العمالة الأجنبية أو الوافدة أو المهاجرة أو المؤقتة، أو أي تسمية أخرى
بخلاف هذه التسميات المتخبّطة التي تورطت الدولة في استخدامها لضرورات
ديموغرافية أو سياسية أو قانونية، أو بسبب مخاوف من مخالفات "حقوقنسانية"؛ لو
أن هذه العمالة اضطرت أو أجبرت على ترك التراب الإماراتي في سيناريو لهجرة
عكسية مفاجئة تحت وطأة ظروف اقتصادية أو سياسية مفصلية وعميقة التأثيرات تعرض
لها المجتمع؛ إلى أي مدى ستتمكن الدولة أو مؤسسات المجتمع، تحت وطأة هذا
المتغير غير المحسوب، من تدارك الأزمة أو احتوائها، باستنفار قوة العمل الوطنية
للاعتماد عليها كليا في تسيير النشاط المجتمعي بدءا من قمة المناصب الإدارية
القيادية، وانتهاء بقاع المهن والحرف الحقيرة؟.
المجتمع الإماراتي بشريحته المتآكلة التي بالكاد تلامس الثمانية عشرة بالمائة
من الكتلة السكانية، والذي يعتمد على العمالة المهاجرة لإشغال ما لا يقل عن
خمسة وتسعين بالمائة من وظائفه، أي ما يفوق عدد سكانه الأصليين بأكثر من ثلاث
مرات، هذا المجتمع لا يكاد يستغني عن خدمات العمالة المهاجرة في كل حركة وسكنة
من حياته اليومية، وفي الوظائف والتخصصات قاطبة من تنظيف دورة مياه المنزل إلى
ترؤس قمة الهرم التنظيمي في أي مؤسسة عملاقة، في وضعية مشوهة وهزلية وغير
مأمونة العواقب ربما تمتد عقودا أخرى من الزمن؛ ومع تفشّي عقلية البحث عن
الوظائف العليا والمريحة وذات الأجور المجزية بين المواطنين، هل يملك أي مجتمع
بهذه الوضعية وفي هذا المأزق القدرة على لمّ شتاته وحشد المهارات والخبرات
والكفاءات المهنية والفنية والحرفية المواطنة التي تغطي جميع احتياجاته ولو في
حدودها الدنيا، بحيث لا تتأثر وتيرة العمل اليومي الحكومي والتجاري والشخصي،
وحتى يشعر رجل الشارع بأن شيئا لم يتغير غير الوجوه والسحنات؟ أم أن المجتمع
سيصحو صبيحة اليوم التالي بلا سائقين للحافلات التي تنقل أبناءه إلى مدارسهم
ومعاهدهم، وبلا مدرسين فيها لتعليمهم، وبلا أطباء يعالجون المرضى في المستشفيات
ولا ممرضين يعتنون بهم، وبلا مؤذنين ولا أئمة للصلوات في المساجد، وبلا مهندسين
وفنيين يديرون محطات المياه وتوليد الطاقة، وليجد المواطن الإماراتي القمامة
تملأ الصناديق في الشوارع، والموانئ والمطارات وهي مشلولة الحركة تماما، وشبكات
الاتصالات والحواسيب في حالة من الموت السريري لعدم وجود المشغلين والمبرمجين،
وليجد المحالّ التجارية في الأسواق مغلقة الأبواب لأن الباعة غير المواطنين
حملوا أمتعتهم وارتحلوا عن بكرة أبيهم.
في صيف عام 1981 أعلن العاملون في المراقبة الجوية بالمطارات الأمريكية إضرابا
شاملا عن العمل احتجاجا على تدني أجورهم، وأصيبت المطارات الأمريكية ولساعات
بحالة من الشلل التام، وعلى الرغم من أن العمالة المهاجرة لم يكن لها دور ذو
أهمية في ذلك الإضراب، إلا أن الحل الطارئ كان جاهزا بتولي الجيش المهمة، وتمكن
خلال فترة الإضراب التي استمرت عدة أيام من إعادة الحركة الجوية إلى وتيرتها
الطبيعية تقريبا؛ ما حدث ليس لأن أمريكا دولة عظمى وتملك الإمكانيات الهائلة،
بل لأن المجتمع الأمريكي يتصرف كأي مجتمع تهمه شؤونه الاستراتيجية، ولذلك فهو
يفكر في كل احتمالات المستقبل ويضع لها الحلول الوقائية البديلة؛ فهل فكّر
المجتمع الإماراتي في كل احتمالات مستقبله؟ هل يستطيع- مثلا- في أن يؤلف الآن
وفورا من بين أفراده المنضوين تحت شريحة ال 18% فريقا من الإماراتيين يمكنهم
تشييد مجرد بيت شعبي بالكامل، وليس ناطحة سحاب، بدءا من مرحلة التصميم المعماري
إلى مرحلة الأعمال الإنشائية وصَفّ الطوب وأعمال التشطيب إلى تسليم المفتاح؟
ولأن الإجابة معروفة سلفا، فإن السؤال الأهم الجدير بالطرح سيبقى: من هو
المسؤول عن إيصال المجتمع إلى هذا المأزق بكل تداعياته؟ لماذا؟ لأن هذا المسؤول
هو الذي يملك بيده مفاتيح الحلول.
لقد ظَل العنصر المواطن وما زال مشطوبا من قائمة اهتمامات قطاع الأعمال في
المجتمع الإماراتي لأسباب، منها: ندرة الكفاءات الضرورية للوظائف المهنية
والفنية التي تسيّر العمل اليومي في المؤسسة التجارية عند نشأة القطاع قبل
خمسين أو ستين سنة، لعجز النظام التعليمي وقتها عن تزويد القطاع باحتياجاته من
اليد العاملة المواطنة المؤهلة والمدربة، حينها لم تكن سوق العمل تعرف غير حِرف
الغوص وصيد السمك والنادر جدا من الوظائف الكتابية، ومع ذلك لم تظهر لرجال
الأعمال آنذاك مبادرات أو اهتمامات بتطوير الخدمات التعليمية والتدريبية وتأهيل
المواطنين، ومع أن الوضع في سوق العمل تغير بتطور النظام التعليمي، إلا أن
القطاع ظل مستمرئا هذا الوضع المقلوب لأنه في صالحه ماليا وإداريا؛ ومنها تركيز
قطاع الأعمال اهتمامه وبشكل أساسي على استقطاب العمالة المهاجرة ذات التأهيل
المقبول لأنها رخيصة الأجر؛ ومنها أن العمالة المهاجرة أكثر ثباتا في الوظيفة
بحكم اعتيادها جو الوظيفة وتأقلمها مع النظام الوظيفي بشكل يجعلها أكثر انضباطا
وأيسر إدارة، بخلاف العمالة الوطنية المتعنتة التي تدخل هذه الأجواء للمرة
الأولى، ولم تكن قد اعتادت على الانضباط وإطاعة أوامر العمل والعمل الجماعي
المنتظم والعمل المرهق لساعات طويلة خلال الأسبوع؛ ومنها عقدة العمالة ذات
العيون الزرقاء والشعور الشقراء عند قطاع الأعمال، ولاسيما لوظائف كبار المدراء
والمستشارين والخبراء.
ولأن الشغل الشاغل لقطاع الأعمال كان مُنصبّا على زيادة المداخيل والأرباح،
ولأن أقصر الطرق الموصلة إلى ذلك هي زيادة المبيعات من خلال توسيع نطاق النشاط
إلى أكثر مما يحتمله المجتمع الصغير أو يحتاج إليه، مع تقليل المصروفات إلى
حدودها الدنيا، ولأن الأجور تمثل عادة أعلى بنود المصروفات، فقد كانت اليد
العاملة الإماراتية ومعها المجتمع الإماراتي خلال نصف قرن من تاريخ المجتمع هما
من دفع ثمن هذا التوجّه الجشع والقصير النظر، وكان الثمن:
أولا: استنزاف موارد المجتمع المالية، فقد اعتاد المجتمع أن لا تتجاوز نظرة رجل
الأعمال حدود منفعته الشخصية، ولذلك فإنه لا يهمه إن كان الأجر المدفوع للعمالة
المهاجرة لديه ولو كان زهيدا، يهاجر هو أيضا بكامله ذاهبا إلى مساقط رؤوس
أصحابه، ليبدأ في تحريك اقتصادات بلدانهم، وبالتالي فإن نمو الناتج المحلي
للاقتصاد ككل يتأثر سلبا بهذه التحويلات التي تقدر في أضعف الأحوال بنحو ثمانين
بالمائة من مقبوضات العمالة المهاجرة من الأجور والمرتبات؛ أما الأجر المدفوع
للعامل (الموظف) المواطن- ولو كان باهظا- إلا أنه يؤثر في رفع قدرة هذا العامل
الشرائية، بتحوله إلى سيولة نقدية تأخذ دورتها لتُضخ ثانية في الاقتصاد المحلي،
ولكن رجل الأعمال النرجسي لا يفكر إلا فيما ستمتلئ به جيوبه من أقصر الطرق أكثر
مما يعنيه كيف تتآكل ثروة المجتمع؛ ومع أن التقنية المتطورة كانت دائما متواجدة
لتقديم الحلول النموذجية ولتعويض تكلفة العدد الضخم من العمالة اليدوية غير
الماهرة بعدد قليل من العمالة الماهرة التي يستطيع المجتمع الوفاء بها، إلا أن
قطاع الأعمال المتشاغل بجني الأرباح والذي لا يستسيغ إلا الوجبات السريعة لم
يلتفت إلى هذا الحل السحري، الذي لا يتطلب إلا بعض المخاطرة (التضحية) والقليل
من عناء التخطيط؛ من جهة أخرى فإن رجل الأعمال الذي أعفاه المجتمع من كل أشكال
الضرائب، لم يضع في حساباته التكلفة التي تدفعها الحكومة بالنيابة عنه من أجل
تهيئة البنية التحتية اللازمة لاستقدام الموظف المهاجر الباهظ التكلفة، مع أن
استثمار تلك التكلفة لخلق فرصة عمل للمواطن يتقاضى منها أجرا يسد به رمق عياله
أو يرفع به مستوى رفاهيتهم، هو أجدى للمجتمع من إهدارها كأرباح غير مستحقة
يستأثر بها رجل الأعمال لنفسه، ويضيفها إلى صافي أرباحه؛ كما أن استخدام تلك
التكلفة كرأسمال لمشروعات اقتصادية جديدة تعمل كمحركات تدور بها عجلة الاقتصاد،
أجدى من تكديسها كثروة في جيوب عدد محدود من رجال الأعمال؛ ومع ذلك فإن قطاع
الأعمال بدلا من المساهمة بجدية في رفع المستوى المعيشي للمجتمع، فقد ساهم في
غلاء الأسعار ورفع معدلات التضخم والغش التجاري واحتكار السلع والخدمات، وحتى
أسهم الشركات التي تُطرح للاكتتاب العام لم تسلم من أنانيتهم حتى لم يتعدّ نصيب
ذوي الدخل المحدود منها إلا فتات الفتات، لكي لا تجد مدخراتهم منفذا إلا إلى
محرقة الاستهلاك.
ثانيا: تعطيل موارد المجتمع البشرية، إن توجيه طاقات العمل البشرية الوطنية إلى
مجالات ووظائف وتخصصات أقل عائدا أو احتياجا للمجتمع– كالوظائف الحكومية
الخدمية أو الوظائف غير المهنية وغير الفنية- هي خطيئة أو جريمة يتحمل قطاع
الأعمال وزرها، لأنها قللت من فرص حصول المجتمع على كفاءات مهنية وفنية
إماراتية عالية التأهيل، وقادرة على الاستئثار بنصيب الأسد في مجموع فرص العمل
في هذا القطاع المحوري، بما يتيح لها قيادته وتوجيهه والارتقاء بكفاءاته
وخبراته، ولأنها جعلت سوق العمل تعاني من أزمة ثقة في قدرة المواهب الإماراتية
على تولّي مسؤولية الوظائف والمهن الفنية الصعبة والمعقدة والغزيرة الخبرة،
وهذا الخلل واضح من ندرة أو ربما غياب الخبراء والمختصين وأصحاب الوظائف
القيادية الإماراتية في المؤسسات الخليجية، لأن أسواق العمل الخليجية لا تجد في
السوق الإماراتية ما يناسبها من الخبرات والكفاءات لتحرص على استقطابه أو
اقتنائه، بينما على العكس من ذلك نجد في المؤسسات الإماراتية اعتمادية ملحوظة
على استقطاب الموارد البشرية الخليجية، وهناك العديد من الخليجيين الذين
يتقلدون وظائف ومناصب مرموقة في سوق العمل الإماراتية؛ وعندما "حاولت" الدولة
التدخل لتطعيم القطاع الخاص ببعض الوظائف "الموطّنة"، بحثا عن فرص عمل لمئات
المواطنين العاطلين عن العمل بسبب إتخام الأجهزة الحكومية، لم يحترم رجال
الأعمال مشاعر المجتمع، وأرغَوا وأزبَدوا من أجل "تسفيه" المحاولة، فاضطرت
الحكومة أمام ردة الفعل هذه إلى لزوم الصمت وسحب الفكرة أو "لعق البصقة" حتى
وُئدت المحاولة وهي ما تزال جنينا لم يرَ النور، وحتى انزوت مأساة البطالة
المواطنة إلى منطقة النسيان المظلمة ورما سرطانيا ينمو ويتضخم في صمت؛ وعندما
فاجأ قطاع الأعمال المجتمع بالدخول في الاستثمار التعليمي، لم يستغرق الأمر
طويلا حتى تبيّن أن الجامعات والمعاهد التي أسسها ليست أكثر من "مشروعات
تجارية" تهدف إلى الربحية لا إلى المساهمة في تطوير التعليم، ولا إلى مدّ
المجتمع بالكفاءات، وأن عقلية اختصار النفقات المسيطرة على إنشائها وتشغيلها
جعلتها هزيلة التنظيم إداريا وسيئة التجهيز أكاديميا، وبسبب هذا الإفلاس القيمي
لم تنجح هذه المشروعات إلى الآن ولن تنجح إلى الأبد في إمداد حتى قطاع الأعمال
بالمخرجات والمهارات والمواهب العالية التأهيل والتدريب.
ثالثا: تسريب ثروة المجتمع المعرفية، فقد أظهر الوعي الإداري والاحتكاك اليومي
أن الأكثرية الساحقة من اليد العاملة الوافدة التي استقدمها قطاع الأعمال، بما
فيهم كبار المدراء والخبراء والمستشارين، لم يكونوا بالكفاءة والعبقرية والخبرة
النادرة التي يفترضها فيهم هذا القطاع، بل تبيّن أن غالبيتهم جاءوا وهم غير
مؤهلين لا أكاديميا ولا ميدانيا، وأنهم بدأوا في تعلم مهاراتهم الوظيفية في سوق
العمل الإماراتية على طريقة "تعلّم الحلاقة في رؤوس المجانين"؛ ومع ذلك فإن ما
"يتعلمه" المدير أو الخبير أو الطبيب أو المهندس أو الموظف الوافد أو المهاجر
خلال فترة خدمته في الشركة من المهارات الخبراتية العملية المتراكمة، وفوقه ما
أنفقه عليه قطاع الأعمال الإماراتي من أموال من أجل تدريبه وتأهيله مهنيا أو
إداريا أو بتحديث معلوماته الفنية حول التطويرات والمبتكرات والمنتجات أو
الخدمات الحديثة باعتبارها متطلبات وظيفية، كل ذلك يتبخر ويذهب هباء منثورا،
فإما أن يحتفظ بتلك المعرفة وخفاياها في جمجمته كأسرار مهنة، ويتعمد عدم
توثيقها، ويتلكأ في نقلها إلى أي مرشح ليحل محله في الوظيفة، ولاسيما إذا كان
هذا "الغير" متدربا إماراتيا أو من غير جنسيته، وإما أن تتسرب تلك المعرفة إلى
"أمتعته" لتهاجر معه إلى مسقط رأسه في رحلة اللاعودة؛ وعندما بدأ ترويج العولمة
في السوق العالمية، وأصيبت الشركات المحلية بهَوَس عولمة نشاطها الاقتصادي
والتجاري، لم تبذل تلك الشركات المجهودات والمبادرات الحقيقية من أجل عولمة
طريقة التفكير وتطوير المهارات التي تتطلبها العولمة عند العاملين (الموظفين)
المواطنين لديها (إن وجدوا)، بينما كان غير المواطنين، وعلى حساب تلك الشركات
ونفقتها، يتدبرون أمورهم للتزود بمثل هذه المعرفة والأسلحة التي يصعب بدونها
استكشاف غابات العولمة وكهوفها وقماماتها.
رابعا: فقر المساهمة والمبادرة المجتمعية، باستثناء بعض المحاولات المتواضعة،
فإنه لا توجد لرجال الأعمال مبادرات أو أعمال أو مشروعات تطوعية يشار إليها
بالبنان لتطوير البنية التحتية للمجتمع الإماراتي، أو لرفع مستوى التعليم أو
الخدمات الصحية والمجتمعية، أو لتطوير الإبداع الثقافي والعلمي والتقني،
ومحاولاتهم "التبرعاتية" الريائية التي يغلب عليها طابع الارتجال والعشوائية لا
تبلغ مستوى الإنجاز أو الظاهرة، بل إنه يمكن تصنيفها على أنها صدقات أو حسنات
لمتسولي لقمة العيش لا لمتسولي فتات المعرفة، إذ كثيرا ما "يتسول" هذه
"التبرعات" ويوجهها إلى مصارفها ناشطون اجتماعيون "لحوحون" أو مقربون من رجل
الأعمال المتبرع، وهذا ما يجعلها تنشأ في بيئات تغلب عليها ظروف عدم الكفاية
وعدم الاستمرارية وغياب التنظيم الإداري ونقص التخطيط المؤسسي والمنهجي، يضاف
إلى ذلك أن حجم ما أنفقه رجال الأعمال على تلك المحاولات حتى الآن لا يتوازى مع
حجم المخرجات ونوعيتها، ولا يمثل من العوائد والأرباح السنوية المحققة من حصيلة
نشاطهم التجاري إلا نسبة لا تكاد تذكر.
خامسا: تدمير الثروة البيئية، البيئة الطبيعية الإماراتية بيئة محدودة في
مواردها وفقيرة في تنوعها، ومع ذلك لا تزال يد قطاع الأعمال تعيث فسادا في
بيئتها الصلبة، فالجبال والتكوينات الصخرية تُفجر وتُفتت وتتحول إلى غبار أو
حصى أو مواد لردم البحر، والحياة البحرية والملاجئ الطبيعية لكائنات البحر
الحية وشواطئه تتعرض للتجريف والتلويث المتعمد، والشواطئ والمناطق الصحراوية
ضحية برنامج تشويهي لتحويلها من متنفسات بيئية إلى كتل وغابات وأورام
كونكريتية، حتى باتت هذه الشواطئ والصحاري تحتاج إلى محميات، مثلما احتاجت
الكائنات الحية إلى محميات جراء تعريض التربة التي تنمو فيها النباتات والأشجار
الطبيعية إلى تجريف وإزالة دُمرت أثناءها أعشاش الطيور ومآوي الحيوانات البرية
وأماكن تواجدها في الطبيعة؛ أما البيئة اللينة فإن ممارسات قطاع الأعمال
العدائية وخروقاته لها أشبه بكابوس لا نهاية له، بدءا من استنزاف المياه
الجوفية والسطحية وتلويثها بالنفايات الصناعية، إلى تلويث الهواء ورفع معدلات
المواد الصلبة والسامة فيه؛ وبموازاة ذلك فإن قطاع الأعمال لم يكفّر عن سيئاته
بمبادرات ومنجزات لتأسيس مشروعات زراعية نوعية تعيد إلى البيئة حيويتها
ومساهمتها الاقتصادية، إذ بخلاف المشروعات الحكومية في هذا المجال فإن
الاستثمارات الزراعية الخاصة تعتبر شديدة الندرة، دلالة على أن الوعي البيئي
عند رجال الأعمال سطحي للغاية، وذلك لأن العائد الربحي المحدود والطويل الأجل،
ودرجة المخاطرة العالية التي تنطوي عليها مثل هذه المشروعات "الصعبة"، كلها
اعتبارات لا تغري رجال الأعمال المتخاذلين بتوجيه الاستثمارات نحوها؛ ومع ذلك
يتعامل قطاع الأعمال مع القوانين والتشريعات الحامية للبيئة دائما على أنها
مصدّات وقيود تحد من حريته في الحركة وتتجرأ على مصالحه، ولهذا فهو يقاوم
إصدارها أو يتحايل عليها بعد إصدارها.
سادسا: مسخ الهوية الوطنية، وزعزعة الأمن القومي، فيما عدا جيوبها وأحيانا
عقولها، فإن جيوش العمالة المهاجرة التي استجلبها قطاع الأعمال لم تأت إلى
الدولة خالية الوفاض، بل جاءت ومعها ثقافاتها ولغاتها وعاداتها وتقاليدها
وأديانها وأعيادها ومقدساتها؛ وعندما لم تجد- قبل خمسين أو ستين سنة- من
القوانين والتنظيمات الحكومية ما يُلزِمها بالوقوف عند حدود معينة لسلوكياتها
الثقافية والاجتماعية، انتقلت رأسا من طور الممارسة الشخصية المتخفية إلى طور
الممارسة العلنية واستدراج المجتمع إلى فخ المشاركة، ثم لم يلبث المجتمع طويلا
حتى أصبحت لغته لغة ثانية، وأصبح دينه دينا ثانيا وربما رابعا، وأصبحت عاداته
وتقاليده أشياء منسية على رفوف المتاحف وفي البرامج المسلسلات التلفزيونية
المحلية التافهة، وأصبحت تركيبة المجتمع بكاملها خريطة كاريكاتورية من الأجناس
والديانات والثقافات، كل شرائحها أكثرية إلا الشريحة المواطنة منها؛ من جهة
أخرى لم يكن رجال الأعمال يجدون لا الدراية اللازمة ولا الوقت الذي يسمح
بإضاعته في الاختيار بانتقائية من جيوش العمالة المستقدمة من خلال التدقيق في
أوراق ومسوغات التعاقد للوظيفة، فدخلت إلى المجتمع الإماراتي تحت هذا الغطاء
القانوني المجاني والبيئة الترحيبية المفتوحة على مصاريعها جحافل من العمالة
تمثل اتجاهات سياسية أو مصالح سياسية أو مصادر معلوماتية، أو أعدادا قفزت
بسهولة فوق عائق الأقلية لتبلغ حد الأكثرية ولتمثل عمقا استراتيجيا لدولها،
ولتتبنى مصالح كثيرا ما تتعارض مع مصالح الدولة، بخلاف وجود أعداد مدربة هي في
حالة تأهب أو ترقب لاستقبال التعليمات للمبادأة بفرض الشروط، كما أثبت ذلك
حوادث الإضرابات وأعمال الشغب والاعتداءات على رجال الأمن، وكما تشير إليه
معدلات الجريمة وطرائق ارتكابها وامتداداتها التي باتت علامة فارقة في تاريخ
الأمن الإماراتي.
بهذه الحصيلة المخجلة من الممارسات اللامسؤولة والسجل الفارغ من المنجزات
المجتمعية، وعندما لا يصل مجموع ما قدمه رجال الأعمال، ذوو النزعة القارونية
الغارقة في الأنانية والجشع، لمجتمعهم من المدارس النموذجية والمستشفيات
النوعية والمكتبات ومراكز البحث العلمي والبعثات والمنح الدراسية، إلى خمسة
وعشرين بالمائة من مجموع ثرواتهم الحقيقية على الأقل، فإن قطاع الأعمال بهذه
الوضعية يكون قد أوقع المجتمع الذي حاباه ووقف في صفّه إلى أن اشتد عوده في
"إحراج" استراتيجي، فلا هو يتجاوب مع محاولات أو إيحاءات فطامه، ولا هو يبادر
إلى سداد ولو جزء من دَيْنه القديم والمتنامي، بينما المجتمع يضع أقدامه على
أعتاب مستقبل عابس شحيح الخيارات، لا يقبل إلا الحلول الذكية والحاسمة.