gulfissueslogo
الوعي الحقوقي
محمد الهويمل

 المسألة التي نريد بايجاز اثارتها هنا تتصل بوعينا الحقوقي في ضوء التداخل بين حقوق الله وحقوق العباد. واهمية هذه المسألة تنبع من كون الجانب الحقوقي يكاد يفنى من وعينا الديني. ومن جهة ثانية، يلحظ المراقب لحركة الوعي العام في بلادنا الاسلامية أن رسالة الحقوق رغم مركزيتها في تراثنا الديني قد ذويت في حقل المعاملات بالمعنى الواسع وليس الفقهي فحسب.
 
 فمع تزايد الوعي الثقافي والحقوقي في العالم وتعقد العلاقات الانسانية في العقود الاخيرة والرغبة المتنامية الى ازالة أسباب التوتر السياسي والامني في عدد من مناطق العالم وبشكل خاص في منطقة الشرق الاوسط، تتكثف الجهود من قبل عدد من المفكرين الاسلاميين والمصلحين نحو بلورة مشروع حقوقي اسلامي مستهدفاً تعميم ثقافية حقوقية بين المسلمين لجهة ضبط ما تعارف عليه في كتب التشريع الاسلامي: حقوق الله وحقوق العباد.
 
 وليس ثمة شك في أن تداخل هاتين  الدائرتين  الحقوقيتين هو ـ في حال ادراكه وترسيخه ـ يمثل المفتاح السحري لتسوية كثير من الازمات السياسية والاجتماعية والاخلاقية. فمعرفة حقوق الله ليست متوقفة على ممارسة طقسية يومية أو سنوية فردية وساذجة بل هي مندكة في المقصد الاجتماعي والكوني للدين وبالتالي فهي ممارسة ملتحمة بشبكة العلاقات والمعاملات المتبادلة بين العباد. بمعنى آخر، أن المقولة المستخلصة من المواجهة الكبرى بين الكنيسة والمجتمع المدني في أوروبا بأن الدين شأن فردي لا يمكن تسريتها على الدين الاسلامي. ببساطة لأن المقاصد الاجتماعية للاحكام الاسلامية من الوضوح بمكان بحيث تجعل تلك المقولة أكثر تهافتاً من مقولة أن الاسلام دين الرجال فقط.
 
ولكن الاشكالية التي تفرض نفسها دائماً هي أن ذلك التداخل بين حق الله وحق العباد ليس مستدركاً أو في أحسن الحالات مستوفياً في كتابات الباحثين والحقوقيين الاسلاميين. فهناك تشديد متواصل على تأكيد الفصل بين هاتين الدائرتين أو قل بين العالمين. ولذلك بات مألوفاً مثال المسلم المتظاهر بالتنسك والورع في سلوكه العبادي الفردي المتمرس في أساليب الغش التجاري في سلوكه المعاملاتي العام. هذا المثال الذي يكاد يتكرر في كل انحاء البلاد الاسلامية هو نتاج ذلك الوعي الحقوقي الخاطىء المبثوث من على منابرنا وفي صفحنا وكتبنا.
 
والقضية تزداد تعقيداً حين نقتفي آثارها وامتداداتها الاجتماعية والسياسية والاخلاقية. فهناك معايير واخلاقيات انغرست في السلوك اليومي للافراد هي في الحقيقة المسئول عن تقهقرنا وتأخرنا التاريخي وهي في نفس الوقت مصدر لأزمات متتابعة.
 
فالتحليل العام يقودنا الى أن المجتمعات الاسلامية جبلت على الانغماس في الوقائع اليومية، وقليل منها من يملك تطلعاً نحو تحسين وضعه الحقوقي أو في أقل التقديرات مناقشة هذا الوضع وتشريحه. فهذا التطلع محل اهتمام قلة مهمشة اكتسبت وعياً حقوقياً خارج اطار التوجيه التقليدي. الغرض من اثارة هذه النقطة ليس سوى محاولة لاحداث رنين في وعي  مجتمعات تسدد في كثير من الاوقات السلاح ضد ذاتها وتمارس فعلاً تدميرياً ضد مصالحها وذلك بجهلها بالضوابط والمقتضيات الشرعية لحقوقها: بين ما هو حقوق لله (وتلك حدود الله) يجب على العبد الامتثال لها  وبين حقوق العباد أو ما يعرف اليوم بالمصالح العمومية التي تتصل بحق الامة ومستقبلها.
 
إن الاسلام حين أقر نوعين من الحقوق: حق الله وحق الآدميين لم يجعل سبيلاً للتعدي والاختراق. فنزوع البعض الى التعدي على الحق العام بذريعة تأمين حق الله، لا تمثل سوى نزعة ابتزازية للنص الديني تحيل الى اجازة استباحة الحريم العام وتوظيفه لخدمة أغراض لا تنتمي الى من أي من الحقلين، لأن الله لم يشرّع حقاً يناهض حق عباده.
 
  هناك ميل لدى البعض وبخاصة من يعتقد أنه يجسد ارادة الله في الارض الى مصادرة حق الله باحتكار السلطة بنوعيها الديني والسياسي، وكلاهما يتمان باسم الله وعلى حساب الامة. إن وعي النص الديني هو بلا شك حق مكفول لكل عبد يريد الامتثال للأمر الالهي، والحال ذاته ينسحب على الوعي السياسي لمن يريد السعي الى مزاولة السلطة أو فهم حركة الاحداث لدرء اخطارها. ولكن هذا الوعي لا يخوّل صاحبه سلطة فرضه بحجة أن هذا الوعي مستند على مدعى ديني.
 
ولعل واحدة من الاختلالات الكبرى في مسيرتنا الاسلامية أن عملية توزيع الحقوق ليست غير عادلة فحسب بل هي صارت معوقاً لنهضة الامة. فالصحيح هو تنشئة مجتمعاتنا على وعي حقوقي صحيح بادراك ما لها من حقوق وما عليها من واجبات ليس في الجانب الديني فحسب بل والفكري والتربوي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
 
فالسبيل الى اجهاض ميل البعض لاحتكار السلطة الدينية والسياسية إنما يتم من خلال وعي من يقع عليهم هذا التعدي لخطورة هذا الميل على المستوى المجتمعي عموماً. وهذا الوعي يمثل ثمرة الفهم الراسخ للتداخل بين حق والله وحق العباد الذي يجب أن يشكل اساساً لعمليات المثاقفة الحقوقية المطلوب اتساعها بين المسلمين.
 
ولعل من الامثلة التي يراد من المسلمين الانخراط في مناقشتها التأكيد على حرية الاعتقاد كضمان ضد الاضطهاد الديني في مقابل التجربة الكنسية في أوروبا سيئة الصيت، والتأكيد على حرية الاجتماع والتكتل للتنافس والمشاركة في عمليات التنمية بكل أنواعها، وتأمين الفرص المتساوية للتعبير عن الأفكار والرؤى والمواقف، والتأكيد على المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات في مقابل الاصوات الداعية الى انقاص المرأة حقوقها من أولئك الذين مازالوا يثيروا دخان الشوك حول أهلية المرأة لقيادة السيارة وحقها في العمل وفي الترشيح والانتخاب ورئاسة الدولة. فتلك أمثلة عن قضايا حقوقية مازالت محتكرة من قبل المتسلحين بحق الله لمواجهة حق العباد.
 
 
 

copy_r