اشار تقرير بثته وكالة انباء رويترز الاسبوع الماضي الى تعاظم دور الدين في
الحياة العامة بالدول العربية، استنادا لنتائج الانتخابات البرلمانية التي
اجريت في الشهور الاخيرة في كل من تونس ومصر. وقد فاز الاسلاميون في الانتخابات
المغربية كذلك.
وهذا الفوز ليس ظاهرة جديدة بل هي قائمة منذ سنوات. وفي العراق هيمن الاسلاميون
على الانتخابات (من الشيعة والسنة) وكذلك في الانتخابات الكويتية الاخيرة. ان
تنامي دور الاسلاميين ووجودهم في الحياة العامة لم يحدث بعد انتخابات البلدين
اللذين تصدرت ثورتاهما الربيع العربي، بل ان اخوان مصر كانوا انفسهم في طليعة
الفاعلين السياسيين في الثمانينات.
وعندما حدثت الكوارث الطبيعية كانوا حاضرين في الميدان الى المستوى الذي اقلق
الغربيين آنذاك وجعلهم يهرعون لتقديم النصيحة لحكم مبارك بالاهتمام بالرعاية
الاجتماعية التي ابرزت حضور الاخوان. وليس جديدا القول بان انتشار الظاهرة
الدينية في الحياة العامة ارتبط زمنيا بثورة ايران التي قادها الامام الخميني
قبل اكثر من ثلاثين عاما وادت الى اسقاط ابرز رموز الهيمنة الغربية، السياسية
والايديولوجية. بل ان المظاهر الدينية كانت حاضرة في المملكة العربية السعودية
منذ عقود، ومجموعات 'الامر بالمعروف والنهي عن المنكر' التي كانت تمارس دور
الرقابة على المواطنين في السعودية ليست جديدة، بل كانت تمارس دور الرقابة
الصارمة على المواطنين منذ تأسيس الدولة السعودية قبل ثمانين عاما. ومع ذلك لم
يكن ذلك مثيرا للغضب الغربي، الا في الاطر الضيقة.
نعم كانت هناك ثقافة 'التنميط' التي تظهر الانسان العربي في الرسوم
الكاريكاتيرية وهو يقود الجمل او يمتطيه، ووراءه اربع نساء ملفعات بالسواد.
هذه الصورة النمطية استبدلت في العقود الاخيرة بالرسومات التي توحي بالعنف
والارهاب المرتبط، في نظر الغربيين، بالدين. كانت الخشية آنذاك ذات طابع ثقافي
حضاري اجتماعي منطلقة ضمن الفوارق في معايير التقدم العلمي والحضاري، وليس ضمن
منطق التوازنات السياسية. ولا بد من الاشارة الى ان إشكالية السياسة الغربية مع
الدين ليست محصورة بالموقف من الاسلام الثوري. بل ان المسيحية الثورية هي
الاخرى تواجه رفضا من المنظومة السياسية الغربية. فعندما تبنت الكنيسية
الكاثوليكية في امريكا اللاتينية في الثمانينات ما اطلق عليه 'لاهوت التحرير'
تصدى لها بابا الفاتيكان (جون بول الثاني) وحدثت ازمة كادت تعصف بالكنيسة، لان
البابا السابق عرف بقربه من السياسة الامريكية في عهد الرئيس السابق رونالد
ريغان.
فما الجديد بين ذلك 'الدين' الذي ازعج ظهوره على نطاق واسع في الحياة العامة
العالم الغربي آنذاك و'الدين' الذي تقبله امريكا اليوم او على الاقل تستطيع
التعايش معه ولا تسعى لمواجهته عسكريا وامنيا بشكل مكشوف؟ قد يقول البعض ان ما
كان يقلق الغربيين السجال المتواصل حول 'الشريعة' مفهوما وتطبيقا، وان تطبيقها
كان يقض مضاجع الغربيين الذين يعتقدون ان جوانبها الاجرائية تتناقض مع قيم حقوق
الانسان ومبادئها، وان قوانين العقوبات المؤسسة على الشريعة ومن بينها قطع يد
السارق ورجم الزاني مثلا، امور مقززة لا تتناسب مع الذوق الغربي الحديث. ولكن
ألم تكن هذه 'الشريعة' جوهر قوانين العقوبات في السعودية قبل ان يطرح ما اصطلح
على تسميته لاحقا 'الاسلام السياسي'؟ فهل كان ما أقض مضاجع الغربيين بعد الثورة
الاسلامية في ايران عزمها على تطبيق القوانين الجنائية المؤسسة على الشريعة؟
وهل تنازل ايران عنها اليوم مثلا سوف يجعل الغربيين أكثر قبولا للجمهورية
الاسلامية؟ وبمعنى آخر: ما هي الابعاد التي ينطوي عليها الانتماء للدين ولكنها
غير مقبولة لدى الرأي العام الغربي؟ وهل ان المشكلة في هذا 'الرأي العام' ام في
الطبقات المثقفة والمهنية؟ ام في دوائر الضغط المتداخلة؟ ام النخب السياسية؟ ان
صعود اليمين المتطرف لم يأت من فراغ، بل تمت تغذيته بالتحريض الاعلامي المتواصل
في وسائل الاعلام وعلى السنة السياسيين، خصوصا في العقدين الماضيين. كما ان
اخطاء الدول الغربية تساهم بشكل مباشر في اذكاء الحماس والروح الجهادية في نفوس
الجماهير المسلمة. ومن هذه الاخطاء استهداف الاسلام في مقدساته الاساسية خصوصا
شخص نبيه الكريم وقرآنه المجيد. فما هي وجوه الحكمة او المنطق وراء حرق نسخ
القرآن الكريم في افغانستان على ايدي الجنود الامريكيين؟ لقد ادى ذلك لاحتجاجات
معادية للامريكيين كانوا في غنى عنها لو كان لديهم حكمة او انسانية. ولكن حالة
الغرور والتعصب دفعتهم لارتكاب تلك الجريمة الحمقاء التي ادت لمقتل العشرات حتى
الآن في الاحتجاجات الغاضبة بسببها. وما هو الدافع لنشر رسوم مسيئة لنبي
الاسلام في الصحف الدنماركية؟ وما الذي يدفع الغربيين لاستهداف الحجاب مثلا؟
التقرير الذي بثته وكالة رويترز يتضمن مؤشرات قد تساعد على اجابة هذه
التساؤلات. فقد تطرق لبعض تصريحات المسؤولين الكبار في كل من مصر وتونس حول
قضايا الشريعة والانتخابات الرئاسية ودور الدين في التشريع السياسي والحياة
العامة. ومع تشديد التقرير على دور الشريعة الا انه لم يركز على مسائل الحدود
وقوانين العقوبات المؤسسة على الشريعة. ولذلك لم يكن التقرير سلبيا جدا تجاه ما
اسماه 'عودة الدين'، مع تلميحه الى ان 'الاسلاميين' تدرجوا في طرح مشروعهم ذي
البعد الديني وحاولوا في البداية الايحاء بمرونة كبيرة وعدم الاصرار على الطرح
الديني. كما انه بدا متفهما لموقع الدين في الحياة العامة لبلدان المسلمين. مع
ذلك يمكن ملاحظة حالة القلق ازاء ما يستتبع تصاعد البعد الديني في الممارسة
السياسية، خصوصا بلحاظ زخم هذا البعد في كافة البلدان العربية والاسلامية بدون
استثناء. الغربيون سعوا بكل قوة لمواجهة المد الديني في بعده السياسي الذي
انطلق من ايران، والذي اصطلح على تسميته 'الاسلام السياسي' على امل وقف انتشار
ظاهرته، ولكنهم ادركوا الآن استحالة ذلك، فكان عليهم ان يختاروا واحدا من
امرين: فاما الاستمرار في استعداء الاسلاميين واظهار التصدي لمشروعهم السياسي،
او مسايرة اطروحاتهم ومحاولة احتواء آثارها العملية خصوصا على مستوى التوازن
السياسي والاستراتيجي في المنطقة. هذا لا يعني ان الغرب اعترف بهزيمة امام مد
الاسلام السياسي، بل يشير الى ادراكه عدم امكان وقف ذلك المد، وان الخيار
الافضل السعي لاحتوائه واضعاف بريقه واشغاله داخليا بما يمنعه من التمدد. كما
يرى الغربيون ان هذا التمدد قد يكون ظاهرة دورية على غرار صعود الايديولوجيات
وهبوطها، وان الاسلام يعيش دورة من المد سوف يعقبها حالة من الجزر في المدى غير
البعيد. فاذا كان الامر كذلك، حسب منظورهم، فسوف تتوفر لهم فرصة اخرى لاستعادة
المبادرة في الصراع الفكري والاستراتيجي لمواجهة المد الاسلامي القادم من
الشرق.
ولكن المشكلة ابعد من ذلك واكثر تعقيدا. وسوف يرى من يعتبرون انفسهم 'اسلاميين
معتدلين' في مصر وتونس انهم مستهدفون من هذا الغرب المتحالف مع 'اسرائيل' في
المستقبل غير البعيد لسبب اساسي وهو تشبثهم بما يسميه الغربيون 'الاسلام
السياسي'. فمشكلة الغربيين ليست مع الاسلام الذي ترعاه مجموعات 'الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر' السعودية التي تؤدي اساليبها لاحتقانات مجتمعية، ولا مع
اسلام طالبان عندما استولت على السلطة في افغانستان قبل خمسة عشر عاما، وفرضت
نمطا ظلاميا من الدين، ولا مع الاسلام المتطرف الذي لا يستطيع ان يتحول الى
ثقافة مجتمعية عامة بل يبقى محصورا في قطاع الشباب المتحمس الذي سرعان ما يقع
بايدي اعدائه ضحية لغياب الطرح المنطقي العميق، اما باساليب الاحتواء السياسي
والمادي او بالاستئصال بالطرق السياسية او الامنية. الاسلام السياسي المرفوض
ليس ذلك التدين الشكلي الذي يدفع صاحبه للوقوف في البرلمان المصري ورفع الاذان
برغم اعتراض رئيس الجلسة الذي لا يقل عنه اسلاما. الاسلام الذي يرفضه الغربيون
ليس ما تعمل بعض المجموعمات السلفية لاقامته في مدينة جندوبة التونسية التي
شهدت الاسبوع الماضي مواجهات عنيفة بين قوات الشرطة التي تعمل بإمرة وزارة
الداخلية التي يديرها علي العريض، وزير الداخلية من حزب النهضة ومجموعة من
السلفيين غير واضحي الاهداف والمنطلقات. هؤلاء رفعوا شعار اقامة امارة اسلامية
على غرار ما مارسته طالبان في افغانستان سابقا وما اقامه تنظيم القاعدة في ارض
الرافدين. الاسلام السياسي الذي ترفضه امريكا والغرب هو ذلك التوجه الذي يدفع
الامة للاستقلال والتحرر من التبعية للغرب او الارتماء في احضان المستعمرين
والمحتلين، او يعترض على بناء القواعد الاجنبية في اراضي المسلمين، او يدعم
بدون حياء احتلال اراضيهم بالقوة الغاشمة او اغتصاب ثرواتهم بالابتزاز
والاستضعاف، او يسعى للتعامل مع الغربيين على اساس المساواة والاحترام
المتبادل. انه ذلك الطرح الايديولوجي الذي يعتبر الانسان في صراع دائم مع القوى
التي تستضعف بقية البشر وتنتهك انسانيته وتستهين بكرامته وبارضه وثروته وحقوقه.
المشروع الاسلامي ليس مشروعا معاديا لاحد ولكنه ليس انبطاحيا او مساوما. انه لا
يقر العدوان على احد ولكنه ايضا لا يقبل بان يكون الانسان (ايا كان دينه او
عرقه) ضحية لذوي الاطماع الشريرة. الرهان الغربي كان، وما يزال، على وجود خطين
اسلاميين متباينين (شيعي وسني) ازاء قضايا الامة المصيرية، خصوصا ازاء قضية
فلسطين والنفط والعلاقات مع الغرب وما يعتبره من 'شراكة' اقتصادية وعسكرية.
ولذلك كان يعمل، وما يزال، على تكريس ما يعمق الخلاف خصوصا على الاصعدة
الطائفية والعرقية والايديولوجية السياسية.
التوجه الغربي في الوقت الحاضر يسعى لخلق واقع جديد في المنطقة على خلفيات
عديدة: اولها انه يعتقد انه استطاع وقف المد الثوري بدخوله المباشر على خط
الثورات بعد سقوط نظامي بن علي ومبارك، فاصبح عراب التغيير الذي رفعت الثورات
لواءه. قام بذلك لمنع تكرر سيناريو التغيير في ايران الذي قضى على النفوذ
الامريكي في ذلك البلد الكبير بعد اسقاط اكبر دعامة لسياسات واشنطن في الشرق
الاوسط. ثانيها: ان الوضع، في نظر الغرب (امريكا وبريطانيا على وجه التحديد)
يقتضي ايجاد محور 'اسلامي' بديل، فيصبح 'الاسلام الملكي' الذي يتشدد في الطقوس
والشكليات ويتساهل في منطقة 'الاسلام السياسي'، وذلك لمنع حالة الاستقطاب
الايديولوجي التي احدثها طرح المشروع الاسلامي السياسي الحديث قبل ثلاثة عقود،
وليحدث ثنائية مزعجة على صعيد الامة. الغرب لا يرى مشكلة مع الاسلام الذي
يستسلم للاستعباد ويمنع اتباعه من الثورة على الحاكم الجائر وان جلد الظهور
وسلب الاموال وتجاوز الحدود. ثالثها: ان بالامكان التعايش مع 'الاسلام الملكي'
بسهولة، وقد تعايش الغرب وفق شروطه مع الاسلام الملكي عقودا، وتعامل مع ممثلي
ذلك الاسلام، ولم يعتبرهم خطرا على مصالحه. بل انه يدعمهم حتى هذه اللحظة ويحول
دون وصول لهب الثورات الى قصورهم. هذا الغرب تصدى لصدام حسين وقواته عندما عبرت
الحدود الى الكويت، واعتبر ذلك خطا أحمر، ولكنه 'يتفهم' اختراق القوات السعودية
الحدود الدولية مع البحرين وارسال قواتها لقمع ثورة شعب ذلك البلد بذرائع لا
تصمد امام الادلة والوقائع. وهذا الغرب يتصدى للقوات السوفياتية عندما تخترق
حدود افغانستان (وان كان ذلك بدعوة رئيسها آنذاك، بابراك كارمل) ويدعم
المجاهدين للتصدي للقوات السوفياتية، ولكنه يعتبر من يقاوم الاحتلال الاسرائيلي
في فلسطين 'ارهابيا'. فليس لدى الغرب مشكلة في الطرح الديني اذا انحصرت آثاره
ضمن حدود الممارسات الفردية داخل المجتمعات التي يطبق فيها 'الاسلام الملكي'،
ولكنه لا يقبل بـ 'الاسلام السياسي' الذي تمثله الحركات التي فازت في انتخابات
بلدانها بعد التغيير، الا اذا ضمن انها لن تختلف عن الانظمة التي سبقتها في
قضايا عديدة مهمة. من هذه القضايا الاصرار على استقلال القرار السياسي، والسعي
للاعتماد على النفس في مجالات الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا وقضايا الدفاع
والعلاقات الخارجية، والاصرار على القطيعة مع 'اسرائيل' برفض التطبيع معها
والمطالبة بالتحرير الكامل لاراضي فلسطين. انه سيرفض الاسلام الذي يصر على
تفعيل دور الامة والجماهير في ضمان الاستقلال والبناء والتنمية، بعيدا عن
ألاعيب غرف الدبلوماسية المغلقة التي تباع فيها الاوطان وتصادر الحريات ويعتدي
على الانسان.
امام هذه الحقائق يجدر بالاسلاميين استيعاب حقيقة الموقف الغربي مما يسميه
'العودة الى الدين'. فالدين الذين يقبلون به ليس له لون او طعم او رائحة، انه
'الدين الملكي' الذي يحصر الظاهرة الدينية بالطقوس ويبيع الاوطان وكرامتها
للاجنبي، ويفتح اراضيه للاحتلال والقواعد العسكرية والاستغلال، ويعيش في القصور
بعيدا عن هموم الناس وتطلعاتهم. ومع الاعتراف بالضغوط الاقتصادية في بلدان
الثورات فمن الخطأ الكبير الوقوع في شراك الحاجة المالية والقبول بعطايا دول
'الاسلام الملكي' فذلك هو الطريق للاستكانة والخضوع وفقدان الاستقلال والحرية.
وليحذر 'الاسلاميون' من الوقوع اسرى الحاجة، فينحازون لـ 'الاسلام الملكي' الذي
أضاع الامة وأفقدها عزتها وأضعفها بالتشطير السياسي والمذهبي حتى ذهب ريحها
وفقدت سيادتها على اراضيها في غفلة من الزمن. ان الوعي اليوم مطلوب اكثر من اي
وقت مضى لكي لا تنتصر قوى الثورة المضادة وتهزم ثورة الشعوب ومعها دماء
الشهداء.
القدس العربي