اللقاء التاريخي المقدس بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والامام محمد بن
سعود عام 1744 وصف بأنه تدشين لتحالف فريد بين الدين والدولة في التاريخ
الحديث.. تحالف تأسس على قاعدة تقاسم شؤون الدين والدنيا، وكان نصيب آل الشيخ
والمتناسلين نسباً وسبباً منه احتكار المجال الديني بوصفه منطقة امتياز لأهل
العلم الشرعي ممثلاً في عائلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب واستطراداً في علماء
الدين في نجد حصراً، فيما تكون السلطة الزمنية حقاً تاريخياً ينحبس داخل الخط
السلالي لآل سعود.
ترصين المضامين الدينية والسياسية للتحالف زخمه التطلع المفتوح نحو آفاق واسعة
جغرافية وبشرية، فهناك النزوع المبالغ نحو حركة دعوية واسعة النطاق تستوحي
تجربة الرسالة الاولى، كما حملها وحلم بها مؤسس الحركة الشيخ محمد بن عبد
الوهاب، حيث التماثل المكرور في الادبيات الدينية الوهابية بين دعوة الرسول (ص)
وبين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والرغبة الجامحة لدى القيادة السياسية
السعودية نحو بناء امبراطورية تتغذى على ذات المزاعم الدينية المشرعنة لحركة
توسعية لا مقطوعة الحدود.
وبلا شك ان الدولتين السعوديتين الاولى والثانية خاضتا امتحان صناعة الحلم عبر
تجريد الحملات العسكرية التي طالت بلاد الرافدين والشام اضافة الى دول الخليج،
ولربما ساقها ورم التطلع للمجازفة باختراقات حدودية والاصطدام بقوى كبرى في
المنطقة مثل الاتراك العثمانيين ومصر محمد علي باشا.
وبرغم فشل التجربتين الاولى والثانية في بناء امبراطورية دينية متوزعة بين خطي
آل الشيخ وآل سعود وكان العامل الخارجي فاعلاً رئيسياً في انهائهما، الا أن
المشروع الديني/السياسي السعودي حافظ على مبرره وكان الاحفاد قد تكفلوا عبء
استئناف العمل به مرة اخرى.
فهذا المشروع وُجد كي يحقق وجوده من خلال ايديولوجية دينية تقويضية تزرع في
أتباعها فكرة تخليص العالم من الانحراف العقدي، وتتكفل مهمة انقاذ البشر من
الضلال باعتبارها مصدر الفهم الصحيح للوحي وتالياً فرجال الدعوة حكاماً وعلماء
هم وحدهم الحائزون وبكفاءة فريدة على حق ولاية الامر على المسلمين أولاً وتطهير
العالم من الفساد ثانياً كما فعل الاتباع.
فالرؤية الكونية لأتباع المذهب الوهابي كما تشرحها الادبيات القديمة والحديثة
تنطلق من كون العالم مغموراً بالفساد والشرك بما يفرض وفق الاملاءات الدينية
واجب اصلاحه. فقد جاء في كتاب (التوحيد) للشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
والذي اقتبسه كما يذكر ذلك في المقدمة "من مصادر كثيرة من كتب أئمتنا الاعلام
لا سيما كتب شيخ الاسلام ابن تيمية وكتب العلامة ابن القيم وكتب شيخ الاسلام
محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه من أئمة الدعوة المباركة" جاء "فعاد الشرك الى
كثير من هذه الامة[1].
وفي رده الضمني على مقولة جاهلية القرن العشرين للسيد قطب يرفض الدكتور الفوزان
تعميم حكم الجاهلية وقال "والصواب أن يقال جاهلية بعض أهل هذا القرن أو غالب
أهل هذا القرن. وأما التعميم فلا يصح ولا يجوز لأنه ببعثة النبي صلى الله عليه
وسلم زالت الجاهلية العامة" [2] . وهو بهذا يخرج أتباع المذهب الوهابي من دائرة
الجاهلية ليقبع فيه من سواهم، بما يشمل المسلمين.
وهذه الرؤية الدينية الصارمة تمثل حافزاً جباّراً لدى أتباع هذه الرؤية نحو شن
الغارات على ديار الشرك، تلك الديار التي لم يصلها نداء التوحيد بالمعنى
الوهابي، كما تعكس الى حد كبير الدور الذي يمكن للدين في التصوير الوهابي ان
يلعبه في الميدان السياسي، وفي نفس الوقت كيف أمكن لرؤية كهذه ان تخدم السياسي
في تحقيق اغراضه النهائية. والسؤال الملح دائماً ماذا لو اجتمعت الرؤية الدينية
بالغرض السياسي، وما هي تحديداً مستخلصات العلاقة المعقدة بين الدين والدولة؟
تمثل تجربة الدولة السعودية الثالثة (الحالية) انموذجاً غنياً لدراسة علاقة
الدين بالدولة وكيف لهذه العلاقة ان تندك في بناء نظام مصالح مشترك يفضي في
أحيان عديدة الى النزوع الاستغلالي لدى كل منهما وخصوصاً حال اختلال ميزان
القوى لصالح أي من الطرفين.
إن تجربة اعادة بناء التحالف الديني السياسي بين آل سعود وآل الشيخ في الدولة
السعودية الثالثة ولا سيما في مرحلة بناء الدولة تلخص الطبيعة الانتهازية التي
يمكن لمهارة السياسي ان تحيل من القوة الدينية الى مجرد سلاح في معركة البناء
وفي القضاء على الخصوم من خلال شحن محركات التطرف الديني.
وسنحاول في السطور التالية تسليط الضوء على تجربة الاخوان بما تمثل قوة دينية
وعسكرية جرى استعمالها بإفراط من قبل المك عبد العزيز في مشروع سياسي توسعي،
يتوكأ على ذرائع دينية ومزاعم تاريخية ويهدف الى بناء امبراطورية مترامية
الاطراف.
الاخوان وايديولوجية الفتح
نشأت حركة الاخوان في عام 1912م بعد تأسيس أولى المستوطنات في شهر ديسمبر (
كانون الاول ) من نفس العام في الارطاوية التابعة لقبيلة مطير. وقد بدأت هذه
الحركة تستلهم تعاليم الشيخ عبدالكريم المغربي الذي يقول عنه ديكسون "كان
المعلم الأكبر للمرحوم فالح باشا السعدون شيخ المنتفك ..وأصبح بعد ذلك معلماً
لمزعل باشا السعدون والد ابراهيم بيك السعدون ، وعندما ترك عبدالكريم خدمة مزعل
باشا غادر العراق الى نجد حيث أظهر نفسه كمعلم ومصلح ديني في مدينة الأرطاوية
التي كانت وكراً صغيراً للوهابية.."[3].
ونشطت حركة الاخوان في الارطاوية لتتحول لاحقاً الى قوة عسكرية ضاربة تحت قيادة
المغربي أولاً ثم تسلمها فيصل الدويش زعيم قبيلة مطر. وقد شنت الحركة غارات
متلاحقة على المناطق المجاورة وكانت ترفض الخضوع لأية سلطة مركزية .
وكان ابن سعود يخشى بروز الاخوان كقوة سياسية مزاحمة، وتأكدت هذه الخشية بعد
استيلائه على الاحساء عام 1913 وما لحظه من قوة الاخوان العسكرية والتفاني
المفرط في المعارك، ففكر ملياً في منهج للتعامل مع الاخوان ، وكان أمام
خياريين: اما القضاء عليها رغم المجازفة غير المضمونة والتكاليف الباهضة التي
سيتكبدها حال الفشل في تحقيق هدفه، واما احتوائها واستيعابها واستخدامها
كقوة عسكرية الى جانبه.
الميل الحاذق لعبد العزيز بتبني الخيار الثاني تطلب رفع الشعار الديني والتظاهر
بالالتزام بتعاليم الوهابية والدفاع عنها، ولذلك قرر ارتداء لباس الامامة وخلع
لباس السلطنة، كمتطلب رئيسي لتحقيق اغراضه السياسية. وقد وجه ابن سعود
نداءً في عام 1916م الى قبائل نجد للانخراط في صفوف الحركة الجديدة وان يدفعوا
له الزكاة بصفته امامهم الشرعي[4]، كما قام باطلاع قادة الاخوان على خططه
السياسية التي أَسبغ عليها طابعاً دينياً كيما تحظى بتأييد الاخوان وتثير فيهم
روح الاستبسال في الدفاع عنها، وتعزيزاً لذلك عرض عليهم فكرة الاشراف على هجر
قبائل نجد التي ينوي عبدالهزيز إقامتها، ورغم اعلان الاخوان الرفض المتكرر
لعروض ابن سعود غير انه أفلح بدهائه في إقناعهم كما انتزع منهم اعترافـاً
بامامته عليهم .
من جهة ثانية عمد ابن سعود الى تذويب كيان الاخوان وتفتيته بالنداء الذي اطلقه
للقبائل للانضمام الى الاخوان حينما بدأ في خطة اقامة الهجر على غرار هجرة
الارطاوية سعياً وراء اضعاف الروابط القبلية حيث بلغ عدد الهجر نحو 220 توزعت
على مناطق نجد والحجاز وشملت الحدود السعودية والاردنية.
وكانت قبيلة العجمان من العقبات التي واجهت ابن سعود لذلك "كان ابن سعود ينوي
نقل قبيلة العجمان من منطقة الاحساء الساحلية ــ موطنها الأصلي ــ الى نجد حيث
يقسمها الى اقسامها العشرين التي تتألف منها ويضع كل قسم في حاضرة من حواضر
الاخوان وذلك لكي يشتت شملها "[5]، وبالفعل نجح ابن سعود في اخضاع العجمان عام
1919م وتوزيعهم على الحواضر واعترفوا به اماماً عليهم وعادوا الى مقاطعات نجد
وهناك تلاشت قوتهم وذابوا في كيان الاخوان .
وقد اختلف أغلب الباحثين في التاريخ السعودي على تحديد غرض ابن سعود من الهجر
حيث يعتقد جلال كشك أن الهجر كانت تعني "الهجرة من دار الشرك، من التعلق
بالمجتمع المشرك من كل ارتباط وكل القيود التي تربط المهاجر بالمجتمع المرفوض،
فيحمل ايمانه وينطلق خفيفاً فرحاً مؤمناً متحرراً الى الله ورسوله ..الى "يثرب"
الجديدة الى ارض الايمان ..الى دار الهجرة ..الى الارض المحررة الى
الجهاد..الى"الهجر"..ومنها ينطلق الى تحرير العالم ونشره بقوة للمجتمع المثالي
الذي يحقق خيرالدنيا والآخرة "[6]، اما العطار فيعتقد ان الهجرة هنا "ارض
يخططها الحاكم للبدو، ويقطعهم اياها للسكنى والعمارة، حتى تكون كالقرى والمدن
الثانية. ومعنى الهجرة الانتقال من ارض الى ارض اما في الاسلام فالانتقال من
بلد الشرك الى بلد الاسلام ويجوز هنا حمل المعنى على الاصطلاح اللغوي فقد نقل
هؤلاء البدو الى أرض يستوطنونها، بأسرهم تكون لهم بمثابة المدن للمتحضرين"[7].
اما محمد المانع (المترجم بديوان ابن سعود) فيقول" في سنة 1912م ــ 1330هـ
وكجزء من محاولة حل مشاكله قام ابن سعود باحياء مبادئ التطهير التي في الحركة
الدينية التي بدأها عبدالوهاب في القرن الثامن عشر. وهدف الحركة هو توحيد
القبائل في خدمة الله وكانت فكرة الامير العظيمة هي تشجيعهم على انشاء مستوطنات
دائمة ومن هذا الاحياء لتعاليم الوهابية، وانبثقت الحركة الدينية المعروفة
بالاخوان.."[8].
غير أن الباحثين يؤكدون أن ابن سعود لم يرفع الشعار الديني الاّ في عام 1915م
وبعد ظهور الاخوان كقوة عسكرية في معركة جراب سنة، 1914م وهي المعركة التي
أبرزت حركة الاخوان وراعت انتباه ابن سعود، وان نداءه للقبائل عام 1916م هو في
سبيل احتواء هذه الحركة واخضاعها لمطامحه السياسية بعد زجها في الهجر وان طلب
عبدالعزيز من القبائل الأنتقال من منطقة الى اخرى والاشتغال الزراعة والفلاحة
بهدف تفتيت القبائل وابعادها عن بعضها وخلطها في حواضر قبائل اخرى لتذوب ويتشتت
شملها ومن هنا جاءت فكرة الهجر ويقول عسال" اقام عبدالعزيز في حياته ما ينوف
عنه مائة واثنتين وعشرين " هجرة " وكانت كل هجرة منها لفخذ من قبيلة وكان سكان
هذه " الهجر" يدعون الاخوان ويميزون انفسهم بعصابة يلفونها على رؤوسهم بدل
العقال التقليدي "[9] .
وبلاشك فإن فكرة إنشاء "الهجر" حملت دلالات متعددة، ولا تخلو الشروحات الآنفة
من قوة، فعبد العزيز قد أضفى دون أدنى ريب معنى دينياً مفتوحاً ل على فكرة
الهجرة، والتي بلا شك قد ألهمت بعض الباحثين بما في ذلك سيد قطب في "معالم في
الطريق" لتكون أساساً لفكرة المجتمع المضاد الذي أراد ابن سعود تشكيله ليكون
مكوناً من مكونات دولته المنشودة، فالهجرة تمثل أحد المصاهر الرئيسية لبناء
وحدات اجتماعية متجانسة يراد لها أن تقضي على بذور الانشقاق الكامنة وصناعة
مجتمع مؤهل للخضوع لسلطة ابن سعود.
ينضاف الى ماسبق، أن الاخوان بالتحامهم الشديد بالتعاليم الوهابية مثّلوا
الدافع الرئيسي وراء تظاهر ابن اسعود بالالتزام الديني، وهذا لا يتعارض بحال مع
الدور الذي لعبه هو في اعطاء حركة الاخوان مضامين دينية تتناغم واغراضه
السياسية.
ولكن هل ثمة ما يستحق التأمل في السلوك الديني لرجال الاخوان؟
لقد أثار بالتأكيد سلوك الاخوان فضول عدد من الباحثين والمراقبين، فقد وصف أمين
الريحاني غلو الاخوان بما نصه: "وهم في غلوهم يعتقدون ان من كان خارجاً عن
مذهبهم ليس بمسلم فيشيرون الى ذلك في سلامهم بعضهم على البعض..السلام عليكم
يالاخوان حيا الله المسلمين .واذا سلم عليهم سني او شيعي فلا يردون السلام
"[10] وعن غلوهم في ابن عبدالوهاب فيقول محمد أسد "فان الاخوان كثيراً ما كان
يستحوذ عليهم شعور مغالى فيه..ان كثيراً من مفاهيمهم كانت بدائية وأن حماستهم
الدينية كثيراً ما قاربت الغلو"[11]، وكانوا على درجة كبيرة من التعصب المذهبي
والالتزام غير الواعي بالتعاليم الدينية ومن قصصهم " ان في كل مسجد
بالرياض..جريدة بأسماء الذين يصلّون فيه يقرأها الشيخ كل يوم صباح مساء، فاذا
كان احد غائباً يزوره وفد من الاخوان في بيته ..اما اذا تغيب عن الصلاة ثانية
بلاسبب فيعظونه ويوبخونه واذا كرر فعلته فيبسطونه لا محالة ويعملون في ظهره
النخل او الخيزران "[12].
ولعل في هذا الغلو ما حرك شيئاً في الشاعر العربي بولس سلامة، كما في وصفه
(الاخوان ) في ابيات من الشعر:
حسبوا لحقد والتعصب ديناً أي
دين يبقى مع البغضاء
يا غلاة الاخوان ضيقتم الدين وزغتم عن
منهج الحنفاء
ما رأيتم منه سوى الكبت
والحقد وابداء نقمة وازدراء
وانتقاصاً من الشوارب
والثوب وميلاً لغزوة وعداء
قد عرفناكم جنود مليك
فمتى صرتم جنود السماء
شهداء للجهل كم من غبي
مات من أجل فكرة جوفاء
عبثاً تطلب الشراب طهوراً
أن يك الخبث من كيان الإناء
وثمة ما يدفع القادة السياسين السعوديين لنفي ضلوعهم في تغذية التطرف لدى
الاخوان، ولكن ثمة عدد كبير من الباحثين يربطون تزمت الاخوان وغلوهم بإنشاء ابن
سعود للمدارس الدينية التي كانت تستهدف استيعاب الاخوان ضمن تربية عقائدية
صارمة وتفويض آل الشيخ محمد بن عبدالوهاب بادارتها وتغذية الاخوان بالتعاليم
الوهابية بما يتلائم وطموحات عبدالعزيز السياسية يقول وهبة " لقد تشرب هؤلاء
كثيراً من المبادئ والتعاليم واعتقدوا انها هي الدين وما سواها ضلالة كما
اساءوا الظن بغيرهم من حضر نجد..وكان كثير منهم يعتقد ان لا اسلام لمن لم يسكن
الهجر مهما كانوا عليه من الاسلام. وترك شرور البادية وعوائدها . فلا يبدأن
غيرهم من هؤلاء بسلام ولا يردون عليهم السلام ولا يأكلون ذبائحهم.وذنب هؤلاء
عدم الهجرة " ويزيد على ذلك "وكانوا يعتقدون ان الحضر ضالون وان غزو المجاورين
واجب وانه القى عليهم هذا الواجب من قبل الله فلا يسمعون كلام احد في منع الغزو
"[13]، وقد خدمت عقيدة الاخوان هذه اغراض ابن سعود فقد اصبحو تواقين الى شن
الحروب على الكفار ولأن الكافر في عيونهم كان تقريباً كل من ليس من الاخوان فان
حركتهم اصبحت سلاحاً في يد ابن سعود يستطيع ان يشهره في وجوه اعدائه[14]، وتمكن
ابن سعود من صياغة ايديولوجية الفتح التي ملئت ذهنية الاخوان بطريقة جعلت منهم
اداة فعالة في تنفيذ مآربه فقد تحولوا الى شوكة أبن سعود أيام
الحروب[15]، وقد ساهمت التعبئة المذهبية في اوساط الاخوان بشكل كبير في جرهم
لخوض حروب شرسة وارتكاب مجازر دموية في سبيل تحقيق مقاصد ابن سعود وفي توسيع
رقعة سيطرته وقد كانت الوقعات تزداد والقتلى يزدادون عدداً كلما توسعت سيادة
ابن سعود[16]، فقد كان اشباع شهوة الغزو والقتل مشتعلاً بالهوس الديني الظاهر
في شعاراتهم مثل " أنا خيال التوحيد اخو من طاع الله .."و " هبت هبوب الجنة وين
أنت يا با غيها .." وعقيدة متطرفة مثل" من عادى آل سعود يعادي الله ، فخذ عدو
الله لعهد الله واغدر به "[17] وغيرها من التعاليم التي كان الاخوان يعتقدون
أنها من صلب الدين فيما كان عبد العزيز يحقق من وراءها مكاسب سياسية.
لقد اطلق ابن سعود جيش الاخوان ليتوسع في بلاد الجزيرة العربية، ولكن بعد سقوط
شمر وعسير والحجاز واجه الاخوان قوة الانجليز التي شكلت سداً منيعاً امام زحف
الاخوان. فابن سعود لم يثبت فرامل في جهاز الاخوان يحول دون اثارة القوى الكبرى
في المنطقة، فقد تربى الاخوان على تعاليم ابن سعود القاضية بان كل ما لم يصل له
التطهير الاخواني فهو كفر محض ولا بد من غزوه واحتلاله لأن في الغزو: اشغال
الاخوان، ورفاه اقتصادي.
ومن ابرز المعارك التي خاضها الاخوان الى جانب ابن سعود كانت في الحجاز. فقد
دعا ابن سعود زعماء الاخوان وكبار العلماء وشيوخ القبائل وأعيان الحواضر الى
مؤتمر عقد في الرياض في الخامس من يونيو عام 1924م شرح فيه ابن سعود وجهة
نظر الاخوان فيما يخص المسألة الحجازية ورغبتهم في تأدية فريضة الحج وقرار
الشريف حسين بمنع الاخوان من زيارة العتبات المقدسة، وبعد أن انتهى من عرض
موقفه أمام المؤتمرين طلب من ، العلماء اصدار فتوى باعلان الحرب ضد الشريف
حسين، فلبى العلماء الطلب واستعد الاخوان على الفور لتطبيق الفتوى فتقدم اربعة
الآف رجل من الاخوان وقد ارتدوا احرام الحج وتجهزوا بالسلاح وتولى السلطان بن
بجاد زعيم الغطغط وخالد بن نوى قيادة قوات الاخوان وأغاروا على الطائف وقتلوا
حاميتها وفي السابع من صفر خرج جيش الشريف من المدينة فدخل الاخوان الطائف
واوقعوا المجازر الرهيبة في سكانها ودمروا الاحياء السكنية وأعملوا السيف في
رقاب عدد كبير من وجهاء مكة ونهبوا ممتلكاتهم كما قتل عدد من رجال الدين في
الحجاز من بينهم مفتي الشافعية الشيخ الزواوي وابناء الشيبي، ونجا بعض من
تظاهروا باعتناق المذهب الوهابي، وكان اشراف مكة يرددون " ان دعوة ابن سعود
مذهبية لذلك لاتنجح خارج نجد . لا أمن في الجزيرة ولا راحة للعرب ومطامع ابن
سعود تزداد يوماً فيوماً .." لقد دخل الاخوان الى مكة المكرمة والمدينة المنورة
كفاتحين وانهم جاءوا لتطهير المدينتين من البدع فأزالوا المعالم التاريخية
وحطموا الآثار الدينية وهجموا على المسجد النبوي وقد جاء في تقرير القنصلية
الامريكية في عدن بتاريخ 17/8/1926م أن ابن سعود اطلق النار على قبر النبي.
وقد تركت هجمة جيش الاخوان بقيادة ابن سعود على الاماكن المقدسة آثاراً سلبية
وفجرت موجة من الغضب في بلاد المسلمين واحدثت عمليات الدمار ضد مدافن رجال
الاسلام اصداءاً واسعة قابلها المسلمون باصوات الاستنكار والاحتجاج. ففي 3
كانون اول ( ديسمبر ) عام 1925م جاء وفد ايراني برئاسة السفير جعفر خان جلال
وقام بجولة في انحاء مكة المكرمة والمدينة المنورة بعد الانباء التي ذكرت ان
زعماء الوهابية من آل سعود دمرّوا قبور الصحابة واهل البيت، واضطر ابن سعود
لتقديم اعتذار رسمي لرئيس الوفد الايراني الذي اشار الى ان قير السيدة خديجة
والسيدة آمنة وبعض قبور اهل البيت والصحابة دمرت تماماً. وكتبت جريدة (المصور)
المصرية في يوم الجمعة 4 ديسمبر 1925م تقريراً تحت عنوان " اهتمام العالم
الاسلامي بتخريب الآثار المقدسة " جاء فيه "اهتم العالم الاسلامي بما تناقلته
الصحف عن تخريب الوهابيين بعض الآثار المقدسة "[18] في الحجاز فأوفدت حكومة
ايران لجنة لتحقيق ما حدث برئاسة السفير جعفر حان جلال. وقد تكرم بمقابلة مندوب
" المصور " في فندق الكونتنتال وقال " كان اهم ما خربوه مقابر آل البيت وأخصها
قبر السيدة خديجة والسيدة آمنة . قال السلطان ــ أي عبدالعزيز ــ بلغني خبر
ماحدث ، حزنت لتأكدي إن لهذه الآثار حرمة وكرامة عند الكثيرين من المسلمين في
انحاء العالم لذلك سأبذل جهدي في اعادة هذه الى ما كانت عليه " وبسقوط الحجاز
تحت سيطرة ابن سعود بقيت عسير آخر معاقل الاتراك ونتيجة للظروف الاقليمية
والدولية نجح ابن سعود في تصفية الوجود التركي في هذه المقاطعة.
الدين في الدولة
نشأت الدولة السعودية الحديثة في 12جمادي الأول عام 1351هـ الموافق 10ــ اغسطس
سنة 1932م اثر اجتماع الطائف بين ابن سعود وجمع من رجاله وتم الاتفاق على
الاعلان عن" المملكة العربية السعودية" ثم اصدر ابن سعود في 22 سيبتمبر ــ 21
جمادى الأول مرسوماً قرر فيه هذه التسمية وأصبحت السلطة المركزية بيد ابن سعود
حيث" كان يمسك بيده زمام الامور بالبلاد"[19] رغبة في تثبيت سيطرته على البلاد
وتركيزها واستبعاد كافة الهياكل الادارية القائمة في بعض المناطق وخاصة في
منطقة الحجاز.
واعلان المملكة بحدودها الثابتة عنى توقف حركة الزحف وحمل ذلك تهديداً خطيراً
لدولة ابن سعود، فقد بات الاخوان عبئاً على الدولة الناشئة. فالاخوان أُستعملوا
كأداة لتشكيل الدولة بمعنى أنها أوصلت ابن سعود الى مرحلة بناء الدولة، اما بعد
قيامها فلم يعد الاخوان مؤهلين للادارة خاصة وأن ابن سعود يريد اقامة دولة
بأجهزة حديثة قائمة على تحالفات واتفاقيات شراكة دولية. فقد عارض، على سبيل
المثال، علماء الدين في المملكة بمرارة اتفاقية الملك عبد العزيز مع شركة سوكال
على أساس انها ستؤدي الى دخول الكفار الذين سيفسدوا الشعب عبر ادخال المسكرات
والصور وآلات الشيطان ولكن الملك عبد العزيز لم يعتن كثيراً بالمعارضة الدينية
وتجاوزها سريعاً[20].
كان تحقيق مشروع الفتح كإنجاز كبير للتحالف السعودي ـ الوهابي يمثل
مفصلاً تاريخياً سيحدد دون أدنى شك طبيعة التحالف اولاً وطبيعة الادوار
المستقبلية التي يمكن لرجال الدين ورجال الدولة ان يلعبوها بعد قيام الدولة.
ومن الطبيعي ان يتغلب منطق الدولة على منطق الدين الذي أريد الحاقه بماكينة
الدولة ذات الطبيعة الجبروتية، ولابد للمكر السياسي أن يتغلب على الطهرانية
الوهابية، فقبول علماء الوهابية بأن يتكفلوا باسباغ المشروعية على السلطة
السياسية قد اطاح بمفهوم التحالف التاريخي، وسيتطلب منهم بذل جهود مضاعفة
لانتزاع جزء من سلطة كانوا يرونها حقاً لا يجوز للساسة المساس به.
فقد ظل الطموح الديني لزعماء المذهب ومازال هو الامساك بدفة التوجيه لنظام
الحكم السعودي، واحتكار كلية المجال الديني بكافة مؤسساته ومصادره واستراتيجاته
الدعوية داخلياً وخارجياً، فقد ساءهم التحول الى مطية يركبها الساسة، فبدلاً من
أن يكونوا مصدر التشريع تحولوا الى اداة لتسويغ الممارسات السياسية.
لقد تبدلت بلا شك اغراض ابن سعود من الاخوان فقد أرادهم قوة فتح لبناء دولته
وإن بقاء هذا الغرض في ثقافة الاخوان سيؤول للاطاحة بدولته، فكان لا بد من بديل
ايديولوجي يسهم في تدعيم أسس الدولة الناشئة واستقرارها، وهذا يتطلب ابطال
مفعول المشروع التوسعي وايقاف محركات التمدد خارج الحدود المقررة دولياً. وهنا
تجدر الاشارة الى أن مشروع الحركة الدعوية الوهابية قائمة على أساس اعتبار ان
العالم كله يمثل مسرحاً مفتوحاً لعملياتها الدعوية، بما يمثل ـ أي العالم دار
حرب بالنسبة لها باعتباره مسكوناً بالمشركين والكفار وان تطهيرهم من الفساد
العقائدي يتطلب غارات متصلة عابرة للحدود، وبالتالي فهذا المشروع يقف على طرفي
نقيض مع الخارطة الدولية بالمعنى الجيوبليتيكي والنظام الدولي بالمعنى
القانوني. في المقابل هناك دولة ابن سعود التي توقفت حدودها عند النقاط التي
جرى الاتفاق عليها مع المعتمد الانجليزي، وجرى القبول بالنظام الدولي كاطار
قانوني يجرى التعامل معه والتحاكم اليه باعتباره نهائياً[21].
ولعل ابن سعود أدرك خطورة التوجه الراديكالي للمشروع الديني الوهابي، ولذلك
بدّل جبهات المواجهة من الخارج الى الداخل فقد أراد ان يحفظ كيانه السياسي من
أي اختراقات تنطلق من داخل حدوده بما يثير قوى خارجية اقليمية ودولية، وفضّل
تحويل المشروع الوهابي الى قوة استقرار داخلية. وهذا بالضبط يفسر قرار ابن سعود
توظيف "المطاوعة" في عملية الضبط الداخلي، عبر ضمهم داخل لجان الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر "الخاضعة بدورها للمديرية العامة لقوى الامن الداخلي في مرسوم
ملكي عام 1930م وبذلك تمكن من توجيه مهام المطاوعه وضبط حركتهم واستخدامهم
كاداة ضبط سياسية تمتد الى القرى والبوادي والأرياف وتحقق هدفاً مزدوجاً :
تبليغ الدعوة الوهابية وتثبيت دعائم السلطة السياسية الحديثة في البلاد.
وقد نشأت هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على يد الشيخ عبدالعزيز بن
عبداللطيف آل الشيخ عام 1930م بالرياض ثم توسعت لتشمل مناطق اخرى في نجد
والاحساء وضمت الشيخ عمر بن حسان آل الشيخ والشيخ عبدالرحمن بن اسحق آل الشيخ
والشيخ عبداللطيف آل الشيخ، وانتظمت في داخل الهئية لجان تابعة لنظام لابن سعود
وقد تولى حاكم الحجاز فيصل بن عبدالعزيز الملك فيما بعد ادارة الهيئة وهو بدوره
كان مسؤولاً أمام أبيه الملك بن سعود. وتتلخص مهمة هذه اللجان في ملاحقة
المخالفين للتعاليم الوهابية وإدخال المشتبه بهم في سجون الدولة وانزال
العقوبات بمن ثبت اختراقه للتشريعات المذهبية الوهابية .
وقد كان المطاوعه المتحدرين من قبائل مناصرة لابن سعود، فيما مضى أعضاء
في حركة الاخوان وقد عملوا كجهاز فاعل في المراكز التابعة لهيئة الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر في تحقيق هدفين متداخلين في آن أولاً: نشر المبادئ الوهابية
عبر اخضاع المجتمع لعملية توجيه صارمة وأن تطلب ذلك استعمال القوة،
وثانياً:تحقيق الولاء للنظام السعودي الحاكم. وباختصار فان "المطاوعه "ربطوا
شاءوا أم ابوا بين الولاء للسلطة وبين الولاء للدين الاّ أن الغلبة كانت في
نهاية الامر لولاية السلطة التي استخدمت الولاء الديني كاداة للسيطرة.
وقد قيل بأن المنتسبين لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغوا عشرة
آلاف منتسباً في بداية تأسيسها عملوا من خلال اكثر من 120 مركزاً الا أن الرقم
الحالي قد تجاوز ثلاثمائة ألف منتسباً يتوزعون على أكثر من عشرة آلاف مركزاً في
أرجاء المملكة. ويصنف أغلبهم على الفئات الاقل تعليماً ودخلاً فيما كان لسوء
الاوضاع الاقتصادية دور في التحاق عدد كبير من المنتسبين الى مراكز الهيئة حيث
لا تفرض هذه المهنة مهارات خاصة بل على العكس فهي توفر مصدراً مالياً اضافياً
لكثير من العوائل الفقيرة.
ومنذ أن وضع الفقيه والمكي الشيخ محمد بهجت البيطار، بطلب من قاضي القضاة
التابع لابن سعود عبدالله البليحد، الشروحات على مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر بما يحدد مهام "المطاوعه "اصبح الخطاب الديني في الهيئة بمضمون سياسي
مما افقد الهيئة طابعها الارشادي. وغالباً ماينظر المواطنون الى"المطوع" كرجل
دولة لارجل احتساب (من حسبة) بسبب الوسائل المتبعة عند العاملين في الهيئة
اضافة الى الاهتمامات الثانوية التي ركزّ عليها فيما يخص بعض الظواهر
الاجتماعية كمنع التدخين ومراقبة الاسواق وملاحقة أصحاب الشعور الطويلة وسوق
الناس بالعصا الى المساجد ودفع اتباع المذهب الوهابي للمداومة على صلاة الجماعة
وهي اهتمامات في ظاهرها حسنة، الا أنها بمرور الوقت تحولت الى مفردات داخل
المشروع السياسي السعودي.
وبالرغم من المحاولة الجادة التي تمتت في 14 سبتمبر 1971 اثر تشكيل لجنة مؤلفة
من ثلاثة وزراء ورئيس هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لاعادة النظر في
التنظيم المتعلق بمهام هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في أنحاء
المملكة، الا أن الامور ظلت تسير من سيء الى أسوأ. يؤكد ذلك تضخم جهاز هيئة
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغياب لوائح تنظيمية محددة لوظائفه
ومسئولياته، والذي وضع بدوره الجهاز والسلطة السياسية امام تحديات خطيرة
داخلية.
ان القول بانحصار رجال الهيئة ضمن حيز النشاط الدعوي يبدو صحيحاً ايضاً رغم
كونهم يمثلون مجتمعين كقوة ردع داخلية، فمازال قاراً في مشاعرهم تلك الرغبة
الجامحة الى ابقاء السكان تحت تأثير نشاطه الدعوي وتركيز القيم التي ناضل
السابقون من اجل ترسيخها في هذه الارض المفتوحة عنوة. فقبولهم بأن يتحولوا الى
وكلاء عن السلطة في حفظ الامن لن يجعلهم بحال رهن سياسة هذه السلطة حينما
تستنفذ اغراضها منهم او حينما يكونوا خطراً عليها وهو ماحصل فعلاً ابان أزمة
الخليج بعد احتلال العراق للكويت في الثاني من اغسطس عام 1990م وقدوم القوات
الاميركية بعد ثلاثة أيام من تاريخ الاحتلال مما أثار سخطاً عارماً وسط التيار
الديني السلفي، ولعل ما زاد في وتيرة السخط مشاركة عشرة الآف مجندة أميركية كن
يتجولن متبرجات في الاسواق والشوارع العامة بسياراتهن العسكرية، مما اعتبره
"المطاوعة" تحقيراً للمشاعر الدينية واستخفافاً بقوتهم التي لم تعد مشمولة ضمن
الحسابات العسكرية في حال قررت الدولة المواجهة مع الجيش العراقي.
وكان من بين الساخطين العلماء العاملن في هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
بما في ذلك رئيس الهيئة نفسه الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن ابراهيم آل الشيخ الذي
عبّر عن استنكاره من وجود الاميركيين والاميركيات كرد فعل على انكسار معنوي
ربطه بالخوف من انتشار مظاهر استفزازية لمشاعر المواطنين، فأصدر أوامره
للمطاوعه والدوريات لملاحقة تلك المظاهر، الاّ أن حظه قادهُ للفصل من منصبه.
وفي يوم السبت بتاريخ 28/5/1411هـ الموافق 15 ديسمبر 1990م صدر أمر ملكي عن فهد
بتعيين الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن السعيد رئيساً عاماً لهيئات الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر بمرتبة وزير.
ويعد تعيين السعيد الأول من نوعه في تاريخ الهيئة ، فقد تلقى السعيد تعليمه
الديني في الجامع الازهر وهذا خلاف الرؤساء الماضين الذين تخرجوا من المؤسسة
التعليمية الوهابية. وقد فُسر القرار على أنه يتناسب وطبيعة المرحلة بعد التذمر
الذي ساد اوساط العلماء الوهابيين إزاء وجود القوات الاميركية.
وفي سؤال لجريدة الرياض في 13 جمادى الآخرة 1411هـ حول التجاوزات المتكررة
للصلاحيات المتاحة لرجال الهيئة من قبل الدولة رد السعيد بالايجاب، وأكد على
تجاوز رجال الهيئة للصلاحيات المنوطة بهم ومن بين التجاوزات مداهمة المنازل
والتدخل في شؤون الغير والتشهير بمرتكب مخالفة ما، كما أشارت الجريدة الى تطرف
رجال الهيئة في انكار المنكر ودعت الجريدة الى محاكمة رجال الهيئة فيما يتصل
بالممارسات والسلوكيات الخاطئة.
ولعل من المفيد الاشارة الى أن الارتفاع الفجائي في مداخيل النفط عام 1973
[22]، مكّن السلطة السياسية من توظيف الدين بكفاءة عالية وبسط سيطرتها على
النشاط الديني عموماً. فاعتماد علماء الدين على الملك في الحصول على مخصصات
مالية قد أدى الى زيادة سلطته الفعلية مع تدن مواز في مساهمة العلماء في تقرير
المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للبلاد[23].
فالتنامي المتواصل لسطوة الدولة قد أدى وبوتيرة متزايدة الى انخفاض السلطة
المستقلة للعلماء الذين باتوا ينشدون بدائل للحفاظ على قدر من التخارج مع
الدولة. فالاخيرة ـ كما أدرك العلماء ـ تنزع الى تشديد الولاء الداخلي حولها
وهذا يتحقق باندكاك العلماء في خط سير الدولة العام، وهذا يتطلب ايضاً انحباس
العلماء ضمن آلية العمل المعدّة لهم والموضوعة في الاصل من قبل الدولة لابقائهم
داخل أتونها السياسية. وبلا شك فإن قراراً كهذا قد خيّب آمال العلماء خلافاً
لمقتضى التحالف التاريخي الذي انتهى الى تهميش دورهم واستثمارهم كقوة اسناد
للسلطة وليس شريكاً تتقاسمها مع القادة السياسيين. ويشرح ذلك أيمن
الياسيني بالقول "ان "العلماء "الحقوا بادارة الدولة فأصبحت قوانين الدولة تنظم
نشاطات "العلماء ".والدولة بحكم تفردها بالسلطة وبالموارد واضطرارها الى صيانة
استقلالها، لاتسمح بوجود سلطة دينية مستقلة اخرى ربما نافستها في كسب ولاء
المواطنيين، وعلى ذلك وسعت الدولة سلطاتها ليشمل القطاع الديني"[24].
وكان خضوع العلماء تحت وطأة السلطة المركزية قد فرض نمطاً صارماً من التفسيرات
الدينية الموجهة غرضاً لدعم التوجهات السياسية السائدة كما حصل في تجارب الحكم
السابقة يقول حليم بركات(ان العلماء شكلّوا طبقة وخضعوا للحاكم في غالبية
الحالات وفسرّوا النصوص الدينية من منظور الطبقات الحاكمة،..بسبب اقوال نشرّها
بعض العلماء مثل الماوردي وابن تيميه على ان الخليفة او السلطان هو "حكم الله
في بلاده وظله الممدود على عباده "و "امام عادل خيرمن مطر وابل، وامام غشوم خير
من فتنة تدوم "و "طاعة الائمة من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله"و "اذا كان
الامام عادلاً فله الاجر وعليك الشكر واذا كان الامام جائراً فله الوزر وعليك
الصبر"[25].
فانثيال طبقة العلماء بطريقة مذهلة نحو الصراعات السياسية الداخلية أفقر قدرتهم
على المناورة خارج اطار المساحة الجغرافية لنجد. فاصدار الفتاوى لتبرير اجراءات
السلطة السياسية حرم العلماء من القدرة على بناء تحالف خير حدود نجد، فكل
المناطق الاخرى داخل حدود الدولة السعودية قد أصابها القرح من فتاوى العلماء.
ففي حربه مع اشراف الحجاز، كان ابن سعود يثير الاشرف لمنع الحج فيما يقوم هو
بتحريك العلماء ويثير فيهم الحمية الدينية بهدف اصدار الفتاوي الرامية الى
التعبئة العسكرية العامة في صفوف الناس بقيادة ابن سعود لتنتهي المناورة
السياسية الى حرب مقدسة يكون الرابح الأول فيها هو ابن سعود نفسه فيما
يتساقط الآف الأبرياء ضحايا فتوى العلماء!!
والحال نفسه تكرر في الصراع الداخلي في الأسرة المالكة في قصة إقالة الملك سعود
بن عبدالعزيز والتي نفذها فيصل واخوته وحتى تكون الاقالة نافذة ومشروعة نجح
محمد بن عبد العزيز في الحصول على مساندة افراد العائلة لفيصل وطلب من عميه عبد
الله ومساعد ابناء عبد الرحمن بالحصول على مساندة العلماء حيث عقدت سلسلة من
الاجتماعات مع العلماء في 29 مايو 1964 فأصدروا قرارهم بالابقاء على الملك سعود
كعاهل للبلاد فيما يقوم فيصل بادارة كافة شؤون الدولة الخارجية والداخلية خلال
وجود سعود او غيابه دون الرجوع اليه. وفي اليوم التالي اجتمع سبعون من الامراء
في قصر محمد بن عبد العزيز واطلق الحاضرون على اجتماعهم "أهل الحل والعقد"
وأسفر عن اجماع على ازاحة سعود عن العرش.
وبهذا تحوّل العلماء الى ورقة من اوراق اللعبة السياسية السعودية، جرى
استعمالها في مناسبات عديدة لخدمة اغراض محددة. فالحاق العلماء بمؤسسة الحكم
أريد منه تحديداً توفير ختم المشروعية لاضفاء الطابع الاسلامي فقد جرى توظيفهم
في تأييد قرارات الحكومة الداخلية (الاعدامات واستقدام القوات الاجنبية، وقمع
التمردات). ففي أحداث مكة في ديسمبر 1979 حصلت العائلة المالكة على أصوات 32 من
كبار العلماء لاستخدام القوة ضد حركة جهيمان. وفي واقع الامر أن حركة العلماء
جمدت عند حدود توفير الغطاء الديني لممارسات السلطة، وكان قبول العلماء بهذا
الاطار فرض عليهم الخضوع للعبة السياسية بكافة أشكالها، وان تطلب اتخاذ مواقف
متناقضة.
في الحلقة القادمة: السياسة الدينية السعودية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - د. صالح بن فوزان الفوزان/ كتاب التوحيد ص 7
[2] - المصدر السابق ص 24
[3] - ديكسون/ الكويت وجاراتها
[4] - الخليج العربي ..دراسة لتاريخ الامارات العربية ص 90
[5] - الكويت وجاراتها / ديكسون ص 254
[6] - جلال كشك/ السعوديون والحل الاسلامي / ص 556
[7] - العطار/ صقر الجزيرة
[8] - محمد المانع/ الجزيرة تتوحد ص 559
[9] - معجزة فوق الرمال / ص 64
[10] - امين الريحاني/ ملوك العرب / ص 569/ 570
[11] - محمد أسد/ الطريق الى مكة
[12] - الريحاني/ ملوك العرب / ص 564
[13] - حافظ وهبة/ جزيرة العرب في القرن العشرين ص 312
[14] - المانع/ توحيد المملكة العربية السعودية ص 112
[15] - الريحاني/ ملوك العرب / ص 571
[16] - المصدر السابق ص 511
[17] - تالريحاني / اريخ نجد الحديث / ص 64
[18] - الريحاني، ملوك العرب، ص 507
[19] - د. عيد الجهني، مجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية ص 59
[20] -Nadaf Safran, Saudi Arabia,: Ceaseless Quest for Security, p.61
[21] - في عام 1915 وقع ابن سعود اتفاقية الحماية مع بريطانيا والتي سمحت له
بالسيطرة على كافة مناطق الجزيرة التي احتلها، كما قدمت له قدراً قليلاً من
المساعدة فيما اضطلعت هي بمسئولية ادارة الشؤون الخارجية وفي جدة عام 1927 منحت
بريطانيا ابن سعود استقلالاً تاماً في مقابل اعترافه بسيادة بريطانيا على قطر
والبحرين وعمان والمشيخات المتنازعة (دولة الامارات العربية المتحدة حالياً):
انظر: The Economist Intelligence Unit:Country Report 1992-1993 Saudi Arabia
pp.3ff
[22] - كلود فوييه/ النظام السعودي بعد ايران/ص 9
[23] - اميل نخلة/اميركا والسعودية الابعاد الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية
ص 36
[24] - أيمن الياسيني/ الدين والدولة في المملكة العربية السعودية
/المقدمة
[25] - ندوة(الاسلام والحداثة) عام 1989م بلندن عنوان البحث "الدين
والسلطة في المجتمع العربي المعاصر "