gulfissueslogo
د.سعيد شهابي
القتل خارج اطار القانون جريمة ضد الانسانية
د.سعيد الشهابي

10-05-2011

ربما لم يعترض اغلب الغربيين على قتل زعيم القاعدة، أسامة بن لادن، ولكن هناك من نظر الى ذلك من زاوية القانون الدولي الذي يحرم قتل اي شخص لا يمثل خطرا مباشرا، لكونه غير مسلح، او لانه مستسلم للطرف الآخر، او اسير لديه. ومع ان الكثير من الدول الغربية يرفض حكم الاعدام من حيث المبدأ، وكذلك المنظمات الحقوقية الدولية، فان اعتراض بعض هذه الجهات ليس على مبدأ القتل في هذه الحالة بل على طريقته وما اذا كان بالامكان تلافيه.
القتل خارج القانون يعتبر جريمة من منظور حقوق الانسان، وان كانت الانظمة القمعية تمارسه شكل روتيني. فالتعذيب حتى الموت احد اشكال القتل خارج القانون، وكذلك اطلاق النار على المتظاهرين السلميين، او حتى الاعدام تنفيذا لحكم صادر عن محاكمة لا تتوفر فيها شروط العدالة. ولو كان هناك نظام دولي فاعل لأمكن القضاء على هذه الاساليب التي تستهدف حياة البشر، ولكن نظرا لضعف هذا النظام، وهشاشة آليات الامم المتحدة المسؤولة عن مراقبة انماط السلوك الحكومي، وحالة الانتقائية لدى الدول الكبرى، كل ذلك وفر حماية للانظمة التي تقتل مواطنيها خارج اطر القانون. وحتى في اقصى حالات الجريمة، لا يجوز، وفقا للاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهود الخاصة التي تنظم تلك الحقوق، قتل اي انسان ما لم يحاكم بشكل عادل، وتثبت جريمته بشكل قاطع. وثمة مبدأ حقوقي قانوني يؤكد على ان ثبوت الجريمة يجب ان يكون بشكل 'بعيد عن اي شك عقلاني Beyond any reasonable doubt'.
هذا ينطبق على اصغر الجرائم واكبرها، لان ربط اسم الانسان بالجريمة امر كبير، فلا يجوز تجريم الانسان الا بعد محاكمة عادلة وشفافة تنظر في تفصيلات الامور ولا تكتفي بعمومياتها. القاعدة المذكورة انما هي اكمال لقاعدة اخرى متفق عليها بين البشر (في ما عدا الانظمة العربية التي تؤمن من الناحية العملية بعكسها) بان 'كل انسان بريء حتى تثبت إدانته' وثبوت الادانة يجب ان يكون وفقا لضوابط موضوعية واضحة تمارسها انظمة القضاء العادل البعيدة عن التأثير السياسي. ولذلك اصبح من ثوابت النظام السياسي المتحضر الفصل بين السلطات، ليكون القضاء مستقلا بشكل كامل، ولا يخضع للسلطات الاخرى. فالحاكم ليست له سلطة على القضاء، ولا المشرعون في البرلمانات المنتخبة. بل يجب ان يكون الجميع محكوما بالقانون الذي يوضح صلاحياته وحدوده ومسؤولياته.
في انظمة الحكم الشمولية تبرز بوضوح ظاهرة 'تأميم' كافة السلطات ومرافق الدولة، فالحاكم هو رئيس السلطات، وبالتالي فهو فوقها، لا يخضع لها ولا يحق لها مساءلته او محاسبته او تنظيم حدوده. وبذلك يسعى المطلق لتأميم الحكم والقضاء والتشريع، بل ان الدين نفسه اصبح في بعض البلدان مؤمما لدى نظام الحكم، وكثيرا ما كان 'وعاظ السلاطين' مستعدين لاصدار الفتاوى التي يريدها نظام الحكم ليستطيع تمرير سياساته. ان اخضاع الدين للحاكم خطر كبير يمارس بشكل واضح ولا يستطيع المواطنون الاعتراض عليه. ففي ابان حكم الرئيس مبارك، كان شيخ الازهر مستعدا لتبرير سياسات النظام، حتى اصدر فتوى بجواز بناء الجدار العازل بين مصر وغزة! وتم اخضاع الموقف الديني للرغبات السياسية الحاكمة بمصافحة شمعون بيريز تحت عنوان 'حوار الاديان' برغم ان بيريز ينتمي الى حزب العمل الاسرائيلي اللاديني. وخلال العدوان على غزة صدرت الفتاوى من السعودية التي تحرم التظاهر دعما لصمود اهل غزة، في تحد واضح للرأي الاسلامي والانساني بجواز مقاومة الاحتلال، حتى وفق المواثيق الدولية. ان التعامل مع 'الديني' من منطلق 'السياسي' وإخضاع القيم لاهواء الحكام وتطويع المبادىء لخدمة الرغبات والاهواء والمصالح، اصبح ممارسة عادية لدى الكثيرين، سواء من اهل السياسة ام اهل الدين، الامر الذي يكرس الواقع السيىء في اوساط امتنا العربية والاسلامية، لانه يبعدها تدريجيا عن روح القانون والعدل والمبدأ. يضاف الى ذلك ان هذه الممارسات تعمق الشعور لدى العامة بعدم جدوى السعي لاصلاح الاوضاع نظرا لفساد النخب التي يعول عليها لقيادة الشعوب نحو الوعي والتقدم واصلاح الاوضاع وبناء المجتمعات والامم. وما يزال هناك امل بأن تؤدي الثورات العربية الى تعمق الوعي بضرورة النهوض بالوعي الشعبي الى المستوى الذي يجعلها قادرة على تغيير مستوى اداء النخب واخلاقياتها.
ربما تخلص الغربيون من عقدة استمرار وجود أسامة بن لادن، زعيم القاعدة، الذي يعتبرونه مسؤولا عن ظاهرة الارهاب الحديثة التي دفعت الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة لخوض حروب عديدة في الصومال والسودان وافغانستان والعراق. ولكن اصبح المشكل الاخلاقي بعدا آخر للازمة، خصوصا بعد ان عبر أسقف كانتربري عن قلقه ازاء الطريقة التي قتل بها بن لادن.
وبرغم محاولات الادارة الامريكية التدرج في الافصاح عن المعلومات المتوفرة حول اللحظات التي استغرقتها المواجهة مع بن لادن، فقد تجمع منها ما يؤكد عددا من الحقائق: الاولى ان مقر الاقامة كان منزلا مدنيا وليس معسكرا، وان اربع عائلات على الاقل كانت موزعة على شققه الاربع. ثانيا: ان بن لادن لم يكن مسلحا ولم يبد اية مقاومة تذكر، ثالثا: انه اعتقل في بداية الامر، حسب الرواية المنسوبة لاحدى بناته، ولكن تمت تصفيته على ايدي الجنود الذين اعتقلوه. رابعا: ان العملية كانت تراقب لحظة بلحظة وقت وقوعها من قبل طاقم الادارة الامريكية وعلى رأسهم الرئيس اوباما ووزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، ووزير الدفاع، روبرت غيت، وبالتالي فقرار اعدام بن لادن كان سياسيا وليس قضائيا، وانه جاء من الادارة الامريكية بشكل مباشر وليس عن طريق وسائط. خامسا: انه كان بالامكان احتجاز بن لادن بعد اعتقاله، ونقله الى مكان آمن ثم تقديمه الى محاكمة علنية. سادسا: ان الطريقة التي تمت بها تصفيته اصبحت موضع انتقاد واسع لانها، في نظر بعض المنتقدين، تجسيد لما اصطلح على تسميته 'انتقام المنتصر' او 'عدالة المنتقم'، وكلها تتضمن انتقادا للمعايير الاخلاقية التي تمثلها طريقة الاعدام. وفي غياب اية مقاومة حقيقية للفريق الذي نفذ عملية اقتحام منزل بن لادن بمنطقة 'عبوت آباد' طرحت التساؤلات حول مدى اخلاقية العملية او التزام منفذيها بالمواثيق التي تحكم مثل هذه القضايا.
ونظرا للحقائق القليلة التي اعلن عنها في ما يتعلق بالعملية التي ابتهج بها الامريكيون واعتبروها 'انتصارا' لجهود متواصلة استمرت عشرة اعوام، قال الدكتور روان ويليامز، كبير أساقفة الكنيسة الانجليكانية: 'ان قتل رجل لا يحمل سلاحا يترك غالبا شعورا غير مريح لانه يظهر ان العدالة لم تنفذ في هذه الظروف'، واضاف: 'انني اعتقد ان الروايات المتعددة لما حدث لم تساعد الناس. فعندما نواجه شخصا متهما بجرائم حرب، فمن الضروري ان يظهر ان معاملته قد تما وفقا للعدالة'. هذا الاهتمام الهامشي بطريقة مقتل زعيم القاعدة قد يعتبره البعض محاولة للتستر على سياسات القتل التي تمارس يوميا لتصفية معارضي السياسة الامريكية خصوصا من العناصر المتطرفة المحسوبة على تنظيم القاعدة. ففي باكستان اصبحت العلاقات بين الحكومتين الباكستانية والامريكية فاترة بسبب الاستعمال المتزايد لطائرة 'درون' التي تعمل بدون طيار وتستهدف تلك العناصر. وفي الاسبوع الماضي قتلت تلك الطائرات شخصين في اليمن في عملية استهدفت أنور العولقي، المواطن اليمني الذي تشير الاستخبارات الغربية الى احتمال تزعمه تنظيم القاعدة بعد مقتل بن لادن. فمن الصعب التمييز في الموقف بين طريقة قتل بن لادن واسلوب اغتيال العناصر الاخرى بالطائرات التي تتحرك بدون طيارين وتطلق صواريخها مستهدفة العناصر المطلوبة. وكثيرا ما نجم عن ذلك الاستهداف مقتل العشرات من المدنيين الباكستانيين. وما اكثر الحالات التي اعتذرت فيها الولايات المتحدة وقوات الناتو عن 'الخطأ' الذي طالما قتل الابرياء. لا شك ان استهداف الابرياء بالشكل الذي حدث في 11 سبتمبر جريمة مرفوضة وعدوان لا يمكن تبريره وفق القواعد الانسانية او الاسلامية، ولكن ذلك لا يبرر القتل الذي لا يستند الى قواعد قانونية وانسانية.
هذا القتل لا يختلف كثيرا (في آليات التنفيذ) عن قتل المتظاهرين في شوارع القاهرة او صنعاء او المنامة، والعواصم العربية الاخرى ذات الثورات المشتعلة. وحسنا فعل المصريون بتقديمهم الرئيس مبارك وحبيب العدلي، وزير الداخلية، للمحاكمة لدورهما في اصدار الاوامر باطلاق النار على المتظاهرين. وقد صدر الحكم بسجن الأخير اثني عشر عاما، بينما ما يزال مبارك خاضعا للتحقيق. انها خطوة غير مسبوقة في العالم العربي الذي يرزح تحت وطأة الاستبداد. لكن الرسالة التي بعثتها تلك المحاكمات لم تصل بعد للحكام الآخرين الذين ما يزالون يقتلون الابرياء في الشوارع لمطالبتهم بالاصلاح. بل ان الغربيين متهمون بالتواطؤ في سياسات العنف التي تمارسها الانظمة الحليفة للغرب. وبدلا من الاستماع لمطالب المحتجين والشروع في تخفيف القبضة الامنية في البحرين، اعتقلت السلطات اعدادا كبيرة من الاطباء والممرضين والفنانين والرياضيين والمعلمين (رجالا ونساء) وحكمت على اربعة من الشباب بالاعدام. هذا بالاضافة الى العشرات الذين قتلوا برصاص قوات الامن او تحت التعذيب. وواجهت قوى الثورة في الدول العربية الاخرى اعتداءات مماثلة، حيث استشهد المئات على طريق الحرية. عمليات القتل هذه غير مشروعة، من زاوية القانون الدولي، فهي جميعا قتل خارج القانون، اي انها عمليات تصفية جسدية تمت خارج الاطر القانونية التي تنظم الدعاوى الجنائية والمحاكمات. وقد انتقدتها الجهات الحقوقية الدولية التي تراقب الوضع عن كثب وتسجل حالات القتل خارج القانون وتوثقها. هذا المزاج السلطوي المتعطش للدماء، والمتجاهل لقيم العدالة وقداسة الروح الانسانية، وغياب الرقابة المحلية او الدولية الفاعلة، كل ذلك اصبح من ظواهر زمن الثورات، بعد ان تم تكميم الافواه وشراء المواقف والضمائر.
وفي الوقت الذي يصر فيه جيل الثورة على مواصلة الدرب حتى تحقيق التغيير المنشود، فان قطاعا غير قليل من النخب المثقفة انحاز الى جانب انظمة الاستبداد، وانضوى تحت راية القوى المضادة للثورة، وسقط ضحية الشعارات التي تروجها الانظمة وتدعمها الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات. فمثلا كان الخطاب الطائفي والمذهبي مرفوضا في ادبيات المناضلين وحركات المعارضة في سالف الزمن، ولكن اصبحت المزايدات على خوض المعارك المذهبية طابعا للوضع السياسي المتدهور من جهة، وملازما للسقوط الاخلاقي المروع لمنظومة القيم الاسلامية والانسانية على حد السواء. واذا كان البعض سابقا يتأفف من الاتهام بالانضواء تحت راية 'الرجعية والامبريالية' اصبحت طبقة واسعة من المحسوبين على الثقافة غير معنية بما يقال عنها، طالما بقيت في مأمن من شظف العيش او التهديد الامني لحياتها ومتعلقيها. وحتى الداعمون لقوى التحرر ضد الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة الامريكية، سرعان ما يقعون ضحية التهييج المذهبي والطائفي. وبدلا من رفع قبضة التحدي بوجه القوى المضادة للثورة، توسعت دائرة الخنوع لتجعل من العمالة 'وساما' يعلقه البعض على صدورهم، ويتباهون، من مواقعهم في البروج العاجية والمساكن الفاخرة، بانهم يدعمون انظمة الحكم مهما كانت فاسدة او مجرمة.
لقد عبر بعض الغربيين عن موقف رافض للقتل خارج القانون، وهو قتل لا يتوقف عند واقعة أسامة بن لادن، بل يتعداها ليطال الدائرة الانسانية الكبرى، بتوجيه الاتهامات غير المؤسسة على منطق او وقائع موضوعية، لمن يسعى لتغيير الوضع الراهن بالسعي لتفعيل أجندة الاصلاح والانفتاح.
انه سباق مع الزمن من جهة، ومع تضاريس الارض الوعرة التي تمنع الصعود الى قمة الجبل او التحليق في فضاء الحرية من جهة اخرى. وبين هذا السعي المتواصل للصعود، والضغوط التي تفرض من اعلى لابقاء المواطنين رهن اوضاعهم الصعبة، تتواصل ثورات الشعوب العربية، ولكن بحضور ميداني أقل، وقلق ازاء النتائج أكبر، وحسابات لأرقام الربح والخسارة بشكل أدق. انها محنة الثورات اولا ومخاضها العسير ثانيا، وشعورها بالغبن التاريخي المتواصل ثالثا. والواضح من دخول اسقف كانتربري على الخط، شعور البعض بان حمامات الدم في العالمين الاسلامي والغربي لن تتوقف بقتل زعيم القاعدة، وان السياسات الامريكية والرعونة في التعامل مع الملفات الامنية والسياسية من شأنها ان تكرس حالة التوتر الامني والاحتقان السياسي طالما بقيت اجندة التغيير الحقيقي مغيبة ومستهدفة من قبل القوى المضادة للثورة. مطلوب من شعوب الدول الثائرة، التحلي بالصبر ولعق الدماء الغزيرة وتضميد الجراح الغائرة والتشبث بالارضية الاخلاقية العالية، كشروط لانتصار الثورات. صحيح ان القتل خارج القانون اصبح ممارسة منهجية تمارسها الانظمة، وصحيح ان القوى المضادة للثورة مستمرة في مشروعها لوأد نهضة الشعوب، ولكن الصحيح ايضا ان للدماء لغة بليغة توقظ القلوب وتحقق الآمال وتخلق التغيير. والامل ان يستبدل واقع العنف والارهاب والتطرف بمستقبل عربي اسلامي زاهر، يتأسس على الحرية واحترام دماء الابرياء، والاصرار على تأسيس مجتمعات مزدهرة تحت راية الحرية والعدل والانصاف ورعاية الثروة لتستكمل حلقات النهوض ويبوء الحكام المستبدون بالخسارة والهوان.
 
 

copy_r