07-06-2012
طوى العالم الإسلامي قروناً طويلة وهو يتعاطى مع الأشباه والنظائر في نطاق
مجاله الحيوي الخاص . إذ رغم وجود كل تلك الحروب الخاطفة أو الاستنزافية التي
تتزاحم على صفحات التاريخ ، لم يكن الصدام ذا بُعد حضاري ، ولم تكن المُواجهة
إلا تنافساً على الأرض ، على المَغْنَم ، على توسيع دوائر النفوذ ، وتقوية
وسائط الهيمنة والسيطرة والاستحواذ .
لا شك أن سيطرة التيارات النقلية التقليدية على معظم مسالك ومسارب تشكيل الخطاب
الإسلامي ، هي ما يعكس حقيقة هذا التدهور والتردي في الخطاب الإسلامي ، خاصة
بعد أن تم تجريم وتحقير العقل ، بحيث أصبح الإنسان المُتعقّل موصوماً بالبدعة..
كانت الحياة تكاد تكون واحدة ، بل ومتطابقة ، حتى بين الأعداء . ولهذا كانت
الثقافات متقاربة ومتشابهة ؛ رغم تباينها في المفردات القانونية ، وفي الأدبيات
التي تُسهم في تلوين معالم السلوك العام .
من هنا ، لم يكن ثمة ما يُمكن أن يُشكّل تحدياً حقيقياً ، تحدياً يبحث ويحفر في
أزمة الخطاب التي بدت واضحة منذ السنوات الأولى للتكوين . لم يواجه الخطاب
الإسلامي أسئلة الإنسان ؛ لأن الإنسان لم يكن قد تكون وجوده على المستوى
الثقافي . لم يكن ثمة إنسان ثقافياً ، لا عند الأنا ، ولا عند الآخر . ولهذا لم
تظهر ( لم تظهر كظاهرة ، لا يعني أنها لم توجد أو لم تناقش ) تأزمات الخطاب ؛
رغم توالي الانكسارات والإحباطات ، بل ورغم تراكم تُراث أزمنة التخلف والانحطاط
، وهيمنته على وعي أمة كانت تبدو وكأنها قد بدأت رحلة الاندثار والفناء .
كان الخطاب الديني / الإسلامي ( وهو الخطاب الذي يصوغ الذهنية العامة ، ومن ثم
السلوك العام ؛ بصرف النظر عن مدى قربه أو بعده عن المقاصد الكلية للنص
المُؤسس) في القرن الثاني عشر الهجري أشد تأزماً ، وأعمق بؤساً ، وأدعى للرثاء
مما كان عليه في القرن الثاني الهجري . أي أنه وخلال عشرة قرون كاملة ، لم
يتقدم الوعي العام للخطاب الإسلامي فيها خطوة ( لا عبرة بالاستثناءات التي تؤكد
ولا تنقض الحقيقة العامة ) ، بل كان يبدو وكأنه يتعمد السير إلى الوراء ، السير
في الاتجاه المعاكس لكل ما يمكن أن يعزز حضور ونماء الإنسان .
لا شك أن سيطرة التيارات النقلية التقليدية على معظم مسالك ومسارب تشكيل الخطاب
الإسلامي ، هي ما يعكس حقيقة هذا التدهور والتردي في الخطاب الإسلامي ، خاصة
بعد أن تم تجريم وتحقير العقل ، بحيث أصبح الإنسان المُتعقّل موصوماً بالبدعة ،
بالبدعة التي تعني في العُرف التقليدي أن صاحبها موصوم حتما بالزيغ والضلال ،
ومن ثم ، فهو حري بالنبذ والإقصاء .
انعدام كل صور التحدي ، سواء من داخل مصادر الإسهام في تشكيل الخطاب أو من
خارجه ، جعل الخطاب الإسلامي ( بكل تنويعاته ) يعيش حالة اغتباط كسول بالجهل .
ونتيجة لهذا ، تصور في نفسه الكمال كخطاب ، بقدر ما تصور أن ما تم في المجال
المدني بمباركته طبعا هو أقصى ما يمكن تحقيقه في هذه الدنيا ، هذه الدنيا التي
ليست في خطابه إلا مشروع فناء .
قبل أكثر من قرنين ، اصطدم الوعي الإسلامي بحقيقة تخلفه ؛ عندما أدرك من خلال
حملة نابليون أن الآخر المنافس ، الآخر العدو ، الآخر الذي تتعرف به ومن خلاله
الأنا على ذاتها ، قد بدا وكأنه إنسان آخر ، إنسان قد تجاوز كل ما يمكن أن يدور
في خلده ، إنسان لم يتخيّله ؛ مهما جمح به الخيال ، ومهما كانت براعته في
التخييل .
لأول مرة ، واجه العالم الإسلامي حقيقة تخلفه وجها لوجه ؛ عندما اصطدم واقعياً
وثقافياً بحملة نابليون . وتبعا لذلك ؛ تكشفت أزمة الخطاب الإسلامي كما لم
تتكشف من قبل ، إذ بدا هذا الخطاب لنفسه ولغيره ، لمعاصريه ولمن أتى بعدهم على
امتداد قرنين وكأنه عاجز عن فهم ما يجري ، فضلاً عن قدرته على التأثير إيجابياً
فيما يجري .
منذ رفاعة الطهطاوي ، وإلى اليوم ، اشتغل كثير من المفكرين على محاولات نهضوية
متعددة ، متعددة ومتنوعة على مستوى الفكر وعلى مستوى الواقع . حاول كثيرون
إجراء تعديلات نوعية في الخطاب الإسلامي ؛ بغية انتشاله من قبضة قرون التخلف
والانحطاط ؛ بواسطة التثاقف الإيجابي مع آخر ما أسهم به الإنسان في ثقافة
الإنسان . لكنها وللأسف باءت بالفشل بمستويات مختلفة ؛ رغم ما حققته من استثارة
أو استفزاز للوعي في هذا السياق المعرفي أو ذاك . أي أنها لم تحقق ، ولم تقترب
من أن تحقق ، معالم رؤية يمكن أن تكون سبيلا إلى انتشال الخطاب الإسلامي من
أزمته الخانقة التي جعلته بين خياري : التحلل أو الانغلاق .
كثيرون هم الذين حاولوا خلق خطاب إسلامي مستنير . النيات كانت متوفرة على تجاوز
هذه الأزمة التي يعترف بها الجميع ؛ إلا من أعماه التقليد وأصمه التبليد . لكن
، بقيت القدرات هي التي تمثل التحدي الحقيقي لإنجاز مثل هذا المشروع الكبير .
فالذين تصدوا لمثل هذه المهمة ، كانوا ، إما متمكنين من التراث الإسلامي الكبير
الممتد زمنياً على مساحة أربعة عشر قرناً ، في مقابل جهل ، أو اطلاع عابر لا
ينفي الجهل ، على ثقافة العصر ، وإما متمكنين من ثقافة العصر ، في مقابل جهل ،
أو اطلاع عابر لا ينفي الجهل ، على تراث لا يزال هو المتحكم الأول في العقول .
إذا كان من المستحيل تشكيل خطاب استنارة حقيقي ؛ ما لم يكن الفاعل التنويري
مستوعبا ( والاستيعاب غير المعرفة ) ثقافة العصر بكل فسلفاتها وتشكلاتها
المعرفية والعلمية ، ومطلعاً على جذور هذا التشكل في التاريخ القريب والبعيد ؛
فإنه يستحيل أيضا خلق خطاب استنارة من خلال ثقافة ما ؛ ما لم يكن الفاعل
التنويري مستوعبا تراث هذه الثقافة ، بكل ما ينطوي عليه هذا التراث من إشكاليات
وتأزمات وتجاذبات سياسية وعرقية تمتد أسبابها وعللها من نقطة النهاية في هذه
اللحظة الراهنة ، نزولاً إلى العمق الغائر لتاريخنا العربي / الإسلامي المجيد .
ربما حقق أصحاب المشاريع الثقافية الكبرى شيئاً من هذا الجمع المأمول بين طرفي
المعادلة . لكن ، ولأنهم بعيدون عن إشكاليات الأسلمة المباشرة ، وغير مهتمين
بالتواصل المباشر مع الجماهيري الإسلامي ، فقد بقي خطابهم نخبوياً من جهة ،
ومحل ارتياب من جهة أخرى ؛ مما أدى إلى فشلهم في إنتاج خطاب إسلامي مستنير (
ربما لأنه لم يكن هدفاً أصيلاً في مشاريعهم ) ، خطاب قادر على تغيير وعي
الجماهير من خلال المفردات الثقافية الحاكمة لوعي هذه الجماهير .
لنقلها وبصراحة : إن إنتاج خطاب إسلامي مستنير ، يحتاج إلى عالم إسلامي ، إلى
شيخ دين ، إلى رجل دين موثوق . أي إلى رجل يعتلي المنابر ، ويصلي الجُمع بالناس
، يخطب الناس ويفتيهم في دقائق دينهم . رجل كهذا ، إذا ما امتلك ثقافة أصحاب
المشاريع أو ما يقاربها ، يستطيع الإسهام إسهاماً حقيقياً في صناعة خطاب إسلامي
مستنير قادر على الدخول بالمسلمين على عصر ديني جديد .
أزعم أنني وجدت هذه العملة النادرة ، هذا الإسلامي المستنير . ففي يوليو عام
2003م كنت في زيارة للنمسا . في يوم الجمعة ، وفي العاصمة ( فيينا ) سألت عن
الجامع الذي يمكن أن يكون قريبا مني للصلاة . أجابني أحدهم : يوجد المركز
الإسلامي ، وخطبته تقليدية ، ويوجد خطيب آخر ، خطيب رائع ، ولكن خطبته قد تطول
إلى ما يتجاوز الساعة والربع . سألته : ساعة وربع ؟! ، ماذا يقول فيها ، مللنا
من الهذيان والصراخ الذي يصم الآذان . قال لي : لا ، إذا لم يكن لديك مانع من
طول الخطبة أصلاً ، فستجد الخطيب خطيباً مختلفاً جدا . ثم ضحك ساخراً ، وقال :
ستجده يَذكر أحبابك من الفلاسفة والمفكرين الغربيين ، ستسمع في الخطبة أسماء كل
من : ( جان لوك ) و ( كانت ) و ( هيجل ) و( باسكال ) و( فولتير ) و( أرسطو ) و
( جون ديوي ) و( ماكس فبيبر ) ، و( توماس هوبز ) ..إلخ ، ستسمع لأحدث النظريات
العلمية على منبر الجمعة ، ومن خطيب موسوعي في التراث الديني ، بحيث يحفظ آلاف
الأحاديث النبوية ، ويعرف الصحيح منها والمعلول والموضوع ، فضلاً عن حفظه
القرآن مُجوّدا ، ومعرفته بالقراءات ...إلخ ما قال .
في البداية ، تصورته شيخاً تقليدياً متمكناً من التراث الديني ، وأن معرفته
بالفلسفة لا تتعدى الاطلاع السطحي ، وأن استشهاده بهؤلاء الفلاسفة وغيرهم لا
يتعدى استحضار مقتطعات من أقوالهم كحِكم معزولة من سياقها المعرفي ، أي كمقولات
مجتزأة ، لا يَقصد بها الخطيب إلا أن يعضد بها وجهات نظره التقليدية . هكذا
تصورته في البداية ، قبل أن أذهب للصلاة ، وأستمع لأفضل وأروع خطبة سمعتها في
حياتي من إمام جمعة على الإطلاق .
بمجرد انتهاء الشيخ ( عدنان إبراهيم ) من تلك الخطبة التي اجتمع فيها الإمام
مالك وأبو حنيفة والبخاري والغزالي مع هيجل ونيتشه وسارتر ، أن الرجل ( عدنان
إبراهيم ) يتكلم عن اطلاع واسع مستوعب للتراث من جهة ، ولثقافة الآخر من جهة
أخرى . لم يكن هؤلاء الفلاسفة يحضرون في الخطبة بأقوال عابرة ، لم يكن يدمجهم
في خطبته لمجرد الاستشهاد المقطوع ، بل كان يستحضرهم كسياقات نظرية عامة ،
كسياقات لها امتداداتها في المجتمع والثقافة والتاريخ ، ولها القدرة من جهة
أخرى على الإسهام في تشكيل نظريته الخاصة ( إيجاباً أو سلباً ) في الموضوع الذي
يطرحه للنقاش ؛ لأنه دائماً ما يطرح رؤيته كوجهة نظر ؛ رغم قوتها العلمية
المتمثلة في تماسكها النظري الكبير .
وجدت نفسي بعد الصلاة أتقدم إليه مصافحاً وأقول له : هنيئاً لهؤلاء المصلين بك
. شكرني بتواضع كبير ، فالرجل شديد الحياء ، شديد التواضع ؛ رغم اعتداده العلمي
بنفسه . وهذا ( الاعتداد العلمي ) لا ينفي ذاك ( التواضع ) ضرورة ، بل ربما
يكون أحد دوافعه الأساسية ؛ لأن العلم الحقيقي يقود إلى الوعي بالذات . كما أن
الوعي بالذات شرط اكتمال العلم ؛ لأن العلم من حيث هو فعل وموضوع فعل في آن ليس
إلا وعيا مرتبط ارتباط وجود بالإنسان .
سألته : ألا تسجل خطبك ؟ ، قبل أن يجيبني أجابني رجل بجانبه : تعال إلى هنا .
أدخلني غرفة في قبلة المسجد ، وكانت مكتبة سمعية مليئة بأشرطة الكاسيت التي
كانت خطباً ودروساً ومحاضرات لهذا الخطيب الاستثنائي ( الشيخ : عدنان إبراهيم )
. وجدت المحاضرات والدروس موزعة على مواضيع معرفية شتى ، من الفقه وأصول الفقه
إلى الفرائض ومصطلح الحديث والتاريخ والنحو والصرف والبلاغة والفكر الإسلامي
والفتاوى العامة والفلسفة والنظريات العلمية ...إلخ ، وكلها مما ألقاه هذا
الشيخ / العالم / المفكر في هذا المسجد تبرعا لوجه الله .
أخذت معي أكثر من عشرين شريطاً في مواضيع مختلفة ، على أمل أن أتواصل معهم فيما
بعد للحصول على المزيد . اكتشفت من خلال ما أخذته معي أنني أمام عالم شرعي
موسوعي ، ومفكر إسلامي عصراني من نوع فريد ، من نوع قلما يجود الزمان بمثله .
ولهذا بدأ يتشكل لديّ يقين جازم بأنه رجل استثنائي ، رجل سيكون له بفضل
موسوعيته العلمية العالية ، وشخصيته المتميزة ، وموقعه في العالم الغربي دور
كبير في رسم معالم مستقبل الإسلام .
صحيفة الرياض