي تكفل حماية العمالة المحلية من منافسة العمالة الإجنبية التي قد تكون أكثر تنافسية من خلال كونها أكثر تأهيلاً وكفاءة أو أقل كلفة وكذلك القوانين التي تكفل حقوق العمال من تأمين إجتماعى وصحي وحق تشكيل النقابات والتفاوض الجماعى وحق الإضراب وغيرها من الحقوق التي كفلتها ونضمتها الدول ذات المشارب السياسية والنظم الإقتصادية المختلفة , لعل وضع سوق العمل في دولة الإمارات وباقي دول الخليج له خصوصية فريده كونه يتشكل ويعتمد بصورة أساسية على العمالة المستوردة ما يعني ويقتضي بالضرورة أن تراعى التشريعات المنظمة للسوق هذه الخصوصية , قد لا تكون الحاجة إلى حماية العمالة المحلية من المنافسة الخارجية مقصورة على أسواق العمل في دولة الإمارات ودول الخليج لكنها حتماً تملك أهمية خاصة في هذه الدول نتيجة الظروف الإقتصادية السائدة والتي تطلبت إستيراد أعداد كبيرة من العمالة خاصة في أوقات الطفرات (النفطية والعقارية) ما جعل العمالة الوطنية أقلية لا تحظى بأي حماية قانونية أو تشريعية , وقد يكون الوضع الذي وصل إليه سوق العمل في الإمارات من نسبة عمالة أجنبية عالية مقابل معدلات بطالة متزايدة بين العمالة الوطنية من المؤشرات التي تدل على أن سوق العمل في الدولة يعاني من قصور وخلل هيكلي خطير لا يؤثر على سوق العمل فحسب بل يتعداه ليؤثر على النسيج الإجتماعى والوضع الثقافي والجانب الإمنى والكيان السياسي للدولة الأمر الذي يتطلب التدخل المباشر والسريع لإصلاح مكامن الخلل في سوق العمل قبل تفاقمها  

- سوق رأس المال

لأ تقل سوق رأس المال أهمية عن أسواق عوامل الإنتاج الإخرى لذلك نجد سوق رأس المال من أكثر الأسواق والقطاعات تنظيماً من قبل الحكومات , ويقصد بسوق رأس المال هنا أسواق الأوراق المالية سواءاً أدوات الدين كسندات الدين والعملات أو سندات الملكية كالأسهم العادية أو المشتقات المالية , وتكمن أهمية هذه الأسواق في أنها الجهة التي تلجأ إليها الشركات والحكومات للحصول على الأموال المطلوبة لتمويل أوجة الإنفاق المختلفة , وتركز التشريعات الحكومية المنظمة لأسواق رأس المال على رفع كفاءتها من خلال تعزيز الشفافية وتقليص فرص المضاربة والتلاعب , ولعل أسواق المال في الدولة رغم حداثتها قد لعبت دور كبير في خدمة الإقتصاد الوطني ككل من خلال تسهيل حركة رأس المال والحصول عليه من قبل المستثمرين وتوظيفه في العملية الإنتاجية , لكن نتيجة لحداثة التجربة في الإمارات فقد عانت أسواق الأسهم وما تزال وكذلك أسواق الدين من الكثير من المشكلات نتيجة إلى قصور الأطر القانونية التي تنظم عملها , فعلى سبيل المثال عانت أسواق الأسهم والسندات في كل من أبوظبي ودبي بسبب القصور التشريعي وتدني مستوى الشفافية من مستويات مضاربة عالية أدت إلى تذبذبها بدرجة كبيرة ومن ثم إنهيارها بصورة دراماتيكية إبان الأزمة المالية وهي حتى الاَن ما تزال تعاني من مستويات أسعار ومستويات تداول منخفضة , الإمر الذي يستدعي تدخل مباشر وسريع لتنظيم عمل هذه الأسواق لرفع مستوى شفافيتها وكفاءتها  

- القطاع المصرفي

يعتبر قطاع البنوك من أهم القطاعات الإقتصادية إن لم يكن أهمها على الإطلاق وذلك لما له من أهمية قصوى ودور محورى في الدورة الإقتصادية , فهو شريان الحياة للإنشطة الإقتصادية ولولاه لما إستطاع المستثمر أن يستثمر ولا المدخر أن يدخر ولا المستهلك أن يستهلك ولا المنتج أن ينتج , هو بذلك قلب الإقتصاد وشرايينه ودورته الدموية فلا يتصور أن يزدهر إقتصاد دولة ما إن كان النظام المصرفي فيه غير صحي ويعاني من مشاكل , وللنظام المصرفي كذلك أهمية في إعمال السياسات الإقتصادية التي تقرها الحكومة فالسياسات النقدية -التي تعتبر من أهم أدوات السياسات الإقتصادية التي تستخدمها الحكومة في ضبط العملية الإقتصادية ومعالجة الكثير من المشكلات التي تعاني منها كالتضخم والركود والبطالة وضعف التنافسية وتراجع الصادرات وغيرها من المشكلات التي تعتبر من إهم سمات النظم الإقتصادية الحديثة- تعتمد بشكل أساسي في إقرارها وتطبيقيها على النظام المصرفي , ونتيجة للإزمة المالية وبسبب بعض أوجه القصور عانى القطاع المصرفي في الدولة من مشاكل كثيرة كشح السيولة وإرتفاع مستوى الديون المعدومة ومعدلات العجز عن السداد والتي ما تزال البنوك ترزح تحت وطأتها الأمر الذي ينذر بأزمة في قطاع البنوك بدأت تظهر بوادرها ما يتطلب تدخل سريع لتطويق هذه الأزمة في مهدها

الإستراتيجية ثلاثية الأبعاد تتضمن:


 
- أولا - إجراءات قصيرة الأمد وتهدف إلى التعامل مع اَثار الأزمة الإقتصادية:
 
- السماح بعملية التصحيح في الأسواق ومحاولة تقليل اًثارها الجانبية وليس منعها
 
- التعامل مع الشركات العقارية ومخلفات أزمة قطاع العقار(ترك الشركات غير الكفؤة تخرج من السوق من خلال تسهيل عملية الإفلاس التجاري)
 
- التعامل مع مشاكل الشركات الحكومية (زيادة الشفافية وكفاءة الإدارة ومحاربة مظاهر الفساد)
 
- التعامل مع الديون الحكومية وشبه الحكومية
 
- إصلاح أسواق المال والنظام المصرفي (دعم وتسهيل الإندماجات بين البنوك وشركات التمويل)
 
- ثانياً - إجراءات متوسطة الإمد وتهدف إلى الوصول إلى مرحلة الإقتصاد الناضج:
 
- إصلاح هيكل الأقتصاد الوطني (إقتصاد كبير ولكن غير وطني) وتفعيل دور رأس المال الوطني
 
- إستخدام الضرائب كأحد أهم أدوات السياسة المالية
 
- إصلاح تشوهات سوق العمل
 
- نقل التكنولوجيا عن طريق بناء شراكات دولية من خلال الإستثمار الخارجي
 
- مراجعة السياسات النقدية
 
- تقليل الإعتماد على ما يسمى "صناعة" إعادة التصدير
 
- إستحداث قاعدة بيانات على المستوى الإتحادي ونظام أحصائي شامل
 
- تحديث البنية القانونية
 
- ترشيد قطاع الصناعات والخدمات في المناطق الحرة بالتركيز على الصناعات عالية التقنية والمكثفة لرأس المال
 
- ثالثاً - أجراءات بعيدة الإمد وتهدف إلى تحقيق الإستدامة:
 
- التركيز على ثالوث: التعليم والصحة والإسكان
 
- إعتماد سياسة سكانية تنموية من خلال المحافظة على تركيبة ديمغرافية متوازنة (دعم الإنجاب والتجنيس)
 
- الموازنه ما بين قطاعي الصناعة والخدمات
 
- الموازنة بين المحلي والإتحادي والخليجي
 
- تحويل محور الإقتصاد من النفط إلى الفرد
 
في المقالة القادمة إن شاء الله سنبدأ بتناول الأطر العامة بشئ من التفصيل -- إلى اللقاء
 
 
 
 
 

25-10-2010

copy_r