يمكن اعتبار السنوات الأخيرة من القرن العشرين سنوات اعتراف صريح بفشل
الإيديولوجيات المعادية للغرب ، وأنها لم تجنِ لرافعي شعاراتها غير التخلف
وضياع كثير من الفرص التي لن تعود إلا بعودة الزمن قرنا كاملا إلى الوراء
لأولئك الذين وقعوا في فخ تجار الشعارات . هذا الاعتراف لم يكن اعترافا
بالإكراه تحت وقع مجنزرات الجيوش الغربية ، بل تم ذلك بقوة الزخم الحضاري الذي
تجسد في الواقع كأفضل الخيارات الممكنة بشهادة واقع الحال .
لقد تصالح كل العالم مع الغرب باستثناء بُؤر التخلف في العالمين : العربي
والإسلامي ، تلك البؤر التي لا تزال تعاند اتجاه التاريخ ؛ رغم أنه يهزمها في
كل لحظة ، ويتركها تمضغ الحسرات تلو الحسرات . تصالح العالم مع الغرب إلا تلك
البؤر التي لا تزال تلقي على الغرب مسؤولية فشلها الحضاري الفظيع ، وتشرذمها ،
وأن بعضها يأكل بعضاً ، فهي عناكب أكلت عناكب (كما يقول الراحل : نزار) ؛ رغم
أن فشلها ، وتشرذمها ، واحترابها فيما بينها ، ليس أمرا طارئا ، بل هو حالة
مزمنة تمتد لقرون طويلة ، أي قبل أن يطمر شواطئها طوفان حضارة الغرب ، وقبل أن
تجتاحها كما يقولون ثقافة التغريب .
ليس من الصعب إدراك أن إلقاء المتخلفين المتناحرين مسؤولية فشلهم وتناحرهم على
الغرب هو هروب من المسؤولية ذاتها ، من قبل ثقافة لم تتأسس من البداية على
الحرية التي هي الشرط الأول لكل فعل مسؤول . فالغرب إن اتهم بأنه هو الذي يقف
وراء الانقلابات العسكرية التي أسست للديكتاتوريات ، أو وراء صناعة الدول التي
تقف عند حدود الأثرة بالجاه والمال فالغرب لم يصنع الانقلاب الأموي ولا العباسي
، وليس هو الذي استباح مدينة الرسول ، ولا هو الذي أباد عترته الطاهرة حتى
أوشكت على الفناء . الغرب لم يقتل في يوم واحد ثلاثة آلاف أسير صبراً في دير
الجماجم ، ولم يكن هو الذي يَسْمل بالحديد المُحمى عيون الخلفاء في انقلاب الأخ
على أخيه والابن على أبيه ، وليس هو الذي كان يُعلق الضحايا على باب زويلة ،
ولا هو الذي حكم معظم العالم الإسلامي لمدة خمسة قرون بأسوأ العقليات التي
عرفها التاريخ ...إلخ . الغرب حتى ولو أساء ، فهو لم يفعل بنا ما يقارب 1% مما
فعلنا بأنفسنا عبر تاريخنا الطويل (المجيد) وبرّرناه ب(ثقافتنا الأصلية) .
للغرب وجه حضاري استثنائي ، ولكننا لا نريد رؤيته ؛ لأنه يذكرنا بعطبنا الذي
يقابل معاكساً كل ما هو جميل في هذا الوجه الحضاري الاستثنائي . وعندما نؤكد أن
الغرب لم يتعمد الإساءة إلينا ، وأن معظم وأكبر أخطائه (وهي طبيعية في حضارة
بشرية) لم تقع علينا ( = كعرب وكمسلمين ) ، وإنما وقعت على شعوب وأمم أخرى ،
عندما نُذكّر بذلك ، يُذكّرنا مُروّجو الشعارات وضحاياها بالتّدخل الغربي في
العراق ، بل ويرجع بنا بعضهم إلى عهود الاستعمار . يُذكرّنا هؤلاء بهذا ويجهلون
أو يتجاهلون أنه كان تدخّلاً يختلف كثيرون في تفسيره ، فمن المُحلّلين من يراه
( = الاستعمار والتدخل في العراق ) تحريرا ومنهم من يراه احتلالا . وهذا
الاختلاف في التفسير اختلاف طبيعي ؛ لأن الغرب حتى وهو يمارس هيمنته لم يستبح
الأموال ولا الأعراض ، كما عادة الغزاة . أقصد أن الغرب وهو مهيمن على العالم
الإسلامي في زمن الاستعمار ، أو في زمن التدخل في العراق ؛ لم يشحن عَذراوات
العالم الإسلامي سبايا ؛ كي يتمتع بهن (العلوج !) ، كما لم يستولِ على الأموال
، ويشحنها بمجرد أن تصبح حلالا بالاحتلال .
هذا الفارق فارق نوعي ، لا يمكن تجاهله عند مقاربة التمدد الحضاري للغرب في
صورته العسكرية ، خاصة في حال إرادة التمييز بين التحرير والاحتلال . قد يقول
مروجو الشعارات : إن الغرب لم يشحن عَذراوات العراق بعد (احتلاله !) ؛ لأن
ثقافة العصر لم تعد تقبل مثل هذه الممارسات ، بل ولا تتصور وقوعها ، وأن الغرب
لو مارس شيئا من ذلك لضج العالم أجمع . يقولون هذا ويتجاهلون أن ثقافة هذا
العصر ، هي الثقافة التي رفعت الحساسية العالمية تجاه كل الممارسات اللاإنسانية
، هي ثقافة الغرب ، وأنه لولا الغرب وثقافته التي نشتمها ، وهيمنته الحضارية
التي نشكو منها ؛ لاستمرت ثقافة السبي ؛ ولكنا أول ضحايا هذه الثقافة . فما
يمنع الغرب من ممارسة السلوكيات اللاإنسانية تجاهنا ( وهو قادر عسكريا ، ويوجد
من أفراده كأفراد مَن لديه استعداد لممارستها ؟) هي ثقافة هذا الغرب . فثقافة
الغرب هي التي تحمينا من الغرب !.
الغريب ، أنه مع وضوح هذا الأمر ، إلى درجة اعتراف العالم كله بفضل الغرب في
هذا المجال ، لا تزال ثقافتنا الشعاراتية تعترض على هذا ، وتحاول التمرد عليه ،
وتُمارس تشويهه باستمرار .
اليابانيون بعد الهزيمة الساحقة التي ألحقها الغرب بهم في الحرب العالمية
الثانية ، هم (أشد حبا وأقل بغضا) للغرب من حالهم قبلها ؛ مع أن المفترض هو
العكس تماما . إلقاء قنبلتين ذريتين ، بعد حرب طاحنة ، كان من المفترض أن يُورث
اليابانيين حِقدا أزليا على الغرب . وهذا ما لم يحدث ؛ لأن اليابانيين في
تقديري أدركوا من خلال الهزيمة طبيعة الثقافة النوعية الإنسانية للغرب .
اليابانيون يدركون أنهم استسلموا بدون قيد ولا شرط ، وأن باستطاعة الغرب عسكريا
أن يأخذ اليابان بما فيها غنيمة باردة . لكن ، كانت ثقافة الغرب التي رسمت حدود
التعامل الإنساني معهم ، هي التي أعطتهم أكبر درس عملي على الطبيعة الإنسانية
النوعية لثقافة الغرب . ولأن اليابانيين لا يتمتعون بالبلادة التي يتمتع بها
الشعاراتيون لدينا ، فقد اعترفوا واقعيا بأن حضارة / ثقافة الغرب هي التي حمتهم
من الغرب ، وأن ثقافة / حضارة تستحق أن يتمثلها الجميع .
كثيرا ما تأملت موقف اليابانيين من الغرب عامة ، ومن الأمريكيين خاصة ، وحيرّني
هذا التصالح مع الغرب . أتساءل كثيراً : ماذا لو أن القنبلتين الذريتين ألقيتا
على بلد عربي أو إسلامي ، ماذا سيكون موقفنا من الغرب حينئذٍ؟
لا شك أن الشعاراتيين ، فضلا عن سدنة التقليدية ، سيعتبرون ذلك دليلا عمليا على
أن الغرب لا يكره إلا العرب والمسلمين ، وأن حقده عليهم وكراهيته لهم أكبر من
أي حقد، ومن أية كراهية تصدر عن الغرب بحق الآخرين .
لا أخفي أن موقف اليابانيين كثيرا ما استفزني بقدر ما حيرني . قضيت مع كثير من
اليابانيين بعض الأيام في أماكن عدة من العالم ، ولم أفوّت أية فرصة إلا وأطرح
عليهم أسئلة عن حقيقة مشاعرهم تجاه الغرب عامة ، وتجاه أمريكا خاصة . لقد كنت
أحاول استفزازهم بتذكيرهم ببشاعة القنبلتين الذريتين ، وبكل ما حدث قبلهما .
الغريب أنني لم أجد أية إجابة تحمل مشاعر سلبية تجاه الغرب ، رغم أنها تحمل
كثيرا من الاعتزاز باليابان .
أحد اليابانيين وكنا في أستراليا طرحت عليه سؤالا بصيغة الجواب ، قلت له : أنتم
طبعا تكرهون الأمريكيين لأنهم دمروكم بالقنابل الذرية (لاحظ ، قلت القنابل
بصيغة الجمع لأستفزه بأكبر قدر) . أجابني بما صعقني ، قال : أمريكا ساعدت
اليابان كثيرا ، وشاركت في تطويره . أحدهم أجابني على مثل هذا السؤال بقوله :
اليابان كانت دولة دكتاتورية غازية تمارس كثيرا من الأخطاء ، وتتحالف مع
النازيين ، وكان لابد من إيقافها بأية وسيلة (لاحظ قراءة سلوك الذات بموضوعية)
.
أجوبة كثيرة من هذا النوع ، ولعل آخر من استفززته منهم بهذا السؤال كان طالب
لغة في الثانية والعشرين من عمره ، فعندما طرحت عليه هذا السؤال ، نظر نحوي
باستغراب كبير ، وكأنني خرجت إليه بهذا السؤال من خارج هذا العالم ، وأجابني
قائلا وبكل بساطة ، بساطة تصل بي حد الذهول : ماذا تقول ، هذا شيء وقع قبل أكثر
من ستين سنة ، هذا حدث في زمن الحروب ؟!
ولتدرك الفرق ؛ لك أن تتصور ، هل يمكن أن تخرج هذه الأجوبة من اليابانيين لو
أنهم يفكرون كما يفكر العرب والمسلمون ؟ ، أو هل كان من الممكن أن تتطور
اليابان لو أنها تفكر بطريقتنا ؟
لا شك أن اليابان لو كانت بدرجة تخلف وبؤس العرب والمسلمين لاجترت الأحقاد ،
ولاستمرت تذرف الدموع على الحقوق الضائعة المسلوبة ، ولجعلت ثقافتها ثقافة
شتائم موجهة للغرب ، وثقافة شماتة بكل مصيبة تقع في الغرب ؛ لأن هذه هي طبيعة
سلوك الفاشلين .
ألم يحن الوقت ؛ لنتأمل على مستوى جماهيري طبيعة علاقتنا بالغرب وبالعالم ؟ ،
ألم يحن الوقت لنتأمل كيف سيكون العالم من غير هذا الغرب ؟ ، ألم يحن الوقت
لنكتشف الغرب بعيون عالمية ، أي بالطريقة نفسها التي اكتشف بها العالمُ الغربَ
؟ ، ألم يحن الوقت لنعرف حجم التضحيات التي يقدمها الغرب ضريبة من دمه وماله من
أجل استقرار هذا العالم ؟ ، ألم يحن الوقت لنتأمل ماذا ستكون عليه حال العالم
لو أن الإرهاب طفح على السطح ، ولم يتصدّ له العالم الغربي بكل ما يملكه من
إمكانات جعلت الإرهاب معزولا في أقصى الكهوف ؟
أغمض عينيك قليلا ، وتأمل حال العالم بلا غرب ، ألن يصبح العالم حينئذٍ عالما
غير آمن ،
عالما كئيبا لا يصلح لغير الطالبانيين ؟
نقلا عن صحيفة الرياض
29-10-10