gulfissueslogo
د.فؤاد إبراهيم
تحولات السلفية السعودية
صراع السياسة في ساحة العقيدة: السلطة والمشايخ ومستلزمات النساء
د.فؤاد إبراهيم

صحيفة السفير  - 28-01-2012 - 30-01-2012

بمثابة مارد غير موجّه، انطلقت السلفية بأشكالها المتعددة في ظل ربيع عربي بلغ سخاءه حد فتح الباب على مصراعيه أمام التنافس الحر والكسب السياسي المشروع وغير المشروع..
وعلى النقيض من ضدّها النوعي، تنساق السلفية الى الربيع العربي بكرم من جانب واحد، وسيكون نضوب الكرم دليلاً إضافياً عمّا لو ابتلعها الربيع العربي الذي يتنافر مع العقل السلفي ولا يعبر عن هويته، ولا تطلعه. فقد اعتادت السلفية الجهادية، كتظهير عملاني للسلفية التقليدية، صوغ المجتمع المضاد الذي يؤسس ليوتوبيا الدولة الدينية، ولكن في الربيع العربي قبلت السلفية الحركية الإذعان، طوعاً أو كرهاً، لنموذج الدولة المدنية (بحمولتها الديموقراطية/العلمانية).
وعلى طريقة سارتر في تحليل جدلية العلاقة بين المادية والثورة، فإن الإختلاف بين السلفية والربيع العربي يعكس الاختلاف بين ذكائهما، باعتبارهما فعلين عقليين، وهذا صحيح، لكنه يشي، في الوقت نفسه، بمدى قدرة كل منهما على الانفتاح على الآخر، أو بالأحرى استغلال كل منهما للآخر.
فالسلفية السياسية المحاصرة بنصوص غابرة ومغلقة، تسعى الى وضع نهاية حاسمة للتردّد في التماهي مع الواقع، لكن دون التحرر من الموروث النقلي، الذي تعكسه فتاوى السلفية المحافظة النابذة لكل أشكال التفاعل مع المتغيّر السياسي، مهما بلغت فرصه الاستثمارية الناجحة.
ليس من تكهّنات على انفراط عقد السلفية الذي كان موحّداً في عهد سالف، لكن ثمة اختبارات صعبة خاضها السلفيون بكل أطيافهم، حفّزت «جينات» التباين الفطري بين الآدميين، وأفضت إلى انفصال مجموعات سلفية جديدة عن المنظومة الأم، فراحت تبشّر بأشكال سلفية متباينة حيناً ومتضاربة حيناً آخر. وكلما طال أمد الانتقال وعصر التحوّل أنجبت المنظومات الأيديولوجية كيانات فرعية قد تحمل في الظاهر السمات الوراثية للعقيدة الأم، لكن بسبب انغلاق النص وصرامته يصبح الانحياز قيد أنملة عن المركز ضياعاً وضلالاً مبيناً. ويبرز حينئذ السؤال التقليدي بنبرته اليائسة: هل يعتبر بلوغ بعض السلفيين أهدافهم مبرراً لتخريب السلفية الأصلية؟ بإمكان المرء أن ينتمي في عدّة مجموعات ومنظّمات في وقت واحد، إلا حين يكون عضواً في جماعة أيديولوجية (كاشتراكي ورأسمالي)، أو طبقة اجتماعية معينة (كغني وفقير)، فحينئذ يصبح إغلاق شبكة المشاعر ضرورة وجودية. وينسحب الحال على التشقّقات داخل المنظومة الواحدة، كأن يكون سلفياً محافظاً وسلفياً حركياً في وقت واحد!
السلفية في السعودية تمثّل مصدر المشروعية الدينية للنظام، وفي الوقت نفسه أيديولوجية السيطرة إلى جانب الجهازين الأمني والعسكري، ولذلك، فإن تأكيد ملوك السعودية منذ عبد العزيز، المؤسس، وصولاً الى الملك عبد الله على سلفية الدولة السعودية يعني في حدّه الأول أن أيديولوجيا الطبقة المسيطرة هي الأيديولوجيا السائدة، لأنه بواسطتها يتم، بحسب راكيتوف في (أسس الفلسفة): (إقحام الآراء والتقويمات والأفكار والتصورات التي تبرز وتعزّز هذه السيطرة في وعي الطبقات الأخرى. فمن دون امتلاك وعي الجماهير وبالاعتماد على القوّة المسلّحة والبيروقراطية فحسب، ما كان بإمكان أي طبقة مسيرة أن تحتفظ بالسلطة).

بيريسترويكا طائشة

في الظاهر، قد تبدو السلفية كما لو أنها تشهد بيريسترويكا طائشة، مع كسوف المرجعية السعودية للعقيدة السلفية، في ظل ميولات متنامية نحو تحفيز بعد «حركي» أو «سياسي» للمجموعات السلفية المراهقة سياسياً. هناك من يحمّل تيار الصحوة الذي تشكّل في تسعينيات القرن الماضي، عقب احتلال الكويت في آب (أغسطس) 1990 وزر «نزع رداء القداسة» عن «كبار العلماء» في السعودية، منذ طوّر مشايخ الصحوة مفاهيم في الحركية السلفية لناحية (إعادة أسلمة الدولة) السعودية، متجاوزين تقنيات التناصح بين العلماء والأمراء، ما اعتبره كبار العلماء خرقاً للمحرم السلطاني السلفي، وتجاوزاً لمرجعيتهم.
على السطح، يبدو ثمة صراع أجنحة متصاعد، تمثّل السلفية مادة تجاذب رئيسة فيه، وإن كان التجاذب مفتوحاً على أفق أوسع مما قد يتخيّل المرء. وسنحاول هنا الإضاءة على محطّات في هذا الصراع في محاولة لاسكتشاف المديات المحتملة لتقلّبات السلفية محلياً وخارجياً. وسنبدأ بفرضية مدى زمني قريب لصراع الأجنحة، دون إغفال ذيوله السالفة، تكون فيه حقوق المرأة الاجتماعية والسياسية موضوع التجاذب الظاهري بين الجناحين الحاكمين في السعودية: جناح الملك عبد الله، والجناح السديري الذي يقوده حالياً ولي العهد ووزير الداخلية الأمير نايف.
فقد أصدر الملك عبد الله في 24 إيلول (سبتمبر) من العام الماضي قراراً بمشاركة المرأة (في مجلس الشورى عضواً، اعتباراً من الدورة القادمة..) وشمل ذلك مجالس البلدية، نصف المنتخبة. ورغم أن هذه المجالس لا تمثّل في الميزان الديموقراطي ثقلاً لافتاً يعبأ به، ولم يحظ القرار بترحيب المعنيات، أي النساء، دون سواهن، لكن هي بالنسبة للحليفين المتساندين: الأمراء والعلماء (قضية جوهرية) وللمتضرر (فاجعة) دينية، في الظاهر على الأقل.

شيخ ضد الملك؟

في رد فعل على القرار، انبرى أحد علماء الدين المقرّب من الجناح السديري، الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق وعضو هيئة كبار العلماء حالياً، ليطلق موقفاً لاهباً ضد قرار الملك، يستبطن نزع الأهلية عن الأخير. اللحيدان خرق التابو السلفي في توجيه النصيحة لولي الأمر، وبدلاً من الامتثال لمبدأ (نصيحة السر)، بحسب الأدبيات السلطانية السلفية، جهر بنقده لقرار الملك على شاشة التلفزيون. ولفت اللحيدان في برنامج (الجواب الكافي) الذي تبثّه قناة (المجد) الفضائية السلفية في 30 أيلول (سبتمبر) الماضي إلى أن الملك ما كان عليه استشارة أحد في موضوع المرأة وإلا يكون (ليس أهلاً للولاية). وقال (بالنسبة لي كان بودي أن الملك لم يقل انه شاور هيئة كبار العلماء أو بعضهم، كان بودي أنه لم يذكر أحداً..)، وقال انه عضو في الهيئة، بل أقدم أعضائها الى جانب عبد الله المنيع، ولم يستشره الملك، ووجّه كلاماً للملك (على ولي الأمر ان يتقي الله في من يختاره وأن يتقي الله في الجمهور يحرص على حماية عرضه..)، وأوضح (ولي الأمر المحدود الولاية إذا ارتكب أمراً ليس في الشرع تحريم له يلتمس له فيه العذر أما المحرّمات فلا يؤذن لأحد).
في الظاهر، تبدو مجاهرة اللحيدان بالرأي على علاقة برد اعتبار فردي، وقد تفشي صورة السلطة الشمولية الذي يحملها لموقع ولي الأمر، صاحب السلطة المطلقة في صنع السياسات والقرارات المصيرية والعامة، خصوصاً حين يحسب عودة الحاكم الى الشعب طلباً للمشورة نقطة وهن وتفريط في مبدأ ولاية الأمر، ولكن علاوة على كل ما يحتمله كلام اللحيدان من أبعاد، فإن مجرد البوح به يحمل دلالة ما هامة.
ردّ جناح الملك عبد الله على موقف اللحيدان، في تصريحات لوزير العدل، وعضو هيئة كبار العلماء، محمد العيسى في 2 أكتوبر الماضي وقال ان (غالبية هيئة كبار العلماء، إضافة إلى علماء كبار وقياديين في الأوساط الشرعية باركوا مشاركوا المرأة في الشورى عضواً وبالمجالس البلدية مرشحة لنفسها ومرشحة لغيرها).

سجالات سخيفة.. وحاسمة

تساجُل قد يبدو سخيفاً، وهو كذلك، وقد يكشف عن السفح الذي يبلغه الصراع بين الجناحين الحاكمين، لكن ما هو مغزى أن يكسر الجناحان قواعد اللعبة، (مناصحة السر)؟
وتيرة التساجل بين الجناحين تسارعت بصورة مفاجئة، بفعل حدثين على مستوى السفح نفسه: الأول، ندوة (السلفية منهج شرعي ومطلب وطني) التي أقيمت في جامعة الإمام محمد بن سعود في 27 كانون الأول الماضي برعاية الأمير نايف. والثاني، تطبيق قرار «تأنيث» محال (المسلتزمات النسائية) في 5 كانون الثاني الجاري، بعد مرور أكثر من ست سنوات على صدوره.
في الحدث الأول، جرى اجترار مقولة سابقة للأمير نايف حول تمسّك المملكة السعودية بالنهج السلفي. لكن توقيت الندوة في ظل إعادة تموضعات، وانزياحات عاجلة، ومراجعات مفاجئة داخل المجال السلفي العام، قد اضفى عليها تفسيرات عديدة، ربما أقحم بعضها عامل المؤامرة كالقول بمخطط قطري لاختطاف السلفية ونقل مركز الجاذبية الوهابيّة من الرياض الى الدوحة، بذريعة التقاء الجذر القبلي للعائلة الحاكمة في قطر وعائلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أي بني تميم.
قد تتلخص المهمة الرئيسة للندوة في إعادة تعريف السلفية بوصفها (عقيدة) وليست (حزباً سياسياً)، في ظل الميول السياسية المتفجّرة للجماعات السلفيّة في مصر وليبيا والمغرب وسوريا واليمن، ولا غرابة أن يغيب عن الندوة أنصار السلفية السياسية. ولعل مصطلح (الوسطية) في كلمة الأمير نايف لا يعني سوى الامتثال لنموذج السلفية التقليدية، التي تتمسك، بإصرار هادف، بالفصل بين شؤون الدين وشؤون السياسة، وتلتزم بطاعة ولي الأمر وتحرّم الخروج عليه مطلقاً.
على الرغم من أن لا شيء لافتا في الدندنة حول السلفية، وكان يمكن أن تمرّ، شأن فعاليات أخرى مثل الملتقى الثقافي السعودي في الرياض في نهاية كانون الأول الماضي، لولا تغريدة كاتب صحافي وصف فيها ما جرى في بهو فندق الماريوت الذي عقد فيه الملتقى بـ(خزي وعار)، إلا أن قصفاً من الطرف الآخر، الجناح السديري، استوجب رد فعل من جناح الملك. وهنا يأتي أثر الحدث الثاني، أي إدخال قرار تأنيث محال المستلزمات النسائية حيز التنفيد، الذي تمّ في أجواء عملية تأهيل إعلامي واجتماعي لناحية تطبيق القرار قبل فترة وجيزة، وهذا يظهر من تصويب المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ على القرار قبل موعد تطبيقه بأيام.
فقد خرق المفتي، التابو نفسه (المجاهرة بالنصيحة)، حين حذر في خطبة الجمعة في جامع الإمام تركي بن عبد الله في العاصمة، الرياض، بتاريخ 30 كانون الأول (ديسمبر) الماضي رجال الأعمال من توظيف النساء في محال بيع المستلزمات النسائية، واعتبر ذلك (جرماً وخطأً كبيراً وعظيماً)، مشيراً إلى أنّهم إذا فعلوا ذلك فهم (مخالفون للشرع، ومنخدعون بالدعايات المضللة)، وهم من يتحمّل أوزار ذلك، وخاطب الجمهور (فلا تنخدعوا بهذه الدعاية المضللة مهما كسوها من أقوال، بل إنما هي تساهل في المحرمات).
في سياق المعاضدة، استدرك الشيخ السلفي المتشدّد ناصر العمر على صفحته في (تويتر) في 5 كانون الثاني على كلام المفتي، واعتبر قرار وزارة العمل بتأنيث محال المستلزمات النسائية (تحديّاً للفتوى الشرعية لمفتي وعلماء المملكة) ثم تساءل: (أفي دولتين نحن؟).

دعوة للتخلي عن السلفية

هنا بدا واضحاً، أن ثمة مواجهة علنيّة تجري فصولها بين جناحين في الحكم وتستوعب تيارات فكرية وسياسية واجتماعية. لذلك، بعد مرور اسبوع على ندوة (السلفية منهج شرعي ومطلب وطني)، جاء الرد من فريق الملك عبد الله. وكتب زياد الدريس، المندوب الدائم للسعودية لدى منظمة اليونسكو (باريس)، في صحيفة (الحياة) اللندنية، لمالكها الأمير خالد بن سلطان، مقالة في 4 كانون الثاني الجاري بعنوان («السلفية»..هل هذا وقتها؟)، انتقد فيها رعاية الدولة للدعوة السلفية، أي الدعوة الى «تبنّي استراتيجية لنشر المنهج السلفي»، واعتبر وصف السلفية بأنها مطلب وطني خاطئ، وقال (والصحيح أنها «مطب وطني») وفرّق بين ثلاث دوائر للدولة السعودية كبرى وهي الدولة الإسلامية التي تحتضن قبلة المسلمين، ووسطى وهي دولة سنيّة تحمي مذهب أهل السنة والجماعة، وصغرى وهي الدولة السلفيّة التي تتبنى منهج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وطالب بأن تكون السعودية دولة إسلامية والتخلي عن الطابع السلفي للدولة.
كان مقالاً صادماً، حين يوضع في سمت التجاذب الإيديولوجي على المستويين الاقليمي والقومي، خصوصاً أنه يحتدم مع مشروع الأمير نايف الذي فوّض لنفسه مهمة حماية السلفية من محاولات تخفيضها الى مستوى منظومة عبادية، كبقية المنظومات الأخرى في المجال الإسلامي، وليس منهجاً للدولة، بما قد يؤول إلى تشظيها.
لا ريب في أن مقالاً بجرعة زائدة من النقد والجرأة كالذي كتبه الدريس تطلّب حملة ردود، في سياق المساجلة السياسية في ساحة العقيدة. مقلة الدريس استدرجت ردوداً جمّة، لكن لم تغادر رد الفعل الحمائي بلغة مدقعة، تذكّر بفكرة النضال ضد الذات من موقع الآخر، وليس العكس، فقد عجزت الردود عن أن تضاهي الجلبة الاحتجاجية التي أحدثها الدريس.
ليس مقدّراً للسجال أن ينتهي، فهو يحقق غاية استهلاك الطاقة الاحتجاجية الكامنة لدى القوى السياسية والاجتماعية في الداخل، لكنّه يعكس في الوقت نفسه، المرونة الزائفة لدى صانع القرار لجهة القبول بمبدأ الحبو نحو تحوّلات مخنوقة، لتقليل الأضرار (damage limitation).

الديموقراطية حرام لا بد منه أو رجس فاجتنبوه

 

لم تكن السلفية جزءاً من الحراك الشعبي في أي ثورة عربية منذ بدء الربيع العربي، وفي لحظة ما سانحة قرّرت أن تقاسمه وعيه، ثم امتطاء منجزه الديمقراطي. ولكنّها في لحظة النشوة، تعيش قلقها الخاص، إذ كفّت أن تكون كائناً انتقائياً، يختار نموذجه في التغيير ويفرضه، كما تطلّعت جماعات سلفيّة متشدّدة.
سؤال التموضع يشغل بال السلفي السياسي، وينجم الجواب عن شكل في البراغماتية الرثّة، بالجمع بين نقيضين: إنحباس في النص القديم بكل إشاراته الإسكاتولوجية، ونفرة غرائزية نحو الغوص في الآني بكل لوثاته.
مكافأة مجانية حصدتها السلفية السياسية في مصر، وهنا يكمن الشعور المختلط لدى السلفية السعودية بإثنينية التقليدي والحركي، فاللانهاية في الحلم السلفي تبعث هواجس ضامرة منذ أمد، فتلك الجماعات السلفية العاملة في المجال الحيوي للربيع العربي لا تقتفي سنن السلفية التقليدية السعودية. ولا شك في أن هناك تياراً سلفياً حركياً في السعودية يتناغم مع نظرائه في الخارج، ويميل اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الى ترسيخ مفهوم (ولاية الأمر) المقتصرة على العلماء دون سواهم.
مثّل الربيع العربي امتحاناً عسيراً وجدّياً بالنسبة للتيار السلفي السعودي، فهو من جهة مدجج بفتاوى تملي (تحكيم الشريعة)، في مقابل كتلة فتاوى تحظر (الخروج على الحاكم/ الأمير/ الإمام) ما لم يظهر منه كفر بواح يخرج من الملّة وعليه برهان واضح للعيان، وبلغ الحال بإسهاب المدرسة السلفية في إغلاق الباب بإحكام على فكرة الخروج مطلقاً، أن أبرمت زواجاً كاثوليكياً مع الأمير المتغلّب، صاحب المنعة، وإبطال فكرة الخروج مطلقاً.
ولكن للربيع العربي أحكامه في الفقه الديني كما في الفعل السياسي. هكذا بدا بجلاء التناقض في فتاوى وآراء السلفيين تقليديين وحركيين. وقد يومىء ذلك، في لحظة ما، إلى عجز عن المواكبة، والقدرة على خلق مفاهيم جديدة مستمدة من النصوص الأصلية، ولذلك، كان واضحاً أن الواقع غائب في الادراك السلفي التقليدي، وحين جرى إحضاره، فقد الصلة بالنص الأصلي.
الصدمة الأولى في الربيع العربي، حدثت حين صدرت فتاوى من كبار علماء المملكة تحرّم التظاهر في تونس ومصر، من أبرزها ما جاء على لسان مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ في خطبة الجمعة في 4 شباط (فبراير) 2011 وقال ما نصّه إن (مخططات مثيري المظاهرات إجرامية كاذبة لا هدف لها إلا ضرب الأمة والقضاء على دينها وقيمها وأخلاقها وتفريق كلمتها وتشتيت شملها وتقسيم بلادها والسيطرة على خيراتها)، معتبراً نتائجها سيئة وعواقبها وخيمة (لما فيها من سفك الدماء وانتهاك للأعراض وسلب الأموال والعيش في رعب وخوف وضلال).
وكان موقف الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، وعضو هيئة كبار العلماء حالياً، من مظاهرات تونس ومصر وليبيا بقوله في 21 شباط (فبراير) 2011 واضحاً بما نصّه أن (المظاهرات من الفتن غيرالمحمودة شرعاً). وقال في تسجيل صوتي (كرّرت التأكيد على أن المظاهرات غير شرعية لما يترتب عليها من المفاسد من إتلاف الأموال، أو سفك الدماء، أو الترويع، إلى غيره، وإذا لم يحصل من هذا شيء أبدًا، فإنه يحصل فيها تعطيل الناس عن القيام بأعمالهم، وفتح متاجرهم، وكل ذلك لا يجوز). وفي تأصيل لرأيه أوضح قائلاً (لم يعرف عن أحد من أئمة الإسلام - من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة - أن أحدًا منهم يحثّ الناس عند الإستنكار أن يقوموا بمظاهرة ومغالبة)، مذكّراً (بالسمع والطاعة حتى إذا كان الوالي غير مرضي عنه من الناس ما دام لم يكفر).
وعلى أية حال، فهذه الفتوى وما سبقها لا تخرج عن نسق الفتاوى الصادرة في عقود وسنوات ماضية. فقد اتفق أعضاء اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء في السعودية على تحريم (المظاهرات والاعتصاماتِ والإضرابات..) ويشمل ذلك: تحريمَ المقاصدِ وتحريمَ الوسائلِ. ولكن الجديد المربك هو ما ظهر في فتاوى بعض أعضاء هيئة كبار العلماء. فقد انتشرت فتاوى صادمة للشيخ اللحيدان حيال التظاهرات في سورية واليمن.. وفي تسجيل صوتي نشر على موقع يوتيوب في 22 نيسان (إبريل) 2011 دعا (للجهاد) لإسقاط الرئيس بشار الأسد ودعا أيضاً إلى تنحي الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وتسليم سطاته. ودعا الشعب السوري (للجدّ والاجتهاد في مقاومة النظام السوري حتى لو ذهب ضحايا)، وأضاف: (يرى في مذهب مالك أنه يجوز قتل الثلث ليسعد الثلثان، فلن يقتل من سوريا ثلثها إن شاء الله)!. من جهة ثانية، دعا اللحيدان الرئيسَ اليمني للتنحي وتسليم سلطاته، ودعا الله (أن يرينا في المجرمين عجائب قدرته، وأن يعاجل علي عبد الله صالح عن التخلّي عن منصبه، أو أن يعاجله بالإزالة، وأن يكون ما بعده خيراً لليمن ولمن يجاوره ممن كانت الحال عليه قبله..)، محذرًا في الوقت نفسه (من سيطرة الحوثيين على السلطة في اليمن)!.
انتقائية الشيخ اللحيدان، وعلماء السلفية عموماً، إزاء الثورات العربية تسبّبت في انقسام داخل التيار السلفي العام، سواء لجهة تحريم الخروج وانخراط التيار السلفي في أنظمة ما بعد الثورة، بعد أن أفتى العلماء في المدرسة السلفية بتجريم التظاهر على النظام مهما بلغ جوره، أو لجهة التحريض على الجهاد ضد أنظمة أخرى، يرى فيها علماء سلفيون أفضل من البديل المحتمل. فقد ردّ الشيخ السلفي اليمني يحيى بن علي الحجوري، مدير معهد (دار الحديث) في دمّاج بمحافظة صعدة، على فتوى الشيخ صالح اللحيدان بتغيير نظام علي عبد الله صالح، وقال بأنها (ليست بصواب، ففيها تهييجٌ ومعاضدةٌ لأناسٍ هو يبغضهم، فأصحاب هذه الثورة هم (الاشتراكيّون) و(البعثيّون) و(الناصريّون) و(الروافض) و(الإخوان المسلمون). وتحفّظ الحجوري على ما نقله اللحيدان عن الإمام مالك، وقال (هو نقلٌ فيه نظر).
عموماً، إن ثمة مانوية سلفية تسعى نحو تكييف نفسها مع تحوّل كبير يتطلب أكثر من توضيح ثقافي، فالنص السلفي يوضع أمام تحد تأويلي (هيرومنطيقي) مع صلاحية حضوره القادم. نعم، قد تقبل جماعة سلفية لعبة تدجين هابطة للخروج من مأزقها في انسداد الأفق النصي، على طريقة حزب النور السلفي الذي أظهر المتحدّث باسمه يسري حماد في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي مرونة ناكصة. فقد نشرت وكالة فرانس برس في 21 كانون الأول (ديسمبر) الماضي مقتطفات من المقابلة غير المسبوقة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي، منها أن حزب النور السلفي سيحترم اتفاقية السلام الموقعة مع اسرائيل عام 1979. وقال حماد (نحن لا نعارض الاتفاقية ومصر ملتزمة بالمعاهدات التي وقّعتها الحكومات السابقة)، وأضاف (نحن نحترم جميع المعاهدات)، ورحّب بالسيّاح الإسرائيليين. إشارة عابرة: وضع أحد المشاكسين على صفحته في (تويتر) سؤالاً برسم مشايخ السلفيين المهووسين بنظرية المؤامرة الوهمية بين اليهود والشيعة (تخيّلوا لو أن هذه التصريحات صدرت عن قائد في حزب الله؟!ّ).
على المقلب الآخر، ينزع التيار الصحوي السعودي إلى موضعة نفسه بصورة عاجلة في سياق موجة التحوّلات الكبرى التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من عام. فقد أجرى الشيخ سفر الحوالي، الرمز الصحوي العائد ببطء، لأسباب صحيّة، مراجعة خاطفة لمواقف سالفة من الديمقراطية.
أهمية التحوّل في موقف الحوالي ينبع من الدور الذي كان يضطلع به بعد موجة العنف الدموية التي ضربت السعودية خلال عامي 2003 ـ 2004، حيث أسّس الحوالي جمعية من 70 عالماً للتوسّط بين عناصر الجماعات المسلّحة المحسوبة على (تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية) والحكومة. وقام الحوالي ورفاق دربه في تيار الصحوة بلعب دور الوسيط بين القاعديين والنظام السعودي بإشراف وزارة الداخلية.
عود على مراجعة الحوالي بتأثير واضح من الربيع العربي، بدا مؤتمر تونس في 17 كانون الأول (ديسمبر) الماضي الذي نظّمته (الحملة العالمية لمقاومة العدوان) برئاسة الشيخ الحوالي كما لو أنه مناسبة لرفع الستار عن خطاب سلفي ديمقراطي، وبدا الحوالي كما لو أنه قادم برؤية جديدة حيال الديمقراطية، والإنتخابات، وتأسيس الأحزاب والنقابات، التي كانت توصم باعتبارها محرّمات، بل وكفريات.
في رؤيته الفقهية القبلية، المثبّتة على موقعه الرسمي حتى الآن، سئل الحوالي عن مفهوم الديمقراطية وهل في الإسلام ديمقراطية فنفى أن يكون في الاسلام ديمقراطية بما نصّه: (الله عز وجل رضي لنا الإسلام.. فما رضي لنا الإشتراكية ولا الديموقراطية ولا القومية، ولا أي تسمية أخرى..)، وقال في جواب على سؤال عن حكم الإسلام في الديمقراطية ما نصّه (بالنسبة لنا نحن في دين الإسلام: الديمقراطية كفر، الديمقراطية شرك..)، لأنها لا تحكم بما أنزل الله (فالتحكيم الديمقراطي هو اتباع لأهواء الذين لا يعلمون..).
ولكن في المؤتمر الأخير بدا الحوالي في كلمة الافتتاح الموسومة (ولدنا أحراراً) ديمقراطياً من الطراز الرفيع، فقد دعا الأنظمة التي لم تصلها رياح الثورات (أن تأخذ العبرة مما جرى، وأن تتصالح مع شعوبها والقيام بإصلاحات شاملة وفتح المجال لقيام أحزاب سياسية، ونقابات مهنية، وإقامة انتخابات حرة ونزيهة).
وكان موقفه منسجماً مع رفيق دربه الشيخ سلمان العودة الذي أثنى على التطوّر الكبير في تونس وقال عن شعبها أنه (تحرّك من أجل الحريات، ولذا يجب أن يحصل على حريته، بما في ذلك حرية العمل السياسي وتنظيم التجمعات والأحزاب)، فيما اعتبر ثورة 25 يناير في مصر بأنها ( ثورة سلمية هادئة.. ثورة عفوية صادقة مباشرة..)، ونقل مؤيّداً مشاهدات الناشط البريطاني جون رييز، خصوصاً وصفه ثورة شباب ميدان التحررير بأنها (ثورة ضد الاستبداد والظلم..)، وكذا قول المفكر الأميركي نعوم تشومسكي عن ثورة مصر بأنها (ثورة منطقة.. وليست ثورة شعب)، هل يلمح العودة إلى حلم ما في بلاده؟ ربما، كما بدا من الأسئلة اللاحقة من قبيل: (كيف تتعرف على مشاعر الآخرين تجاهك؟ أيها الحاكم..). ويطالب بإلحاح بالاستماع الى الصوت الآخر ـ الشعب.
على الضد، هناك من المشايخ الكبار في المدرسة السلفية التقليدية من يرفض المقاربة الجديدة والجريئة للحوالي ـ والى حد ما العودة رغم غموضه المعتاد ـ ويتمسّك بما كان يؤمن به الحوالي فيما مضى من تحريم للديمقراطية والأحزاب والنقابات (على طريقة ناصر العمر الذي مازال يمسك العصا من منتصفها فهو مع آثار الديمقراطية وليس مع عنوانها). فقد رفض الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، أن يمنح دعمه لحزب النور السلفي وقال بأن الواجب على المسلم (وقت الفتن أن يتجنبها وأن يبتعد عنها حتى تهدأ، ولا يدخل فيها..)، وأوضح بأن (الأحزاب والتكتّلات قد تجر إلى شر وفتنة واقتتال فيما بينها، فالمسلم يتجنب الفتن مهما استطاع).
إن النزوع الى التمييز بين نوعين من السلفية: سلفية تقليدية/ عقدية وأخرى سلفية حركية/ سياسية تشي بانقسام في المجتمع السلفي السعودي قبل غيره، فالتماهي مع السلفية العقدية يعني العودة الى خط الدفاع الأول عن العقيدة التي شكّلت الأيديولوجية المشرعنة للدولة السعودية، وإن ظهور سلفية سياسية تحاول بخجل، حتى الآن، الإنفتاح على أدوات ومفاهيم الديمقراطية (الأحزاب، النقابات، والاتحادات، الإنتخابات، الدستور، التشريعات القانونية..)، قد يبطن تهديداً وجودياً للسلفية التقليدية.
في استشراف ديناميات السلفية، ثمة أشكال متنافرة ستحكم المشهد السلفي العام 2012، حيث سنجد تجاذباً بين التيار التقليدي في السلفية الذي يرفض التعاطي مع المفاهيم الحديثة والقبول باللعبة الديمقراطية لناحية التماهي مع الواقع السياسي الجديد، والحفاظ على ما يعتبره النواة الأصلية التي قام عليها المذهب، وبين تيار سياسي سلفي يميل إلى (الانتقال) الى ميدان المنافسة، وإن تخلى عن بعض حمولة المعتقد، ولذلك، فإن حزب النور السلفي في مصر، على سبيل المثال، سيبقى منبوذاً من قبل السلفية التقليدية في السعودية.
بطبيعة الحال، لا يمكن حسم الرأي في السلفية السياسية، التي لا تزال غير واضحة فيما يرتبط بموقفها من الآخر، سواء داخل المجال الإسلامي (أتباع المذاهب الأخرى)، أو المجال الديني (المسيحيين على وجه الخصوص) أو في المجال الإنساني (من يسمونهم العلمانيين والليبراليين وغيرهم)، خصوصاً ما يترتب على ذلك من التزامات، بالنظر الى حق الآخر، مهما يكن، في المشاركة في سن التشريعات، التي قد تتعارض جزئياً أو كلياً مع مبدأ (تحكيم الشريعة)، إذ بحسب الفتوى السائدة لدى علماء السلفية التقليدية عدم جواز العمل في حكومة لا تحكم بغير شريعة الإسلام، ولا المشاركة في الإنتخابات فيها إلا بهدف (دفع ضرر أكبر) أو (درء فساد محتمل). وإلا فإن الأصل السلطاني السلفي يقضي بحرمة الانتخابات، والأحزاب وغيرها، لأنها من البدع المحرّمة، كونها لم ترد في الكتاب والسنة أو سيرة السلف الصالح، أو في فتاوى أهل العلم الشرعي من الماضين. من إرهاصات السلفية المحدّثة، ما ظهر منها في فتوى عضو مجلس الشورى الشيخ السلفي حاتم الشريف.
بإزاء هذا التنوع الثري في أشكال السلفية التي لن تقتصر على بلد دون سواه، سيدخل التيار السلفي السعودي بشقيّه التقليدي والحركي مرحلة تجاذب جديدة، قد تفضي الى تطوّرات هامة مع تطلّع الشق الحركي إلى لعب دور مماثل لنظرائه في بلدان عربية شهدت تحوّلات كبرى وسمحت لقوى سلفية حركية بالمشاركة بأدوار فاعلة، فيما سينافح التيار التقليدي من أجل الحفاظ على موقعه كحارس للعقيدة، وما يتطلبه من دفاع عن النظام السياسي الذي يؤويه.


copy_r