يعتقد صموئيل هنتغتون أن أهم فارق سياسي بين الدول لا صلة له بشكل الحكومة
(ديمقراطية حزبية، قبلية، انقلابية عسكرية) وانما يتصل بشكل رئيسي بدرجة
الحكومة[1]. هذا الفارق يمثل مفتاحاً لفهم التطابق المدهش في الانظمة السياسية
العربية على اختلاف اشكالها، والسبب في ذلك ان درجة الحكومة، أي درجة تغلغل
السلطة السياسية في الشأن العام تكاد تتفشى بصورة تفقد الدولة الهدف الاساسي من
اصل نشأتها والوظيفية الرئيسية التي قررت لها.
ثمة مقولة رائجة في السعودية كتبت في بعض الشوارع "لا تفكر فالحكومة تفكر عنك"
تختصر هذا الفارق الكيبر الذي تحدث عنه هنتغتون في كتابه (النظام السياسي في
مجتمعات متغيرة). فالتمدد اللامحدود للسلطة الى حد اختراق مجال التفكير عند
الافراد يجعل من السلطة جثة ضخمة متحركة وتحيل من المواطنين مجرد نزلاء في أرض
لا تربطهم بها سوى ما تكفيهم مؤونة الاكل والشرب.
فالتورم المتزايد في الجهاز البيروقراطي أحال الدولة الى مجرد آلة ضخمة مترهلة
او بناء يحتشد بداخله عدد هائل من الكسالى والمنتفعين. وما حدث نتيجة لذلك، أن
نشوء عدد متزايد من السياسيين قد ضاعف من المطالب على الجهاز السياسي، بمعنى أن
تضخم الدولة قد ضاعف من مسئولياتها وضاعف من ضغوط المواطنين عليها، وبالتالي
فإن تزايد توقعات المواطن من الدولة العاجزة هذه عن تلبية هذه التوقعات أسفر عن
مستوى خطير من الصراع والذي بات في نفس الوقت بدرجة من التعقيد بحيث أصبح من
العسير جداً تسويته او حتى ادارته.
الدول القائمة على أساس ايديولوجي، أي على مدعيات دينية وتاريخية تكون أكثر
عرضة لهذا النوع من الامراض التي تصيب بمرور الوقت جسد الدولة بحالة شلل تام،
وهو ما يعبر عنه المواطن والمسؤول بصدق "ان الدولة تمشي بالبركة" تعبيراً عن
فقر الدولة لايجاد حلول لمشاكلها بحيث باتت تنشد حلولاً من خارجها. فالدولة
المؤدلجة يشيع فيها الفساد والمحسوبية والاثرة بعكس الدول القائمة على اساس
وظيفي، أي لتنظيم المصالح العمومية ودرء المفاسد بكافة اشكالها.
في واقع الامر، أن الاساس الايديولوجي للدولة يوفر مبرر تحريرها من قائمة
الالتزامات الضرورية تجاه مواطنيها رغم اختراقها المشين للمجال العام، بكل
متوالياته. وتحرير الدولة من التزاماتها يرهن كل ثرواتها وأمنها واستقرارها
لمجموعة من المنتفعين وأصحاب المصالح الخاصة.
مواطنون ام رعايا
لعل أهم تمظهر لاختلال الاطار الوظيفي للدولة والحكومة معاً يتمثل في نظرة
الحاكم للمحكوم وما ينجم عن هذه النظرة من تداعيات إن على مستوى العلاقة
المفترضة بين المواطن والدولة والمهمات المرسومة لكل منهما في مجال حماية
المواطن والدفاع عن حريم الدولة واستقرارها الداخلي ودرء العدوان عن ثغورها أو
على مستوى الحقوق والواجبات المتبادلة. والسؤال هنا: ما هي نظرة الحاكم
الى المحكوم في دولنا؟
للاجابة عن هذا التساؤل الاستراتيجي وفي محاولة للتعرف على نظرة الحاكم للمحكوم
يمكن القول تمهيداً بأن بعض الدول جبلت على استخدام مصطلح رعايا subjects)) بما
يحمل في داخله من مدلولات الخضوع والتبعية والالحاق، وقد شاع استعمال هذا
المصطلح ابان الفترة الاستعمارية وبخاصة في نهايات القرن التاسع عشر ومطالع
القرن العشرين حيث لحظنا في مراسلات المعتمدين السياسيين البريطانيين في منطقة
الخليج استعمال مصالح رعايا ويقصد به الاشخاص التابعين للسلطة البريطانية او
الخاضعين تحت ادارة معتمديها وممثليها في منطقة الخليج. غير ان هذا المصطلح
تلاشى تدريجياً بعد أن ظهرت حركات وطنية تطالب برسم علاقة متوازنة بين الدولة
والشعب، وبدأ مصطلح مواطنين (citizens) يحل محل رعايا، الا أن المصطلح الاول
-رعايا وبرغم اختفائه بالكامل في بعض دول الخليج الا أنه مازال يستعمل في
الوثائق الرسمية وخصوصاً في السعودية.
ورغم أن دلالة المصطلح قد لا تكون مدركة بصورة كاملة في أذهان واضعيه الا أن
استعماله يعكس جزءاً من الصورة المرسومة في أذهان ولاة الامر حول أفراد الشعب
عموماً وكيف ينظر اليهم. نقل عن الملك فيصل قوله لأحد المتظلمين حين اشتكى له
مصادرة احد الامراء لأرضه قائلاً "انت وما تملك لنا" وتكررت المقولة على لسان
أحد الامراء الكبار قبل سنوات قليلة حين تظلم له أحد المزارعين في منطقة
الاحساء بعد ضم مرزعته لمزرعة الامير نفسه.
مقولة "أنت وما تملك لنا" تحيل من المواطن وممتلكاته الى مجرد عرض خاص أو بضاعة
منقولة يجوز للحاكم ان يفعل بها ما يشاء.
تأسيس الدولة على مبدأ الرعاية يجعلها مجرد محسن (وما على المحسنين من سبيل)
ويزيل عنها صفة المسئولية، وهذا ما ينفي ابتداءً وظيفة الدولة. فالحكومة تكون
فوق الشبهة والمحاسبة حين ترى فيما تقوم به مجرد احسان تجود به على مواطنيها،
ويبدو أن هذه النزعة كانت قوية في بداية نشأة الدولة حين كانت السلطة المؤسسة
حديثاً بحاجة الى جلب ثروات المناطق الاخرى لمكافأة الحلفاء في منطقة نجد
وتأسيس السلطة المركزية كقاعدة لانطلاق الدولة وتعزيز سلطانها في مركز النشأة
وتالياً في المناطق الملحقة، الا أن هذه النزعة أثارت وبدرجة كبيرة سخطاً في
المناطق الاخرى، وكانت مثار استهجان من وجدوا أنفسهم ضحايا لوحدة لم يجنوا منها
سوى الحصرم.
ثمة نزوع شديد الى تجاوز المفاهيم السياسية الحديثة التي ارتبطت بنظرية الدولة،
فالمواطنة كفمهوم حميمي متصل بنظرية الدولة والسلطة السياسية، يكاد يغيب من
الثقافة السياسية، بل وفي أجندة السلطة، ويستعمل في الغالب للتعبير عن شيء محدد
وهمي: المواطن الصالح هو الاكثر ولاء للسلطة الحاكمة. وهو ابتكار فريد يختزل
مفهوم المواطنة الى حد هدم مدلوله الحقيقي.
فالمواطنة بما تتضمن من منظومة عناصر ومقتضيات تجعل من الولاء للسلطة مجرد
استجابة موضوعية لتحقق العناصر المقررة لمبدأ المواطنة. فالمواطنة في جانبها
المدني تتكون، حسب مارشال، من حقوق ضرورية للحريات الفردية، وفي جانبها السياسي
من حق المشاركة في مزاولة السلطة عبر البرلمان ونظرائه، واخيراً في جانبها
الاجتماعي من الحق في الحصول على مستوى مقبول من الحياة ومن الميراث الاجتماعي
للمجتمع[2].
هذه المواطنة كما يعرفها مارشال تضع وبصورة مكثفة العناصر المتعارف عليها بين
منظري الدولة وعلماء السياسة. ولا نحتاج الى جهد كبير لعقد مقارنة بين المواطنة
كمفهوم والسلوك العام للسلطة السياسية لدينا في مجال اختبار تحقق هذه العناصر،
فالحريات الفردية تنفيها تقارير حقوق الانسان بما حوت من انتهاكات للحقوق
الاساسية للمواطنين بما فيها حق الدفاع عن النفس، فضلاً عن انعدام حرية التعبير
والاجتماع. واما المشاركة السياسية فالنضال مازال يتصاعد من اجل الحصول على
الحد الادنى من المشاركة السياسية، يكشف عنه ظهور اطراف وجماعات جديدة تولدها
البيئة السياسية الضاغطة والاحداث السياسية المتلاحقة النازعة نحو فتح الابواب
المغلقة للسلطة.
الاصلاح القادم بالانهيار
في النظم السياسية الحديثة وفي الغرب على وجه التحديد، تمت عملية انسحاب
تدريجية للحكومة لحساب المحكوم دون ان ينال ذلك الانسحاب من هيبة الدولة
واستقرارها وتماسكها الداخلي، وكان الهدف بصورة رئيسية من ذلك الانسحاب تحسين
اداء الدولة وتنظيم المصالح العمومية، فتطابقت الدولة مع أهدافها الاصلية التي
من أجلها تشكلت كما رسم لها منظرو الدولة الاوائل حين قرروا وظائف محددة للدولة
لا تحيد عنها ولا تتجاوزها، فاصبح للدولة دور محدد هو تنظيم المصالح العمومية
ودرء المفاسد وحماية الاعراض والممتلكات من العدوان الداخلي او الخارجي.
على الضد من ذلك في الدولة التسلطية كما يصفها خلدون النقيب، فقد كان هناك عمل
دؤوب على تسلل الحكومة الى جميع مرافق الدولة واطالة ذراعها الى المصالح
العمومية الى حد مزاحمة الناس في أرزاقها، وفي لقمة عيشها، بل وفي تفكيرها. فلم
يعد هناك ما يفصل بين ما هو خاص بالحكومة وما هو عام للمواطنين، وكل ذلك لأن
ولاة الأمر ينظرون الى الدولة بكامل حمولتها ملكاً خاصاً او إمتيازاً فريداً
لهم ويئراً نفطياً ينعمون به ويقتسمونه فيما بينهم ويسترضون به من عاضدهم او
تحالف معهم في انجاز مهمة السيطرة والنفوذ.
فالحكومة لدينا لم تعد أداة لتنظيم المصالح العمومية وقوة رادعة للطامعين سواء
في الداخل او الخارج، بل تحولت بفعل اختلال الوظائف المرسومة لها في الاصل الى
اداة لتعطيل المصالح وقوة قامعة في الداخل وهشة في الخارج، ولا غرابة، والحال
هذه، أن تسمع قصصاً تنال من كبار الامراء حول نزع ملكية هذه الارض، ومصادرة
بستان هذا او مزرعة ذاك، او المشاركة الاقحامية في هذه التجارة، وهذه القصص
تتكرر على ألسنة المواطنين من غربه الى شرقه يومياً وعلى مدار الساعة تقريباً.
لماذا؟
لأن الدولة ليست منفصلة عن الحكومة، فالدولة بما فيها شيء من أشياء الحكومة
والاخيرة امتياز خاص بعائلة او قبيلة او حزب، ولنفس السبب يكون مصير هذه
الحكومة والدولة ملتحماً بمصير العائلة، ولنفس السبب ايضاً تكون الوحدة الوطنية
مهددة سيما اذا كان البلد مثل السعودية حيث التعددية فيها تمتد من اللهجة والزي
وتمر بالمذهب والثقافة والعادات الاجتماعية وتصل الى التطلع السياسي، وحيث
عملية الاندماج السياسي الحقيقي لم يتحقق حتى في حدوده الدنيا، فحينئذ تقف
الدولة وجهازها الاداري أي السلطة على طرف نقيض مع باقي فئات الشعب المتضررة من
الدولة والسلطة فيها.
والمفارقة المثيرة للجدل دائماً، أن الدولة لدينا تتمتع بكونها "قوية"
و"تسلطية" لا بمعنى ان هذه الخصائص كامنة في الدولة تكويناً، ولكن بالمقارنة مع
وبالنظر الى ضعف القوى الاجتماعية، ولكنها هذه القوة والتساطية تتبدد مع أول
تهديد قادم من الخارج.
فالدولة قوتها وتسلطها نابعان من كونها اكثر تغلغلاً واقتحاماً في الشأن العام
من أي قوة اجتماعية اخرى، فهي التنظيم الاكثر تضخماً وسيطرة على منابع الثروة
والقوة، وهنا مكمن الخطورة. فالدولة بتغلغلها تزيد من التزاماتها، وضغوطها
وتالياً تثير السخط الشعبي حين تعجز عن الوفاء بالتزامات فرضتها هي على نفسها.
كانت الدولة التسلطية أمام فرصة تاريخية لأن تعيد تشكيل نفسها، والتخلص من
أعبائها القديمة، وبالتالي اجراء عملية اصلاح راديكالية مأمونة العواقب من خلال
التحرر تدريجياً من مهماتها الاضافية، ولكن الاصرار على ابقاء القبضة الحديدية
على السلطة حرم النظم السياسية من فرص كانت فقيرة اليها. فمع استكمال بناء
مؤسساتها ثم دخولها في برامج التنمية الشاملة كانت الدولة قادرة على نقل جزء
كبير من مسئولياتها وامتيازاتها الى الشعب وبالتالي اجراء عملية دمج حقيقية
للشعب في العملية التنموية في بعديها السياسي والاقتصادي، وكان ذلك يتطلب ارساء
اساسات جديدة يكون فيها الشعب قادراً على تشكيل مؤسساته الخاصة، وحين بدأت
بوادر الازمة الاقتصادية في بداية الثمانينات كانت السلطة السياسية امام فرصة
اخرى وربما اخيرة من اجل انقاذ ما يمكن انقاذه ولتجنيب البلاد والعباد أزمات
خانقة تدك بشدة قواعد الاستقرار في الدولة وبما يهدد بقاءها. ومع ذلك، فقد ضاعت
هذه الفرصة ولم يعد هناك ما يمكن انتظاره سوى اصلاحات راديكالية محفوفة
بالمخاطر تماماً كما حصل في الاتحاد السوفيتي حيث أدت "بيريسترويكا" ميخائيل
جورباتشوف الى تفكيك الاتحاد السوفيتي والاطاحة بثاني اكبر معسكر في العالم.
فالاصلاح المتأخر يحمل بداخله خطر الانهيار الكامل.
فهل الدولة لدينا قادرة على بدء عملية اصلاحية رغم ما تحمل من مخاطر التفكك؟
الجواب بلا ونعم. لا لأن أزمات الدولة لم تعد تحتمل حلولاً ترقيعية او جزئية،
فالأزمة الاقتصادية متمثلة في مديونية ثقيلة (620 مليار ريال في السعودية)،
ومعدلات بطالة مرتفعة (تصل الى 32 بالمئة في السعودية)، والازمة السياسية
متمثلة في غياب المشاركة السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني وحريات التعبير
بأنواعها، والازمة الثقافية بانحباس المجتمع داخل اطار ثقافي مغلق داخلياً
مقابل الانفتاح على كونية متنوعة الثقافات عبر وسائل الاتصال الفضائي
والانترنت، كل هذه الازمات تجعل من حلول السلطة المعتادة في شكلها البطيء
والترقيعي مجرد محاولات يائسة لعلاج جسد يرقد في غرفة الانعاش.
ونعم، اذا قدّمت الدولة برنامجاً اصلاحياً شاملاً ومتكاملاً وملموساً، تراعى
فيه حاجات ومطالب المواطن الحقيقية، يكون مقصده ـ أي مقصد هذا البرنامج عملية
انسحاب تدريجية للسلطة السياسية الى مجالها الخاص، المتمثل في ممارسة تنظيم
المصالح العمومية ودرء العدوان الخارجي فحسب، فيما يترك لمؤسسات المجتمع المدني
بكل تشكيلاته ادارة نفسه ذاتياً بعيداً عن سلطة الدولة متمثلاً في جهازها
الاداري. وقبل ذلك وبعده تجسيد مفهوم المواطنة بكل عناصرها المدنية والسياسية
والاجتماعية، أي بما تحقق مبدأ المساواة، وتكافؤ الفرص، والمشاركة السياسية،
والحريات الفردية.
ورغم ان حلاً كهذا بات في أذهان الكثير من المواطنين المحبطين من الدولة
وميراثها السياسي يمثل مجرد لعب في الوقت الضائع او حلماً غير قابل للتحقق، فإن
ذلك كله يعتمد على قدرة ولاة الامر على كيفية ادارة عملية التحول قبل ان يكون
الاصلاح فعلاً مجرد خيار اليائسين بعد انتهاء الوقتين الاصلي والاضافي للدولة
نفسها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - Samuel Huntington (1968) Political Order in Changing Societies,
Harvard, p.1
[2] - Quoted in J. M. Barbalet, Citizenship Class Inequality And Resentment,
in Bryan S. Turner (ed)Citizenship and Social Theory London 1993,p.37