gulfissueslogo
د.فؤاد إبراهيم
«الإخوان» والسلفيون.. والسعودية بينهما
د.فؤاد إبراهيم

كتب جاك دونت: «الأشياء لا تظل ابداً على ما هي عليه، لأن قانون العالم هو الصيرورة».
 
ما يكف المنشغلون بالتنقيب في المخزون السجالي عن التفكير فيه، هو أن الشغف بحروب السياسة يشتد ضراوة منه في حروب العقيدة، وإن تركت الأخيرة بصمة خادعة، فالمتصارعون في ساحة العقيدة هم سياسيون أولاً قبل أي شيء آخر. ينبّه ألتوسير إلى العلاقة المواربة بين السياسة والفكر، فما يبدو صراعاً فكرياً أحياناً كثيرة ليس سوى الوجه المضلل له.. فالصراع الفكري بين السلفيين و«الإخوان» هو سياسي بدرجة أساسية، وإن بدا في ظاهره فكرياً، حيث يتمترس كلاهما خلف تحصينات أيديولوجية ولكنهما ينشدان غايات سياسية محدّدة.. ثمة مكاسب جمّة في السياسة تغني عن الانخراط في المناظرات الفكرية العقيمة. وإن ثمار الربيع العربي أكثر نضجاً وإغراءً في السياسة منها في أي حقل آخر.
 
لم تعد المقاربة الكسولة لاستراتيجيات التغيير النمطي مجدية، فلا السلفية، بنسختها السعودية التقليدية، مرتهنة لخيار التغيير من أسفل (أسلمة المجتمع)، ولا «الإخوان المسلمون» كجماعة نشأت كرد فعل على سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924 تستجيب حصرياً لشروط التغيير من أعلى (أسلمة الدولة)، فرياح السياسة تهب على كل الاتجاهات الفكرية وتفرض قوانينها، وتطيح، تبعاً لذلك المتغيّر، «تابوات» صنّعت خصيصاَ لبناء الهوية المغلقة للجماعة وشدّ عصبها التنظيمي.
 
ليس الربيع العربي وحده المحرّض على اشتقاق خطاب ديموقراطي من داخل البيان الديني. الشيخ السلفي الكويتي حاكم المطيري في كتابه «الحرية أو الطوفان».. دراسة موضوعية للخطاب السياسي الشرعي، ومراحله التاريخية، المطبوع سنة 2003. يقتفي خالد محمد خالد، التائب من إرثه اليساري، في صوغ رؤية توافقية بين الإسلام والديموقراطية، ويقدّم خطاباً سياسياً سلفياً غير مسبوق يقوم على حق الأمة في اختيار السلطة، ومشاركتها الرأي، ومحاسبتها، وخلعها، والاشتراط عليها، ومراقبتها، ونقدها، وحقها في حرية التفكير والتعبير من دون مصادرة أو حجر، وحقها في مقاومة طغيان السلطة والتصدي له، وحقها في الانتماء والتجمع السياسي والفكري، ووجوب تحقيق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع أمام القضاء، وفي تولي الوظائف العامة وفق مبدأ تكافؤ الفرص. صحيح، أن المطيري ربط ذلك بـ (الشريعة)، ولكن مجرد القبول بمبدأ (الزحزحة) يعني أن «الأصول العملية» للعقيدة لم تعد هي ذاتها.
 
لا ريب أننا أمام مفارقة (Anachronism)، فالفجوة التاريخية هائلة بين البنى الحديثة والتقليدية، وإن محاولة القوى الدينية السلفية والإخوانية المواكبة المفتعلة مع شروط الدولة الحديثة لا يعفيها من مسؤولية المراجعة الشاملة والجديّة لإرثها الفكري.
 
تتشقق القشرة الرقيقة لنواة الصراع بين أنظمة الحكم في دول مجلس التعاون الخليجي وجماعة «الإخوان المسلمين» عن مدلولات لا صلة لها بالمعلن من الصراع، وإن خلف صخب التهويل المتواصل على خطر «الإخوان المسلمين» في الخليج تكمن حقائق جديدة. تصريحات مدير شرطة دبي ضاحي خلفان حول خطر «الإخوان» على أنظمة الحكم في الخليج تسدل أكثر مما تميط ستاراً سميكاً من الغموض حول الاهداف البعيدة لتضخيم خطر «الإخوان»، فثمة مارد إسلامي سلفي منافس يجري تأهيله سياسياً وعلى عجل كيما يخوض المنافسة على كامل مساحة انتشار «الإخوان».
 
وبإمكان المراقب أن يلحظ أن ثمة جنوحاً لدى الجماعات السلفية الى «طقسنة» السياسة، وجعلها فعلاً مقدّساً بعد أن كانت مصنّفة ردحاً من الزمن في خانة الفعل الاضطراري الذي يضطلع به المؤمن في حال خشية الهلاك، كأكل لحم الميتة. فتاوى رموز السلفية المتأخرين مثل ناصر الدين الألباني وبن عثيمين وبن جبرين حول جواز الانخراط في التنافس الانتخابي والمشاركة في برلمانات لدول محكومة بأنظمة غير إسلامية، أي علمانية، بهدف منع الفساد وتمكين المؤمنين من مواقع القرار لإصلاح ما فسد من حال المسلمين، كانت بمثابة فسح جمركي لدخول البضاعة الديموقراطية الى مجال المحاكمات العقلانية السلفية، وليس كما تصوّره الأدبيات السلفية بأن المشاركة ليست سوى حالة تربّص مبيّتة للاستحواذ على الدولة...
 
لا ريب، أن تحوّلاً جوهرياً في العقل السلفي يقرّبه من الانخراط السياسي اليومي يثير قلقاً جديّاً لدى العائلة المالكة في السعودية. ببساطة، لأن السلفية السياسية تضمر استبطانات بالغة الخطورة، بما يجعلها بديلاً ناجزاً عن حكم آل سعود،
 
على الضد من قناعات بعض من يقرأ العلاقة بين السلفية بنظام الحكم في السعودية على أنها مصمّمة لدرء التحول الديموقراطي ومواجهة إيران و«الإخوان المسلمين»، فإن من الضروري لفت الانتباه الى أن تلك العلاقة شهدّت تحوّلات دراماتيكية أفقدت النظام السعودي قدراً وازناً من قدرته على ضبط إيقاع الجماعات السلفية. بدأ هذا التحوّل داخلياً، حين انفصلت الطبقة الثانية في التراتبية السلفية منذ أزمة الخليج الثانية وشكّلت خطّاً حركياً واجتماعياً موازياً للطبقة الرسمية، وفيه ترعرعت السلفية الجهادية التي نشطت جنباً الى جنب وفي أحيان كثيرة بتنسيق تام مع شبكة القاعدة. هذا التحوّل الخطير، وضع حداً للصيغة المقررة لعلاقة السلفية بالعائلة المالكة في السعودية، بمعنى أن السلفية لم تعد بالضرورة مصدراً محكماً ومضموناً لمشروعية السلطة السعودية.
 
ما زالت تراهن العائلة المالكة، ومشيخات خليجية أخرى، على أن تكون السلفية مصدراً سياسياً وشعبياً يحول دون انتقال عدوى «الإخوان» الى منطقة الخليج، خصوصاً أن النخب الدينية الأكثر وعياً تستمد زخمها الحركي والسياسي من «الإخوان».
 
لا شك حين يغلق مجال التنافس السياسي بإحكام، بما لا يسمح بعدد متزايد من اللاعبين، أي في ظل استقطاب سياسي وأيديولوجي حاد، لا تعود هناك خيارات مريحة بالنسبة للعائلة المالكة في السعودية، بما يجعل خيار زرع أحزاب سلفية في كل مناطق التنافس داخل المجال السني السياسي نهائياً.
 
حتى الآن، المبادرة السعودية تقتصر على نقل تجربة «حزب النور» السلفي الى خارج حدود مصر، بعد ترسيخ جذوره فيها، فكرياً وشعبياً، وبالتالي تصنيع جناح سياسي لـ«جمعية أنصار السنة المحمّدية» التي نشأت في القاهرة سنة 1926 بدعم من الحكومة السعودية. ومن أعضاء الجمعية من أصبح في «هيئة كبار العلماء» في السعودية مثل الشيخ عبد الرزاق عفيفي، وعبد الرزاق حمزة، فيما أصبح الشيخ عبد الظاهر أبو السمح أول إمام للحرم المكي. المبادرة، في جوهرها، تبتغي من دون ريب الحد من انتشار «الإخوان»، ولكن تحديات التجارب الثورية في الشرق الأوسط تجعل من أي مبادرة مجرد مغامرة، فالاحتماء من موجة الاسلاميين المتجهة نحو السلطة ينطوي على احتمالات راجحة بإصابة السلفيين بالعدوى ذاتها. القبول بشروط اللعبة الديموقراطية يسمح لأحزاب سلفية، ليس التطلّع نحو الوصول للسلطة فحسب، بل وتشجيع سلفيي الداخل على الانتقال بـ «نصيحة السر» الى تجسيد مفهوم «ولاية الأمر»، بحسب التفسير الجديد لدى صقور السلفية السعودية، والذي يجعل العلماء وليس الأمراء هم ولاة الأمر، أي الحكّام.
 
يمكن تكثيف صورة التجاذب السلفي الاخواني في المرحلة المقبلة على أنه الأشد ضراوة في مقابل ما قيل عن صراع سني شيعي، رغم كثرة المحرّضين عليه والمستفيدين منه إقليمياً ودولياً، ولكن صعود «الإخوان» الى السلطة في بلدان الربيع العربي يغذي مخاطر لم تألفها مشيخات الخليج، والسعودية على وجه الخصوص، لأن نقاط الاستهداف صميمية: السلطة والمشروعية والهوية.. والمصير.

copy_r