13-12-2011
من اهم سياسات النظام الديكتاتوري التي يرتكز عليها للبقاء في السلطة مصادرة
حرية التعبير واساءة معاملة المعارضين، سواء داخل السجن ام خارجه. وقد ادرك
العالم ضرورة العمل لضمان حرية التعبير ومنع المعاملة الحاطة بالكرامة
الانسانية وفي مقدمتها التعذيب. وتم تأسيس منظمات حقوقية كثيرة تعنى بحماية
حرية التعبير، والدفاع عن اصحاب الرأي والاعلاميين، وتجريم الانظمة التي تعتقل
النشطاء السياسيين الذين يطالبون بالاصلاح باساليب سلمية.
وقبل بضعة ايام تم الاحتفاء باليوم العالمي لحقوق الانسان الذي يصادف العاشر من
كانون الاول/ديسمبر من كل عام. وقد تم اختيار هذا اليوم من أجل تكريم قرار
الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر عام 1948 حول الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان الذي كان الأول من نوعه. واعتادت الامم المتحدة في هذا اليوم تنظيم
العديد من الاجتماعات السياسية المهمة والمعارض والانشطة الثقافية المتعلقة
بقضايا حقوق الإنسان. كما اختير هذا اليوم لتوزيع جائزة الأمم المتحدة في مجال
حقوق الإنسان وتوزيع جائزة نوبل. ويقوم العديد من المنظمات الحكومية وغير
الحكومية الناشطة في هذا المجال بإقامة نشاطات خاصة بالمناسبة.
وبرغم الاهتمام الدولي بهذه القضية الا ان نتائجها ما تزال محدودة وهامشية، ولم
تؤد الى حدوث التغيير المطلوب في سياسات الانظمة القمعية برغم انتهاكاتها
المتواصلة. السبب الرئيسي يكمن في طبيعة النظام السياسي الذي يحكم العالم
بزعامة الدول الغربية. فهذا النظام يمارس ازدواجية خطيرة في المعايير ويحمي
الانظمة التي تنتهك هذه الحقوق بكافة الوسائل. ويمكن القول ان هذه الحقوق تواجه
اقسى الانتهاكات في الدول الحليفة للغرب. فمن يجرؤ على انتقاد حكام السعودية
مثلا؟ ومن يستطيع ان يطالب باعتقال عناصر العائلة الحاكمة في البحرين الذين
مارسوا التعذيب بايديهم؟ مع ذلك فليس هناك سوى الصمت المطبق (من الناحية
العملية) على الممارسات القمعية التي لم تتوقف يوما، بل هي في تصاعد.
هذا لا يعني ان الدول الغربية لا تدعو لاحترام هذه الحريات، ولكن مهمتها تنتهي
بالتصريحات وتتصدى، عن طريق اجهزة امنها، لمن تعتبره تهديدا للانظمة الحليفة،
بكل حزم وشراسة. هذه الدول تبالغ احيانا في الدفاع عن هذه الحقوق، ولكنها لا
تتخذ اي موقف حقيقي الا ضد الانظمة غير الصديقة. ويرى بعض الحقوقيين ان منظومة
حقوق الانسان تحولت الى وسيلة تخدير للشعوب، بدون ان تنعكس ايجابا على اوضاعها
وحرياتها العامة. فمتابعة الانتهاكات تستغرق وقت النشطاء، وجهدهم وامكاناتهم
المادية، ولكنها نادرا ما تؤدي الى نتائج ملموسة. وفي احسن الاحوال، عندما تصبح
الانتهاكات أوضح من الشمس، فيقتل المتظاهرون في الشوارع، وتمنع التظاهرات،
ويعتقل من يكتب مقالا او يلقي خطابا، يقوم النظام القمعي بتأسيس لجان بعنوان
تقصي الحقائق، ولا يسمع عن نتائجها شيء، وربما يعتقل موظف هامشي لتحميله
مسؤولية الانتهاكات، ويحاكم ويصدر حكم بسجنه، ليخرج من السجن بعد فترة قصيرة
بدون علم احد. وبرغم اعطاء حقوق الانسان وحرية التعبير ابعادا دولية واسعة،
فغالبا ما تكون انعكاساتها هامشية. هذا برغم حقيقة واحدة لا يجادل فيها عاقل،
وهي ان الانظمة الاستبدادية خصوصا المحكومة بحزب واحد او عائلة حاكمة واحدة
'تشرعن سياسات انتهاكات الحقوق ومصادرة الحريات كسياسة مركزية. اما التظاهر
بعدم علم الحاكم وبطانته بما يجري وراء القضبان او في محاكمه الخاصة التي يتربع
عليها احد اقربائه، فهو لعب على ذقون الضحايا وذوي النوايا الطيبة. انها انظمة
تقوم على اساس الرجل الواحد الذي لا يستطيع احد من موظفيه تجاوز اوامره شعرة
واحدة، فهو الآمر والناهي، وهو الذي يمنح الاشخاص وظائفهم او يسلبهم اياها، وهو
الذي يأمر بترقية الموالين والوصوليين والانتهازيين بسب ما يظهرونه من 'ولاء'
ويعاقب المخلصين للوطن اذا شك في ولائهم الشخصي له. مع ذلك فعندما تطرح مسائل
الحريات والحقوق المنتهكة والمصادرة في هذه الانظمة، يتسابق الغربيون للدعوة
لتشكيل لجان التقصي ليس من اجل الوصول الى الحقيقة، فالحقيقة معروفة لديهم بشكل
واضح لا يقبل اللبس او الغموض خصوصا مع وجود آلاف 'الخبراء' من هذه الدول الذين
يعملون في دوائر الجيش والامن والشرطة وغيرها. انما المطلوب مادة اعلامية لخداع
الجماهير والتظاهر بجديتهم في حماية حقوق الانسان والالتزام بالمواثيق الدولية.
لماذا يحدث هذا التلاعب بحقوق الانسان الاساسية واهمها حرية التعبير والحق في
الكرامة بعيدا عن التعذيب وسوء المعاملة؟ انظمة الاستبداد لا تستطيع البقاء
فيما لو كان هناك رأي عام ورقابة شعبية تتوفر من خلال التعبير الحر والامن من
سوء المعاملة عند الاعتقال. ففي الاساس، يفترض ان يسمح لكل انسان بالتعبير عن
رأيه بشكل سلمي. فيقف الخطيب او المحاضر متحدثا بحرية او يكتب صاحب الرأي في
صحيفته، ويعبر كل منهم عن رأيه في نظام الحكم في بلده، ويطالب باصلاح الوضع بعد
ان يكتشف الفساد في الاجهزة السياسية ابتداء من الحاكم نفسه وبطانته الى وزرائه
وموظفيه. ويفترض ان لا يكون ذلك سببا لاعتقال هذا الشخص او التنكيل به. ويفترض
ايضا ان السجون لا تحتوي على اشخاص يطالبون بتغيير نظام الحكم او كتابة دستور
بايدي المواطنين، او انهاء احتكار السلطة على فئة من الناس كالحزب او العائلة.
وعلى اساس ذلك يفترض ايضا ان السجون لا توظف معذبين، ولا تحتوي غرف التحقيق
فيها على ادوات التعذيب، من سياط او مخاريز او ادوات صعق كهربائية. ويفترض كذلك
ان هناك نظاما قضائيا مستقلا غير مرتبط بالحاكم او حزبه او عائلته، ونيابة عامة
لا يعينها الديكتاتور او من ينوب عنه. ولكن هل الاوضاع في انظمة الحكم العربية
الحليفة للغرب هكذا؟ ان من أشد ما ترفضه هذه الانظمة الاستبدادية السماح
لمنتقديها ومعارضيها بالتعبير الحر عن آرائهم. فذلك يؤدي الى تكون رأي عام رافض
للنظام. وهذا امر محتوم خصوصا في ضوء الفساد المزكم للانوف، وحياة البذخ التي
ليس لها حدود، وسياسة الاستحواذ على الاموال النفطية بدون الخشية من رقابة او
محاسبة، بالاضافة لسياسات المحسوبية والمنسوبية في التعيينات الادارية
والسياسية، وتسييس كافة انشطة الدولة وتوجهاتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية.
انظمة الاستبداد تعرف عددا من الحقائق التي تؤسس على ضوئها سياسات تعاملها مع
مواطنيها في مجال الحريات العامة والتعامل مع الجماهير في الشارع ومع المعتقلين
في السجون. من هذه الحقائق: اولا انها ليست انظمة قائمة على اساس الاختيار
الشعبي الحر عبر صناديق الاقتراع. فليس هناك نظام حكم واحد خصوصا في مجلس
التعاون الخليجي اختاره شعبه بحرية، بل انها انظمة تفرض نفسها بالغلبة والقهر
والدعم الغربي المباشر. وبالتالي فان ايديولوجية الحكم لا تقوم على اساس حرية
الاختيار الشعبي ولا على دستور يكتبه الشعب بايدي ابنائه، ولا على الشراكة
السياسية او مبدأ التداول على السلطة. ثانيا: ان الاحتفاظ بكرسي الحكم، في غياب
الاقرار الشعبي، لا يتحقق الا بقمع من يعارض او يقاوم او يسعى لتغيير الواقع
باية وسيلة، مهما كانت سلمية، وان نظام الحكم قائم على المقولة التاريخية
المنسوبة لهارون الرشيد التي قالها لابنه المأمون: يا بني ان الملك عقيم، والله
لو نازعتني الملك لأخذت الذي فيه عيناك'. تلك هي الثقافة التي يراد تكريسها من
قبل انظمة الاستبداد في عالمنا العربي. ثالثا: ان السماح بحرية التعبير يمثل
بداية النهاية لها. كما ان تخلي الانظمة عن اساليب القمع ومنع التعذيب في
السجون يزيل عقبات كبيرة امام الحراك الشعبي الهادف للتغيير. فاذا أصبح
المواطنون في مأمن من قمع اجهزة الامن والجيش وقوات الشغب عندما يخرجون الى
الشارع محتجين، فانهم لن يترددوا عن الاحتجاج والتظاهر كوسيلة لتغيير الاوضاع.
فالسماح بحرية التعبير امر مستحيل في ظل الانظمة التي تتوارث الحكم ولا تصل
اليه بالانتخاب الشعبي الحر. واذا أمن المواطنون من سوء المعاملة والتعذيب في
حال الاعتقال فانهم لن يترددوا في الثورة على الحاكم الجائر. فأشد ما يرعب
المواطنين اساليب القمع والتعذيب عندما يتعرضون للاعتقال خصوصا في القضايا
السياسية. ولذلك يستحيل بقاء اي نظام سياسي يحكم بالقهر والغلبة والتوارث اذا
سمح بحرية التعبير وحق الاحتجاج السلمي والتظاهر، وتخلى عن القمع والتعذيب وسوء
المعاملة. رابعا: ان الغربيين لم يكونوا يوما جادين في اصلاح اوضاع العالم
العربي خصوصا بمنطقة الخليج، وبالتالي فالتعويل على تدخل خارجي لاحداث الانتقال
نحو الديمقراطية واحترام حقوق الانسان غير واقعي، وغير مرشح للتحقق، وانه لا
بديل عن الثورات التي تقتلع هذه الانظمة المستعصية على الاصلاح.
خامسا: ان التاريخ المعاصر لا يحمل امثلة على التغير الطوعي من الاستبداد الى
'الديمقراطية، او ان ثمة حاكما جائرا ومستبدا تحول الى ديمقراطي، لان هذا
التحول يعني غيابه عن المشهد السياسي تماما.
الغربيون يعرفون هذه الحقائق جيدا، ولذلك فهم يتظاهرون بحث الانظمة الحليفة على
توفير شيء من الحقوق، ولكنهم يتحاشون الضغط في هذين الجانبين، فلا يضغطون عليها
للسماح بحرية التعبير والاحتجاج، حتى اذا قالوا ذلك علنا، كما فعلت هيلاري
كلينتون في خطابها الشهر الماضي بالمعهد القومي للديمقراطية، فقد شجعت حكومتي
البحرين والسعودية على القيام باصلاحات سياسية والسماح بحرية التعبير
والاحتجاج، واهابت بهم الانتقال الى الجانب الصحيح من التاريخ، كما ستفعل
امريكا، حسب قولها. وليس مستبعدا ان تتظاهر البلدان بالقيام بذلك، ولكن، كما
تمت الاشارة اليه سلفا، فان حكوماتها تعلم ان فتح مجال الحريات والسماح بحرية
التعبير والاحتجاج والتوقف عن سوء معاملة المحتجين والسجناء وتجريم التعذيب
والمعاملة الحاطة بالكرامة الانسانية، كل ذلك سيؤدي بشكل حتمي لسقوط نظاميهما.
فالغرب ليست مستعدا لتحويل البحرين والسعودية الى ممالك دستورية (على اقل
تقدير)، تتخلى العائلات فيها عن الحكم، وتسلمه لممثلي الشعب المنتخبين على اساس
'لكل مواطن صوت'.
ولذلك فبرغم الوعود الاعلامية الكبيرة، والتصريحات الرسمية والاجراءات الشكلية
وتكوين لجان شبه رسمية لتقصي الحقائق، ما يزال حق التعبير والاحتجاج ممنوعا.
وما حدث في الايام القليلة الماضية في البحرين من استهداف للمتظاهرين الذين
توجهوا الاسبوع الماضي باتجاه دوار اللؤلؤة من قمع رهيب وفض الاحتجاج بالقوة
الا دليل قطعي على استحالة السماح بحرية التعبير والاحتجاج. وفي الحالين،
السماح بالاحتجاج والتوقف عن التعذيب او الاستمرار في النمط المعروف من
التعامل، فان اي نظام يتحرك شعبه مطالبا بالاصلاح او التغيير محكوم بالزوال
خصوصا اذا مارس الخداع والوعود الجوفاء. وهنا لا بد من الاشارة الى حقيقة اخرى،
وهي ان مشاريع حقوق الانسان لا تكفي لاحداث التغيير السياسي في البلدان التي
تنتهك انظمتها حقوق المواطنين. فالهيمنة المطلقة على المؤسسات الحقوقية الدولية
'التابعة للامم المتحدة من قبل الدول الغربية حال دون قيام المؤسسات بدور مستقل
عن الارادة الغربية. فقد فشل مجلس حقوق الانسان ومفوضية حقوق الانسان في
التأثير شعرة واحدة لوقف التعذيب في السجون البحرينية. ولكن الحراك الشعبي ضمن
المسار الثوري ارغم النظام على تشكيل لجنة بسيوني التي طرحت توصيات متواضعة لا
ترقى لطموح الثوار . ويرزح في السجن اليوم واحد من اكبر الشخصيات الحقوقية
العربية، وهو الاستاذ عبد الهادي الخواجة الذي يحتوي فكه على ثلاثين مسمارا
وصفائح معدنية بعد عمليات عدة لاصلاح الوجه من الكسور التي احدثتها وجبات من
التعذيب منذ اعتقاله في مارس الماضي. وبرغم جنسيته الدنماركية، فقد فشل
الغربيون في التدخل لمنع تعذيبه، مع علمهم بما يجري له بشكل متواصل، فضلا عن
اطلاق سراحه.
ايا كان الامر، فان ترويج ثقافة حقوق الانسان امر ايجابي، ولكنها غير كافية
لمنع الانتهاكات لان الجهات الدولية المعنية بذلك مسيسة بشكل كبير، وخاضعة
لهيمنة الحكومات التي تدافع عن بعضها وتمنع استهداف اي منها بقرار او موقف
خصوصا من تلك المؤسسات. وقد اثبتت تضحيات الشعوب انها الوسيلة الوحيدة لتحقيق
التغيير وتوفير الحريات ومنع التعذيب. وما حدث في تونس ومصر )برغم جهود قوى
الثورة المضادة) يؤكد ان التغيير لا يتحقق الا بالثورة الشعبية التي تهدف
لتغيير الانظمة وليس ترقيعها او منحها المزيد من الوقت لاضعاف معارضيها
والتنكيل بهم. وقد اثبتت السياسات الغربية ازاء الثورات العربية عجزها الكامل
ليس عن دعم ثورات الشعوب فحسب، بل عن طرح موقف مبدئي منسجم مع الاطر العامة
لسياساتها وما تعلنه من مبادnء وقيم ترتبط بالحقوق والحريات والديمقراطية.
ويؤكد موقفها ازاء ثورتي اليمن والبحرين مثلا، وعدم ممارسة اي ضغط على الحكم
السعودي سواء لسحب قواته من البحرين او اصلاح نفسه بشكل حقيقي، ازدواجية قبيحة
في المواقف والمعايير والسياسات، الامر الذي لا يساهم في تحقيق امن المنطقة او
العالم. ومع احترام مشاريع حقوق الانسان وترويج ثقافتها، الا ان تطورات الربيع
العربي اثبتت عدم جدوى ذلك الملف على الصعيد الاستراتيجي.
فاما ان تتغير الانظمة تماما او تستمر سياسات القمع والتعذيب ومصادرة الحريات
خصوصا حرية 'التعبير. ان انظمة الاستبداد لا تستقيم مع القيم العامة التي تحكم
الحريات العامة وحقوق الانسان. فاما التغيير او استمرار الانتهاكات والقمع وسوء
المعاملة، لان الحديث عن امكان المواءمة مع هذه الانظمة وقيم العصر ومفاهيمه
اضاعة للوقت ودعم للاستبداد وخداع للجماهير، وتأجيل للازمات، ومساومة على دماء
الشهداء ومنح المزيد من الوقت لانظمة القهر والغلبة والظلم والاستبداد.