gulfissueslogo
مفهوم التعددية في خطاب الجماعات الدينية في الخليج
د.فؤاد إبراهيم

 يحسن القول ابتدءً بأن أرقى انواع التعددية هي القائمة على أساس ديني، والعكس صحيح ايضاً فإن أسوأ انواع الواحدية هي القائمة على أساس ديني أيضاً. فالدين يمثل مخزوناً ثقافياً وايديولوجية مشرعنة لجماعات عديدة وفي نهاية المطاف فإن الدين هو قوة توحيدية وتقسيمية في آ ن معا بحسب طرق تعامل كل جماعة مع نصوصه وتعاليمه.
 
ومن جهة ثانية، فان التعددية الدينية والاقرار بها هي المدخل والمشرعة لأشكال التعددية الاخرى السياسية والاجتماعية والفكرية وان والواحدية الدينية هي المدخل لتثبيت اشكال الواحدية الاخرى السياسية والفكرية والاجتماعية. ولا شك أن نتائج الواحدية المدمرة لا تقف عند حدود الحاق الضرر بالجماعات الاخرى بل تمتد آثارها المدمرة الى الجماعة الواحدة التي ترى في نفسها الفرقة الناجية بحيث تنفر من أي فرص للتجديد والتطوير والنقد والتصحيح.
 
وتاريخ المذاهب الا سلامية يكشف ان كل المذاهب مرت بعمليات اصلاحية ومراجعة ونقد ذاتي وهذا ينعكس في تباين الاجتهادات وبعض الاحيان تفاوتها الشديد. فالاختلاف في تاريخ المسلمين بات هو القاعدة وقد احصى ابو الحسن الاشعري في كتابه (مقالات الاسلاميين) 300 مسألة اختلف فيها المسلمون. وما نشوء المذاهب المتعددة على قاعدة عقدية او كلامية أو على قاعدة فقهية الا تعبيراً عن تطور في آليات ومناهج تفسير النص الديني واشكال الفهم الناشئة عنها.
 
 وسنحاول هنا تسليط بعض الضوء على قضية باتت ملحة متمثلة في قراءة مستقبل العلاقة بين الجماعات الدينية في الخليج ونقصد بذلك تحديداً إثارة السؤال التالي: كيف ينظر كل من السنة بمدارسها المختلفة الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية والظاهرية والشيعة بمدارسها المختلفة الامامية الاثني عشرية والزيدية والاسماعيلية وأخيراً الاباضية باعتبارها جماعات دينية تعيش في منطقة واحدة وقد تعيش جميعها ـ كما في المملكة وعمان ـ في ظل دولة موحدة سياسياً؟
 
ولست بصدد التفتيش في أدبيات هذه الجماعات للتحقيق في نظرة كل جماعة وموقفها من مبدأ التعددية الدينية، وإن كانت المقالة هذه تستدعي مفردات الخطاب الديني لدى كل جماعة بغية رسم صورة تقريبية للقارىء الكريم.  سنحاول استعمال معايير محددة كفيلة بتشخيص الواقع بما يؤمّن للقارىء الكريم آلية محددة يستطيع من خلالها فهم أبعاد المشكلة وانطباقها على واقع كل جماعة وما اذا كانت هناك آفاق لنوع من "التوحد في ظل التعددية" او أن هذه التعددية تمثل واقعاً مريضاً يراد محوه بقوة توحيدية قاهرة من قبل جماعة ما، وكيف يمكن للتعددية ان تكون مباحة لا في الواقع فحسب بل في تفكير هذه الجماعات وخطابها الديني.
 
****
 
 والقبول بمبدأ التعددية يتحدد من خلال نظرة كل جماعة الى الجماعات الاخرى، ويمكن حصر هذه النظرة في أربع مستويات:
 
 ـ المستوى الاول اعتقاد جماعة ما بأنها على حق وان الجماعات الاخرى على باطل وهذا يترتب عليه سلوك وموقف معين من المنابذة والكراهية وحينئذ تكون الجماعات الاخرى امام خيارين: اما التخلي عن معتقدها او ان تكون عرضة للقتل. وتتمظهر هذه النظرة في اشكال تعبيرية صارمة من قبيل "لا تقارب بين الاسلام والكفر"، بما يشي برفض التعددية الدينية كمفهوم وكواقع، وهذه النظرة هي المسئوولة المباشرة عن تقطيع الوشائج وانحباس الجماعات داخل قلاع مغلقة باحكام لا ترى فيها سوى ما ينتجه رموزها، ولا تقرأ الا ما يكتبه أهل دعوتها، ولا تتحدث الا بلغة قادتها، وتستهجن كل ما ينمى الى اسماعها، او ترمقه عيونها من آراء وان احتمل الصواب.
 
بل قد يحتسب اتباع هذه الجماعة ومن اجل تشديد القبضة على وحدة الجماعة أن أي تسريب الى داخلها يعتبر من باب الفتن فيلجأ رموز هذه الجماعة الى شن حملة كراهية ضد الجماعات الاخرى لضمان حفظ وحدة الجماعة. ومما يؤسف له ان علماء ومشايخ اصحاب هذه النظرة وهم يوجهون اتباعهم للابتعاد عن مواطن الفتن انما يقصدون بذلك الفتن التي تنشب داخل جماعتهم اما الفتن التي يشعلها اتباعهم ضد الجماعات الاخرى فتضفى عليها عناوين اخرى مثل محاربة اهل البدع واهل الضلال ونشر الدعوة وما شابه.
 
  ـ المستوى الثاني اعتقاد جماعة ما بأنها على حق وتظن بأن طريقة الجماعات الاخرى على باطل. وهذه النظرة وان اشتركت مع المستوى الاول من حيث نظرة جماعة ما الى ذاتها بوصفها الفرقة الناجية الا انها تفتح نافذة على الواقع وتحتمل دخول جماعات اخرى في جبهتها فيما لو تبين لها خلاف ما تظن. وعلى اية حال فإن نظرة كهذه تتأثر، غالباً، بالظروف السياسية والمناخ الفكري السائد بعكس المستوى الاولى الذي يصر على موقفه رغم كل متغيرات التاريخ وتحولات الحاضر والمستقبل. فمتى ما تهيأت الظروف لأصحاب هذه النظرة (المستوى الثاني) كانت فرص التقارب والانفتاح والاعتراف أفضل.
 
ـ المستوى الثالث: اعتقاد جماعة ما بانها على حق وان غيرها على الحق ولكن طريقتها في الوصول الى الحق  أهدى سبيلاً من غيرها. وهذه النظرة تقر بالتعددية المشروطة وترى بأن كل الجماعات الدينية على الحق وإن جهلت السبيل الاهدى للوصول الى الحق، وترى بأن هذه الجماعات وان خلصت نواياها الا أن عليها واجب الاجتهاد والتمحيص لاكتشاف طريقة أمثل للوصول الى الحق كالتي هي عليها. وفي تقديري تمثل هذه النظرة تطوراً كبيراً في نظرة الجماعات الدينية لبعضها، ويجب الاعتراف بأن الجماعات الدينية في الخليج لم تصل بعد الى هذه المرحلة، مع التذكير بأن هذه النظرة تكاد تسود في مناطق اخرى من العالم الاسلامي.
 

ـ المستوى الرابع: اعتقاد جماعة ما بأن غيرها على الحق ولكنها ترجو أن تكون اقرب الى الحق من غيرها.


 
وهذه النظرة تمثل ذروة التسامح الديني وأرقى اشكال الاعتراف بالآخر، حيث ترى كل جماعة بأنها على الحق وان غيرها على الحق وإن كانت ترجو ان تحقق في ذاتها وسلوكها معنى الحق بامتثال تعاليم السماء وارشادات السنة. وهذا مصداق للآية القرآنية المباركة {قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} ـ الاسراء 84. فالحكمة الساطعة في هذه الاية ترشدنا الى ان القرآن الكريم استعمل كلمة "أهدى" من "أفعل" كتعبير عن درجة اعلى، بما يشير الى ان الجميع على هدى والله وحده العالم بمن هو أهدى طريقة، ولم يستعمل كلمة أضل سبيلاً لأنه سبحانه يعلم بأن من أراد عبادته والامتثال لأوامره لا يسلك سبيل الضلال وانما الاختلاف في الوسائل المبتغاة في الوصول اليه. ومؤسف القول بأن هذه النظرة تكاد تكون نادرة وسط المسلمين جميعاً.
 
 
 
خيارات الجماعات الدينية في دول الخليج
 1 ـ القطيعة المتبادلة وتسعير حملات الكراهية والمنابذة. تصبح كل جماعة فضاءً ثقافياً واجتماعياً ودينياً نهائياً ومغلقاً حين ترى أنها تجسد نموذج الامة الاسلامية، وقد تنزع كل جماعة الى اعادة ترميم المعاني المنهدمة للمفاهيم المنتجة منذ زمن التابعين، وهناك تتم عملية استدانة للمعاني من الرأسمال الديني والتاريخي بحيث تتعالى المزاعم بتجسيد كل جماعة للمعني الكامل للجماعة المؤمنة التي أراد الرسول (ص) تشكيلها لتحمل سنته، واستطراداً قد تزعم كل جماعة بأن علماءها هم علماء الامة، ومجهودها البشري في تفسير النص الديني يمثل حكماً سماوياً، وأن مدوناتها الفقهية هي السجل الكامل للشريعة. وفيما تكتظ الخطابات الدينية بقائمة مفتوحة من المزاعم تنتصب تبعاً لذلك  أسوار العزلة ومسوغات المنابذة والاقصاء المتبادل. والحاصل النهائي في خيار كهذا، تنشأ مناخات ملتهبة تسعّرها الاتهامات المتبادلة، والتشكيك، والتكفير المتبادل، وحملات الكراهية المشفوعة بلغة دينية صارمة، بما يجيز لكل جماعة استعمال أقصى الاحكام مثل التفكير والارتداد وأقسى الاسلحة مثل القتل واعلان الجهاد، فيما تفقد الدولة دورها كضابط للعلاقة بين الجماعات واطاراً تنصهر فيه الجماعات وتالياً خلق مجتمع منسجمHarmonious Society .
 
 في حقيقة الامر، أن توسل كل جماعة بزعم تجسيد المعنى الكامل لأمة المسلمين يستبطن الغاءً لدور الدولة وربما لمشروعيتها على أساس أن احياء الامة الاسلامية كعقيدة دينية وتجربة تاريخية زعماً تمثل محفزاً نشطاً يغذي وبصورة دائمة تطلعات كل جماعة، بما يفوق حدود الدولة ووظائفها بل ينظر للدولة غالباً باعتبارها وسيطاً او مرحلة انتقالية للعبور الى أفق أرحب تذاب فيه حدود الدول لتتوحد في نموذج الامة كما هو مدوّن في أدبيات كل جماعة دينية.
 
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما الذي يجعل جماعة دينية ما متشددة ومنغلقة على الجماعات الدينية الاخرى مما يخمد طاقة النقد والمراجعة داخل أتباعها؟
 
للاجابة على السؤال هناك معايير معينة تحكم علاقة أي جماعة بالجماعات الاخرى:
 
 1 ـ على الضد من المدارس العقلية، يكون الاصلاح والنقد والمراجعة في المدارس النقلية المعتصمة بحرفية النص الديني بالنص عصياً، فهذه المدارس تتحصن خلف المقدس ودعوى تمثيل النص السماوي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونحن هنا لا نتحدث عن النص القرآني وانما نتحدث عن النص المشتق من النص القرآني وهو تفسيرات هذه الجماعة أو النصوص المنسوبة الى السنة النبوية دون عناء التحقيق في صدقية صدورها عن الرسول (ص) وهكذا احتكار حق تفسير النصوص الصادرة عنه (ص).
 
2ـ العزلة الجغرافية، فاذا انحصرت مدرسة ما في منطقة نائية او منفصلة عن باقي المناطق النشطة اجتماعياً وثقافياً أو لم تلتق بتيارات فكرية اخرى او تتفاعل مع المناشط الثقافية في مراكز اخرى خارج أسوارها كانت مهيئة للانغلاق والتشدد.
 
3 ـ في حال لم تواجه جماعة دينية ما تحديات خارجية او داخلية تدفعها للمراجعة والنقد أو تشهد امتحاناً في متبنياتها الفكرية والعقدية او كانت مكفولة من القوة السياسية وكانت تتأثر بالوضع السياسي للدولة الحاضنة لها، بحيث تقوم الدولة ذاتها بتشجيع توجهات محددة في اوساطها لتغذية تشددها او اشعال نائرة الغلو بداخلها، استرسلت هذه الجماعة او المدرسة في تشددها وتصلبها.
 
وهذه المعايير لا تخص جماعة بعينها بل هي تنسحب على كل الجماعات التي ظلت مرهونة لواقع وبيئة محبوسة عن العالم الخارجي.
 
2 ـ التماهي والذوبان، بمعنى انصهار، قسري او اختياري لجماعات في جماعة واحدة: يمثل خيار كهذا مسعى نشطاً لدى جماعات دينية وسياسية عديدة برزت على طول التاريخ، وربما كان انفجار المد القومي وقيام الدولة القومية الكابح الرئيسي لوقف حملات الالحاق القسري والاستتباع القهري لجماعة أو لجماعات دينية صغيرة او ضعيفة من قبل جماعة دينية كبيرة او مسنودة من قبل أهل الحكم. ولعل كتب التاريخ والآثار تتحدث عن تحولات دينية دراماتيكية تبعاً لتحولات سياسية كما جرى في ايران والعراق وبلاد الشام وحتى الجزيرة العربية. بيد ان قيام الدولة بتأثيثاتها القومية خفّض الى حد كبير قدرة جماعة دينية معينة مهما بلغت من قوة على صهر باقي الجماعات لجهة تصنيع جماعة جديدة متوحدة عقدياً. في واقع الامر، وكما يذكر أوكونور منذ القرن الثامن عشر الميلادي أي مع بلوغ الانفجار القومي أوجه لم تسجل حالة دمج واحدة بين جماعتين. ورغم اصرار بعض الجماعات على التوسل بخيار الالحاق الاختياري او القسري بوصفه الوصفة السحرية لتشييد أركان الامة الاسلامية المنشودة، الا أن خياراً مثالياً وربما وهمياً كهذا بات يمثل مصدر تهديد للاستقرار الداخلي في الدول وتبدد فرص الحوار والانفتاح في المستقبل.
 
 3 ـ التعايش والاعتراف المتبادل: ويتحقق هذا الخيار أو البديل اما بتقرير سابق من جماعة ما بموجب إملاءات ثقافية وعقدية أي بامتثال هذه الجماعة لحزمة التعليمات الدينية التي نشأت عليها وأشاعتها وسط أفرادها بكونها جماعة دينية غير مغلقة ولا تملك حق احتكار تفسير النص الديني وبالتالي لا تحجب عن الجماعات الاخرى هذا الحق، أو يتحقق هذا الخيار بعد مرحلة انهاك طويلة تتوصل فيها جماعة او جماعات ما الى قناعة بأن لا مفر من قبول الآخر مما يضطرها الى اعادة تقييم جملة تفسيراتها للنص الديني التي ظلت تتحصن فيها في زمن القطيعة والمنابذة وتالياً  تصنيع تفسيرات جديدة أو ربما اعادة تنشيط لنصوص دينية ظلت خامدة في زمن الاحتراب بما يخدم مرحلة التعايش. وغالباً ما يسبق هذا الخيار مرحلة وقف اطلاق نار مشوبة بالحذر كون هذه الجماعات لم تتهيأ بعد نفسياً وفكرياً للقبول بالآخر والاعتراف به والانفتاح عليه، مما يجعل فرص استئناف الاشتباك قائمة ما لم تستحث الخطوات نحو الانفتاح. كما تتطلب هذه المرحلة بروز شخصيات بمواصفات مختلفة وبتأهيل علمي واخلاقي عالٍ يضطلعون بمهمة تخصيب المناخ الفكري واذابة الحدود المغلقة بما يسمح بمرور شحنات الاعتدال بين الجماعات استعداداً لتحقق فرص التقارب والتواصل.
 
أرجو ان تسهم هذه القراءة المكثفة لخطاب الجماعات الدينية في الخليج والمستويات التي تستقر فيها نظرات هذه الجماعات حيال بعضها في البدء بمرحلة فهم وتفاهم جديدة وصولاً الى مرحلة يكون التعايش والاعتراف المتبادل فيها ضابطاً وقيمة دينية واخلاقية لا تحتمل التفريط.
 
13 ابريل 2002
 

copy_r