gulfissueslogo
يرى في التغيير تقليصاً لسلطاته على الشارع
هل أصبح التيار السلفي عبئاً على الدولة؟
د.حمزة الحسن

 التيار السلفي لا ينظر الى نفسه على أنه يمثل مشكلة لأحد، لا للحكومة ولا لنفسه ولا للمملكة. ربما يرى نفسه مشكلة للتيار اللبرالي، والتيارات الفكرية الأخرى التي تختلف في توجهاتها. هذا التيار يرى نفسه أحد أدوات الحل للمشكلات وليس صانعاً لها بالضرورة. وفي الحقيقة فإنه يرى نفسه (الحل الوحيد) وليس فقط أداته الأساسية.
 
ولكن كيف يرى الآخرون هذا التيار؟
 
الى وقت قريب، كانت الحكومة ترى في هذا التيار نعمة لها من زوايا عديدة. أولها أنه يوفر الشرعية الدينية المطلوبة لنظام الحكم على الأقل في محيطه الإجتماعي، ونقصد به المحيط الذي ظهرت فيه الدعوة السلفية، وبالتحديد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فالتيار السلفي قادر من وجهة نظر الحكومة على فرض الطاعة لنظام الحكم من زاوية دينية وتبرير شرعي، وهي شرعية يفتقدها في مناطق المملكة الأخرى إذا جرى تحكيم الأسس الدينية. وثانياً ـ فإن ما ينتج عن الشرعية هو تهدئة للوضع السياسي، والحيلولة دون الدخول به في متاهات التغيير، أو هكذا ينظر اليه على الأقل بين الأطراف السلفية، فالتغيير الذي يتردد النظام السياسي في الإقدام عليه لأسباب لا تخفى، يجد لها نصيراً في التيار السلفي الذي يرى في التغيير إقحاماً لفئات اجتماعية وفكرية تخالفه في إدارة الدولة وبالتالي تقليص هامش سلطته على الشارع.
 
وثالثاً ـ فإن التيار السلفي كان نعمة للنظام السياسي، على الأقل الى وقت قريب، كأداة من أدوات السياسة الخارجية الفعالة. فقد استخدم لمكافحة الشيوعية عبر التمدد الى بلدان عديدة ليس آخرها إلا أفغانستان، وذلك للدعوة الى الإسلام التي تمثل النقيض للفكر الشيوعي. كما استخدم التيار السلفي بفعالية في إظهار الوجه الإسلامي لنظام الحكم خارج محيطه الجغرافي، وفوق هذا فقد استخدم التيار أيضاً في مكافحة التيارات التغييرية الثورية في العالمين العربي والإسلامي وفي داخل المملكة نفسها، إما بحجة الشيوعية، أو بحجة القومية أو بحجج أخرى عديدة. يضاف الى ذلك تمّ استخدام التيار السلفي في مكافحة ما اعتبر إسلاماً جهادياً أو ثورياً معادياً للولايات المتحدة الأميركية، سواء انطلق من إيران أو من أفغانستان أو من السودان.
 
هذه الرؤية بدأت تتغير بالنسبة للنظام السياسي اليوم، فهناك ما يشبه إعادة نظر لوضعه، وقد أصبح ينظر اليه كعبء على كاهل النظام السياسي أكثر من كونه صاحب فائدة لا تُنكر. العبء يتلخص في أن التيار السلفي صار أداة إقلاق للوضع الإجتماعي في المملكة، بمعنى أنه لا يستطيع أن يعيش بدون معارك داخلية مع من يسميهم بالعلمانيين والروافض وغيرهم، تلك المعارك جعلت أفراده في حالة توتر دائم، وجعلت المملكة وشعبها في حالة من عدم الإسترخاء فالأعصاب مشدودة على الدوام. ومثل هذا قد لا يكون ضاراً بالنسبة للنظام السياسي، ولكن يبدو أن رأيا جديداً بدأ بالتبلور ويقول بأن انعكاسات عدم الإسترخاء هذا لا تشغل التيارات الأخرى الداخلية بمعارك هامشية أو تجعلها تستكين بل قد تحفّزها وتجعلها تنظر الى النظام السياسي القائم وكأنه يحابي التيار السلفي لضرب خصومه السياسيين.
 
ثم إن معارك التيار السلفي لا بدّ وأن تقحم فيها أجهزة الدولة، وهي في كثير منها تتبع التيار السلفي نفسه، بل ويقحم فيها رجال الدولة أو من لهم وظائف فيها، كقضاة أو وزراء أو علماء أو خطباء أو مدرسين، ومثل هذا يجعل من الإختلافات أشبه ما تكون بمعارك سياسية داخلية.
 
يضاف الى هذا، فإن معارك التيار السلفي مع خصومه المذهبيين في الحجاز كمتصوفة، وفي المنطقة الشرقية كشيعة (روافض)، يقحم الجمهور حتى غير المسيّس في المعارك الطائفية ذات الوجه السياسي ويجعل النظام السياسي يعاني من مشكلة التصنيف على هذا الطرف أو ذاك. فالتيار السلفي يرى أن الحكومة لم تتخذ الإجراءات الكفيلة وبما فيه الكفاية لقمع (الضالين) وهي مسؤولية دينية لا يجب من وجهة نظرهم أن تتنصّل منها، وعلى جهاز الدولة بمختلف أصنافه أن يدخل المعركة الى جانب التيار السلفي، وليس من الصحيح وفق هذه الرؤية أن يكون محايداً فيها.
 
في حين يرى المختلفون مع التيار السلفي، أن الحكومة تتحمّل مسؤولية ما يقوم به التيار السلفي من تشنيع وضرب لخصومه مستخدماً جهاز الدولة وبمباركتها وصمتها أحياناً، ويرى هؤلاء أيضاً وجوب تدخّل الحكومة في المعركة الى جانبهم من زاوية تبريرية مختلفة، وهي أن جهاز الدولة يفترض فيه أن يكون محايداً، وأن الدولة في مجملها يجب أن تنظر الى المواطنين بشكل متساوٍ بعيداً عن خلفياتهم الفكرية والمذهبية والسياسية، بل وبعيداً عن مصالح (الحكومة) السياسية الآنيّة، لكي تكون أباً للجميع.
 
ويضيف هؤلاء بأن إقحام جهاز الدولة في الإختلافات، ولضرب الخصوم، يجعل من طائفية الحكومة أمراً واقعاً، تتحول معها الدولة الى بضاعة خاصة ومتاعاً خاصاً بطرف من الأطراف لا ينتفع به الجميع بالضرورة، وهذا يؤدي في النهاية الى ارتداد عن الدولة برمتها.
 
مثل هذه الآراء بدأ النظام السياسي في المملكة يأخذها بعين الإعتبار، حتى وإن لم يقدم على مواقف تفيد بذلك.
 
وإضافة الى العبء الداخلي، هناك العبء الخارجي. فالتيار السلفي الذي صنع وجهاً دينياً معتدلاً للدولة في الخارج في فترة السبعينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، بدأ يرتدّ عكسياً عليها في الآونة الأخيرة بعد أن انخرط سعوديون من أتباع ذلك التيار في المعارك الجهادية في عدد من الدول، وقد سبّب أزمة علاقات مع عدد من الدول الإسلامية المستقلة حديثاً عن الإتحاد السوفياتي، وأصبحت أكثر الدول تنظر الى أعمال المملكة الخيرية في الخارج بعين الإتهام والريبة.
 
وزيادة على هذا، فإن التيار السلفي بدأ يتحول من وجهة نظر النظام السياسي من (مانح جزئي للشرعية) الى (هادم لها) وذلك من زوايا عديدة. أحدها أن هذا التيار بدأ يميل الى معارضة نظام الحكم، وهو وإن رأى عدم شرعيته وفق الأصول والضوابط الدينية ـ على الأقل عند بعض عناصر ذلك التيار ـ فإنه يتوقف عند موضوع محاربته أو حمل السلاح بوجهه بغية تغييره. وهذا التوقّف قد ينظر اليه على أنه أمرٌ مؤقت، ولكنه في نفس الوقت يفيد بأمرٍ هام، وهو أن النظام السياسي القائم غير شرعي، إما لطريقة إدارته للبلاد بمعنى محاكمة سياساته اليومية محلياً وخارجياً، وإمّا على أسس محاكمة عناصره ومدى التزامهم بالمنهج الديني الذي يدعو له التيار السلفي، وإمّا لأن طريقة وصول هذا النظام لم تأتِ وفق المواصفات الشرعية.
 
وهذا يعني باختصار: سحب بساط الشرعية من نظام الحكم، وإشاعة عدم شرعيته بين جمهوره، وإثارة الشارع ضد أخطائه وليس مجرد عدم تبريرها، وهو موضوع (تبرير أفعال الحكومة) أخذ ينأى عنه حتى أولئك الذين يعدّون من (علماء البلاط، أو علماء السلاطين).
 
هنا تأتي مسألة المراجعة للعلاقة بين الدولة والتيار السلفي، وليس بين الدولة والدين، فهذا أمرٌ شبه محسوم على الأقل عند الأغلبية من شعب المملكة. هذه المراجعة عادة ما تطرح أثناء الأزمات التي يخلقها هذا التيار بين فترة وأخرى: من أزمة الإخوان في أواخر العشرينيات الى تفجيرات نيويورك، مروراً بما فعله جهيمان واشتغال الأزمة التي أعقبت تحرير الكويت وظهور مذكرة النصيحة السلفية. في كل الأوضاع، كان النظام السياسي ينظر الى التيار السلفي متقلقلاً بين اعتباره حليفاً لصيقاً قابلاً للتطويع والإستخدام داخلياً وخارجياً، وبين اعتباره عدواً محتملاً قادراً على زعزعة الوضع السياسي الداخلي. فكيف يتم التعاطي معه؟.
 
الفلسفة التي اعتمدت طيلة هذه العقود تقوم على أمرين أساسيين: الأول: ضرب الجناح الراديكالي في التيار السلفي بعنف وقسوة قتلاً وسجناً. والثاني: تقوية التيار المعتدل الذي يمثّله دائماً أعمدة التيار من علماء كبار، فهؤلاء كانوا دوماً مع المحافظة والهدوء وكانوا دائماً الى جانب النظام السياسي ضد معارضيه من التيار الذي يمثلونه. والنظام السياسي اعتاد أن لا يضرب التيار الراديكالي قبل التأكد من ضمان ولاء العلماء الكبار وتقديم بعض التنازلات لهم أحياناً في مجال الدعوة والإمكانات. حدث هذا مع الإخوان، ومع جهيمان، ومع التيار السلفي الجديد الذي ظهر بعيد أزمة غزو الكويت.
 
الفكرة وراء هذا تقول بضرورة العلاج الموضعي، فإذا ما طالت أظفار التيار راديكالياً يتمّ تقليمها بين الحين والآخر، أما أصل العلاقة مع التيار ـ من وجهة نظر النظام السياسي ـ فهي أكثر من ضرورية لتحقيق أهدافه السياسية الداخلية والخارجية. وهذه الرؤية مؤسسة على حقيقة أن النظام السياسي لا يريد بدائل لشرعيته نظراً لتكلفتها العالية، وهي تقديم بعض التنازلات في المجال السياسي والقيام بإصلاحات شتّى في جهاز الدولة وتقليص صلاحيات العائلة المالكة. وهناك سبب آخر لعدم رغبته في البدائل السياسية المانحة للشرعية أنه يرى في إضعاف التيار السلفي الذي يحسب عليه ثقافة ومجتمعاً إضعاف للذات أمام (الآخر) الخارجي. وهنا تكمن المشكلة في أن النظام السياسي لايزال يرى نفسه ممثلاً لمذهب ومنطقة أكثر من كونه ممثلاً لدولة تتعدد فيها الثقافات والمناطق والأفكار.
 
إذن ما لذي يجعل النظام السياسي في المملكة اليوم يغيّر من استراتيجيته فيقدم على حلول غير آنيّة لا تعتمد (القمع الموضعي) بل التغيير الشامل في البنى والأفكار والذي لا يستدعي بالضرورة صداماً مع التيار السلفي بقدر ما هو ترشيد له؟
 
هناك من يرى أن لا إصلاح للنظام السياسي ولا للتيار السلفي مادام الإثنان متحالفين، حيث يتواطأ الإستبداد الديني والإستبداد السياسي ويتداخلان لنكبة المواطن.
 
وهناك من يحرّض ضد التيار السلفي ويطالب بقمعه وإخراجه من الحياة الإجتماعية والسياسية. وهذا الطرح الحاد، وبغض النظر عن المبررات، لا يفيد في استقرار المملكة ولا يخدم مجتمعها.
 
في حين أن التيار السلفي نفسه، باعتباره يرى الحل في ذاته، يعتقد بأن زيادة صلاحياته وتدخلاته في الشأن العام، يقوّي النظام السياسي ويحصّن المملكة، ويقضي على أعدائه أعداء الدين!
 
والحل من وجهة نظري، ان التيار السلفي أصبح مشكلة لنفسه، فقد أدّى جموده وحدّيته الى انشقاقات خطيرة في داخله، وهو اليوم قلّما يسمع ويقبل لغة اعتدال من داخله فضلاً عن ان تأتي من خارجه. كما أنه يستخدم نفس المفردات ضد المصنفين ضمن أتباعه الدينيين وحلفائه السياسيين كما ضدّ خصومه الفكريين والمذهبيين.
 
ولهذا كلّه فهو بحاجة الى ترشيد، والترشيد لا يتمّ إلا عبر الإنفتاح الفكري، وقطع احتكار التيار السلفي للمؤسسة الدينية وتطعيمها بالطاقات والرؤى مختلفة المشارب. وهذا بدوره يتطلب انفتاحاً إعلامياً وسياسياً داخلياً، فبدون ذلك لا تنمو الأزهار أو تتفتح، فالمناخ السياسي والفكري والإعلامي اليوم لا يساعد على ترشيد أحد، وليس التيار السلفي فحسب، ومن هنا ينبغي خلق فضاء جديد، بدونه سيبقى التطرّف مستوطناً في المملكة كما هو الحال منذ عقود.
 
ومشكلة النظام السياسي في المملكة أنه اليوم يتعرّض لضغوط خارجية لفكّ ارتباطه بالسلفية وتيارها. الولايات المتحدة تريد ضرب هذا التيار الذي هو من وجهة نظرها أداة تفريخ العنف وأفكار التطرّف، في حين أن العائلة المالكة تميل الى تهميش التيار السلفي بهدوء وعلى مدار سنوات طويلة ليست الولايات المتحدة على استعداد لانتظارها.
 
التيار السلفي بقدر ما هو عبء على كاهل الدولة والمجتمع، هو تعبير عن وضع سياسي واجتماعي، وهو قوّة حقيقية في الساحة لا يمكن معالجتها بالأساليب الأمنية والضرب بيد من حديد. وهذا التيار من ناحية أخرى ليس وحده مسؤولاً عن التطرّف والعنف، بل أن النظام السياسي نفسه يتحمل القسط الأوفر من ذلك، فهو من دعم نهج التطرف والإقصاء، وهو من موّل هذا التطرّف وهو من سيدفع ثمنه عاجلاً أم آجلاً إن لم تتداركه الحكمة والبصيرة.
 
 
 
 
 

copy_r