07-06-2012
الإسلاميون في طريقهم إلى الحكم. الثورة التي أنجبها جيل المعاناة من الشباب
وجيل الرفض للظلم والاستبداد، فتحت لهم الأبواب للإمساك بالقرارات أو المساهمة
فيها. أسئلة كثيرة جديدة تطرح لفهم مسارات الإسلام السياسي ونقدها، بعد إرهاصات
مثيرة للقلق والخوف.. قلق على الديموقراطية وخوف على الحريات وحقوق المرأة،
وتساؤل حول علاقات ينسجونها مع الغرب ونأي بالنفس عن فلسطين... نشرت «السفير»
مساهمتي كل من الشيخ شفيق جرادي والمفكر سعيد ناشيد والدكتور طلال عتريسي
والدكتور قاسم عز الدين والدكتور مشير باسيل عون والأستاذ محمد السماك، ونائب
رئيس حزب الكتائب اللبنانية سجعان القزي والأستاذ هاني المصري، والدكتور أحمد
بعلبكي والدكتور فؤاد خليل، والدكتور جورج قرم (الجزء الأول) والدكتورة ريتا
فرج، وتنشر اليوم مساهمتي الدكتور فؤاد إبراهيم والدكتور جورج قرم (الجزء
الثاني)... على أن نتابع النشر قريباً.
شأن الأغلبية الساحقة في العالم العربي، كان الاسلاميون في السعودية، وحتى
أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، أشدّ ميلاً نحو النموذج المعياري للدولة
الإسلامية الذي جرى تعريفه وشرحه في مصّنفات العلماء، والفقهاء، ومؤرخي
الإسلام. ولذلك، شجعوا المؤمنين على الالتزام بالأحكام المنزلة من السماء،
والنأي بأنفسهم عمّا يعتقد بأنها أفكار غير أخلاقية ودخيلة، مثل الليبرالية
والعلمانية والاشتراكية ومتوالياتها. وحتى ذلك الحين، لا يمكن العثور على أي
مكوّن ديموقراطي في الأدبيات السياسية للإسلاميين في السعودية، دع عنك الإشارة
الى أية حركة إسلامية على الإطلاق تبنّت صراحة الخيار الديموقراطي في
استراتيجية التغيير الخاصة بها. وعلى الرغم من أن الإسلاميين تمسّكوا بأفكار
سياسية طموحة، مثل إعادة إحياء نموذج الأمة الإسلامية، سواء كان ذلك من خلال
الوسيلة الثورية، أو التدرج، فإنهم أغفلوا النقاش حول الديموقراطية.
حينذاك، صوّر الاسلاميون السلفيون في السعودية الديموقراطية بوصفها كائناً
غريباً وفكرة دخيلة ولا بد من مقاطعتها وأيضاً محاربتها. وبالنسبة للإسلاميين
الشيعة بكل ميولاتهم السياسية، يجب أن يقوم نظام الحكومة الإسلامية على مبدأ
ولاية الفقيه.
على أية حال، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، تمّ التخلّي عملياً عن
الخطاب الثوري، واعتماد الاعتدال، والمبادئ الديموقراطية والتغيير السلمي
والتدرّجي، بما ينطوي على اعتراف ضمني بالنظام السعودي، خصوصاً بعد المصالحة
التي تمّت في سبتمبر 1993 بين قادة الحركة الاصلاحية والملك فهد، وأفضت الى وقف
جميع أنشطة المعارضة في مقابل عفو عام عن جميع السجناء السياسيين الشيعة، وعودة
أعضاء الحركة الإصلاحية الى الديار.
بالنسبة للتيار السلفي العام، فقد تمسّك بنموذج دولة تطبيق الشريعة، بما يكفل
دوراً بارزاً لعلماء الدين، كونهم حرّاس الفضيلة والقيم وأحكام الإسلام. وفي
الرؤية السلفية التقليدية، كما صـاغها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إن نموذج
الدولة المنشودة هي التي تلتزم القانون الإسلامي (الشريعة). ويقترح الشيخ ابن
عبد الوهاب ستة مبادئ، فرضها الله على العباد، من بينها تقديم الولاء والطاعة
لمن حكم. ويرى أن استكمال شروط الوحدة يتوقّف على طاعة من حكم وإن كان عبداً
حبشياً. على هذا النحو، تمسّك علماء المدرسة السلفية السعودية بفكرة تقاسم
العلماء والأمراء مسؤولية فرض وتطبيق السياسات المتعلّقة بالشؤون العامة.
رغم ذلك، فرضت ثلاث وقائع سياسية كبرى نفسها على رؤية، وبرامج، واستراتجيات
التغيير لدى الإسلاميين في السعودية:
- وقف إطلاق النار الذي تمّ التوصل إليه بين العراق وإيران في أغسطس 1988.
- انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1989.
- غزو النظام العراقي السابق للكويت في أغسطس 1990.
لقد استحثّت الوقائع هذه جميع الإسلاميين تقريباً في منطقة الخليج لإعادة تقييم
برامجها السياسية، وأدائها في الفترات السابقة. وفي حين أن الإسلاميين في
الكويت والبحرين سارعوا في تكييف برامجهم السياسية لشروط التحوّل السياسي التي
توافرت نسبياً في بلدانهم، فإن الاسلاميين في المملكة السعودية بدأوا بكسر
المحظورات التي فرضها العلماء والحكام السعوديون على السواء لجهة البدء بنقاش
مفتوح حول الديموقراطية والحكم الصالح عموماً.
في هذه المرحلة، من المهم أن نلاحــظ المناظرة الساخنة والجادة حول الصلاحية
الدينــية للتوفيق بين الإسلام والديموقراطية. فقد كانت المؤسســة الدينية تنظر
إلى الديموقراطية باعتـبارها فكرة دخيلة، ومنتجاً صليبياً، وإشراك صنم في
العبادة مع الله. في قراءة لخلفية الرؤية الصارمة نواجه حقيقة أخرى حاسمة،
فالـدور غير المقــيّد للعــلماء وكذا تمدّد نطاق عمل المؤســسة الدينـية،
يعتبر من الناحية الأيديولوجية على تعارض مع التغيير بكل أشكاله. من وجهة نظر
النخبة الدينـية، فإن الإصلاحات السياسية تنطوي أولاً على نيّة خفض دور المؤسسة
الدينية وسلطتها المستقلة وحصّتها في الدولة، وثانياً إن الإصلاحات، إن حصلت،
ستغيّر حتماً طبيعة الدولة، وثالثاً ستقضي على ميول الهيمنة والواحدية، ما يؤول
الى التعددية. وباختصار، فإن المؤسسة الدينية تعارض الإصلاحات، لأنها ستكون
الخاسر الأكبر.
وفي حقيقة الأمر، فإن علماء المؤسسة الدينية الرسمية كانوا مسؤولين عن إجهاض
النقاش حول الديموقراطية، ودعم القمع الذي تمارسه الدولة ضد الاصلاحيين.
يلفت مقتدر خان ، مدير قسم الدراسات الدولية في كلية ادريان، الى صورة المناظرة
الديموقراطية المفقودة، وكتب ما نصّه:
أسرعت الى أحد أعضاء مجلس الشورى في استوديو التلفزيون حيث كنت قد سجلت مقابلة
لمدة ساعة حول الديموقراطية الإسلامية، وقد وبخني لأنني لم أكن نقدياً بالقدر
الذي كنت عليه في السابق. استمعت إليه يوجّه اللوم الى الجامعة (جامعة الإمام
محمد بن سعود على الأرجح) وعلماء الوهابية لكونهم مصدر المشكلة وراء الإرهاب في
العربية السعودية. «كل ما يعلّم»، حسب قوله، «هو أن تكره أولئك المختلفين عنك»
دينياً بطبيعة الحال. «ومن الناحية الاقتصادية، نحن بلد في القرن العشرين ولكن
من الناحية الفكرية نحن في القرن الرابع عشر». نصحته بالتحدث الى بلاده والملك
كما تحدّث لي، بالقدر نفسه وبصوت عال.
الإسلاميون من خلفيات مذهبية متعددة تجنبوا الانتقادات العلنية للنظام السعودي
من أجل عدم استفزاز علماء الدولة الذين سيردّون فوراً للدفاع عن وضعهم والمصالح
التي تربطهم مع العائلة المالكة. ولذلك، تمنع التفسيرات الرسمية للإسلام أي
أحكام غير متوافقة مع الخطاب الديني التقليدي. وعلى الرغم من أن العديد من
الإسلاميين السعوديين لا ينتمون إلى المدرسة السلفية الوهابية، فإنهم يفضّلون
عدم الكشف عن معتقداتهم السياسية. وبالتالي، فإن الخطاب الرسمي الديني كان
المسؤول عن غياب، حتى وقت قريب جداً، كتاب واحد من تأليف إسلاميي السعودية حول
(الإسلام والديموقراطية)، اللهم إلا أن يكون مكرّساً لإثبات عدم التوافق
بينهما.
إن عدم وجود البنية التحتية للديموقراطية يسهّل بصورة حتمية جهود النظام لعزل
المخالفين لفتاوى العلماء، وقمعهم، وحتى اعتقالهم أو إعدامهم. كتبت سامية نخوّل
في مارس 2004:
حين أفتى أعلى سلطة دينية في السعودية (المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل
الشيخ) هذا الشهر ـ مارس ـ بأن الاسلام يمنع الرجال والنساء من الاختلاط في
الأماكن العامة، فإنه يعيد رسم الحدود للإصلاحيين الذين يضغطون من أجل حقوق
المرأة في المملكة المحافظة جداً. هذا يعني أن غياب النقاش الديموقراطي في
السعودية لا يعزى فقط إلى التدابير القمعية للدولة، أو فشل الدولة في تطوير
هياكلها وقنوات المناظرات الديموقراطية، ولكن يعزى أيضا إلى الدعم الديني
الواسع والمستمر الذي يقدّمه العلماء للحكم السعودي.
إن المحاولات التي قامت بها العائلة المالكة لصوغ نموذج مهجّن مستمدّ من النسخة
الأصلية للسلفية، وهو النموذج الذي يمكن تسويقه في الغرب، فشلت في تعزيز
تفسيرات جديدة للإسلام. إن ما عرف بالوهابية الليبرالية تلاشت سريعاً حيث فشلت
في إنتاج فهم جديد للإسلام، والذي يمكن مقاربته ديموقراطياً.
في محاضرة بعنوان (الممتاز في شرح بيان ابن باز)، علّق رمز الصحوة السلفية في
السعودية الشيخ سفر الحوالي على نتائج الانتخابات في الجزائر في 1991 بأن (من
حيث المبدأ، نؤمن بأن الديموقراطية هي من دون شك كفر..).
ولكن جاءت الألفية الجديدة بتحوّلات في الوعي والمنهج أيضاً لدى كثير من
الإسلاميين من كل الأطياف الأيديولوجية والمذهبية والحركية، فقد قبلوا لأول مرة
الانضمام الى شركائهم في الوطن من التيار الليبرالي في عريضة (رؤية لحاضر الوطن
ومستقبله) والتي رفعت في كانون الثاني (يناير) 2003 الى ولي العهد، الملك
الحالي، واشتملت على مبادئ الدولة الديموقراطية بكامل حمولتها.
وفي محاولة لتعزيز خطاب إصلاحي، قدّم مجموعة من الاسلاميين، من مختلف
الانتماءات الطائفية، عريضة في يوم 16 ديسمبر 2003، إلى ولي العهد، الملك
الحالي، تطالب بالملكية الدستورية. ودعت المجموعة القيادة السعودية الى إقرار
الحريات، والحقوق لجميع المواطنين على أساس التقاليد الإسلامية. كما دعت
المجموعة إلى برلمان منتخب وفصل السلطات، وقضاء مستقل، ومنح التراخيص لمنظمات
المجتمع المدني.
وفي هذا المنعطف، ظهر اتجاهان متباينان داخل المجتمع السلفي السعودي قبل بداية
الألفية الثالثة وتأكد ذلك قبل شروع الربيع العربي. وفيــما كانت تميل الغالبية
إلى تشجيع المشاركة في العملية السياسية بهدف الهيمنة عليها، ومن ثم تطبيق
الأجندة السلفية، فإن الاتجاه القاعدي كان يميل الى مقاطعة العملية السياسية،
باعتبارها فاسدة من الناحية الدينية.
وزير التعليم السابق في الكويت الراحل أحمد الربعي انتقد النزعة الانتقائية
للسلفيين في الكويت في اتّباع الفتاوى. وكتب: إذا كانت المسألة هي الانصياع
للفتاوى فالمفروض أن يتم الالتزام بفتوى قيادة السيارة. بل إن هؤلاء السلفيين
كانوا يأخذون على الاخوان دخولهم البرلمان (مجلس الأمة) في السابق، وقد كانوا
ضد دخول الرجل للبرلمان، ثم أفتى زعيمهم ونقل عن الشيخ بن عثيمين، شفاهة
«ادخلوها.. أتتركونها للعلمانيين والفسقة؟».
في ضوء ما تقدم، فإن المناظــرة حول الديموقراطية في السعودية واجهت عقبتين
أساسيتين: دينية وسياسيّة. بالنسبة للإسلاميين السلفيين، فإن تأييد
الديموقراطية سيعتبر تفريطاً بفــتاوى العـلماء، وعليه سيوضع في خانة (الشرك
الصريح)، والذي قد يؤدي الى الكفر، وقد يتم تصنيفه في إطار ردة، وتالياً وضعه
أمام خيارين: التوبة أو العقاب (التعزير والإعدام).
ومع ذلك، فإن الانقسام داخل المجتمع السلفي بعد الحادي عشر من سبتمبر دفع إلى
السطح اتجاهاً جديداً، يميل الى اعتناق مبدأ الديموقراطية وبحماسة شديدة. على
سبيل المثال، قدّم الكاتب السلفي محمد علي المحمود مقالات جريئة في الصحف
المحلية، ينتقد فيها بشدة السلفية التقليدية والمتطرفة، كونها معارضة للثقافة
الديموقراطية.
مثل بعض منظري الديموقراطية، يجادل المحمود بأن الديموقراطية لن تنمو بصورة
طبيعية في التربة التي ليست مستعدة لمثل هذا المفهوم. بعبارة أخرى، إن
الديموقراطية تتطلب بنية تحتية ما يساعد على تعزيز الديموقراطية، أي وجود
منظمات مجتمع مدني، وحرية الصحافة، والتعبير، والاجتماع في سبيل تخصيب الوعي
الشعبي بالديموقراطية (محمد علي المحمود، ديموقراطية ما قبل الديموقراطية،
بداية أم نهاية، صحيفة الرياض، 10 يوليو 2007).
في مصطلحات وتعبيرات غامضة جداً، طالب أعضاء ما يعرف بـ(منتدى الملكية
الدستورية) الذي يقوده الأديب والناشط السياسي عبد الله الحامد، باستعادة مجلس
الشورى من الحكومة. وفيما تعـمّد الحامد تفادي مصطلح الديموقراطية، فإن 99
سلفياً تقدّموا بعريضة الى الملك عبد الله في الأول من نيسان 2007 طالبوا فيها
بتطبيق الإصلاحات التي تبناها في العام 2003، بشأن تطبيق العدل، وحكم الشورى،
وتوزيع الثروة والسلطة، والسماح لمنظمات المجتمع المدني بالعمل بحرية.
ومع اندلاع الربيع العربي، كان التيار الصحوي في السعودية أبرز المعنيين
بالإجابة عن سؤال الديموقراطية في ظل انثيال شعبي عارم في أرجاء البلاد العربية
نحو إسقاط النظام الاستبدادي وإقامة البديل الديموقراطي. وفي أجواء الربيع
العربي الضاغطة، فرضت الواقعية السياسية نفسها بسطوة شديدة على خطاب الإسلاميين
في السعـودية، فبينما بدا الاسلاميون الشيعة والسنة من خارج التيار السلفي،
أكثر استعداداً للترحيب برسالة الثورات العربية، كان على الإسلاميين السلفيين
إجراء عملية تأهيل فكري وسياسي عاجلة لمواكبة المتغيّر التاريخي الكبير.
الشيخ سفر الحوالي الذي شارك في مؤتمر (ولدنا أحراراً) في تونس من 15 ـ 17
كانون الأول الماضي، قدّم موقفاً غير مسبوق من الثورات العربية وأيضاً من
الديموقراطية. وقد ألقى البرلماني السلـفي الكويتي وليد الطباطبائي كلمة
بالنيابة عن الحـوالي ودعا الدول العربية التي لم يزرها الربيــع العـربي (أن
تأخذ العبرة مما جرى وأن تتصالح مع شعـوبها والقيام بإصلاحات شاملة وفتح
المجــال لقــيام أحزاب سياسية ونقابات مهـنية وإقامة انتخابات حرية ونزيهة).
ولفت الطباطبائي في كلمته نيابة عن الحوالي الى التحوّلات الديموقراطـية التي
شهدها العـالم في العــقود الثـلاثة الأخيرة، وإن الدول العربية وحدها (باتت
بعيدة عن رياح الديموقراطية والحرية).
تطوّر آخر برز لدى الشيخ سلمان العودة في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان (أسئلة
الثورة) لجهة مناصرة الديموقراطية باعتبارها (ثمرة التجربة الإنسانية)، حسب
قوله، فلم تعد منذ الآن فكرة دخيلة، بل ثمة ودّية غير مألوفة في المناظرة
السلفية إزاء مقاربة الديموقراطية، ما يلمح إلى شعور مضمر بالندم لمحاربة هذا
المبدأ في السابق، ومحاولة للتكفير بإعلان حرب على الانظمة الاستبدادية التي
رفضت اعتناق هذا المبدأ.
يبدو الآن، ولفرط المزايدات الفكرية والسياسيـة السخيّة في تبني الديموقراطية،
أن قسماً كبيراً من الإسلاميين في السعودية يتماهون بتوق شديد حيناً ومفتعل
حيناً آخر مع الربيع العربي، وإن تطلب كفراً مضاداً للكفر بالديمزقراطية.