2011-04-17
في مجلدات المؤرخين تعتبر الثورة العربية الاولى حدثا مهما انطلق من الحجاز
وتوجه شمالا لينهي الحكم العثماني في المنطقة العربية بأكملها. واختلف التقييم
لهذه الثورة بين اولئك الذين مجدوا انتفاضة العرب وتباكوا على خيانة بريطانيا
لهم وتبنيها بعد ذلك لمبدأ العرش العربي المتنقل الذي يزرع في بلاد بعيدة عن
مواطنه.
واتى مؤرخون آخرون ينتقصون من هذه الثورة بسبب عداءات تاريخية بينهم وبين قادة
هذه الثورة. خذ مثلا مؤرخ البلاط السعودي عبدالله العثيمين والذي يذكر مصطلح
الثورة العربية مرة واحدة في مجلده عن تاريخ السعودية وعلى استحياء ليتجاوز
المصطلح والحقبة التاريخية بأكملها تمهيدا للفتح المبين الذي تمخض عن ضم الحجاز
الى الدولة السعودية الناشئة عام 1925.
لا يهمنا هنا تقييم احداث هذه الحقبة التاريخية حيث سكب عليها من الحبر ما سكب
الا ان المطلع على تاريخ المنطقة وتركيبتها السياسية قد يتردد بعد قرابة قرن
كامل من الانزلاق خلف التمجيد لحراك سياسي قديم او التقليل من شأنه وتهميشه في
تاريخ المنطقة والذي يخضع حتى هذه اللحظة الى الادلجة واهواء مؤرخي السلاطين
وحتى الجمهوريات. ويبقى ارتباط الثورة العربية هذه بالمشروع البريطاني نقطة
مهمة ومعضلة عميقة الجذور بالمخيلة التاريخية العربية اعادتها احداث عام 2011
الى الذاكرة التاريخية حيث لا تتوقف وسائل الاعلام والمنظرون المؤدلجون اصحاب
اللغة الانسانية والعواطف الجياشة عن استحضار التاريخ كمقدمة للتعاطي مع احداث
الثورات العربية الحالية.
هناك فارق شاسع بين حالة العرب الاجتماعية والسياسية في اوائل القرن العشرين
وبينها الآن على مشارف نهاية العقد الاول من القرن الواحد والعشرين. رغم
الاختلاف الواضح حتى على مستوى البنية الثقافية نجد ان العنصر المستمر لا يزال
التدخل الخارجي الواضح والصريح والمفضوح هو سيد الموقف. قامت الثورة العربية
الاولى على اكتاف قبائل الحجاز المعروفة بدعم بريطاني واضح وصريح وقيادة
بريطانية ارسلت لهذا الغرض. واليوم تبدو المنطقة اكثر ضبابية حيث تتعدد الايدي
الخارجية فمنها عربي مرتبط بالخارج ومنها ما هو آت من الخارج تحت مظلات متعددة
ومتباينة ففي ليبيا جاءت التدخلات الخارجية العسكرية تحت مظلة عربية اسلامية
وفي مصر وتونس كانت اليد الخارجية تعتمد على دعم قيادات شابة من مبدأ تعزيز
الديمقراطية خاصة عندما تبنت الولايات المتحدة مبدأ الدبلوماسية الناعمة والتي
ارتبطت بمشاريع تنمية القيادات الشابة التي اعطيت الفرصة للتمرين والتدريب على
مفاهيم القيادة العصرية في مراكز دراسية امريكية ومؤتمرات موجهة للشباب استفاد
منها حتى الآن طيف كبير من الشبيبة العربية وبالاضافة الى ذلك اخترعت
الدبلوماسية الامريكية الالكترونية مساحات فضائية تجمع تحت رايتها ناشطين شبابا
متمرسين بالاعلام الالكتروني والتدوين وغيره من اساليب الاتصال والعلاقات.
اعتمد هذا المشروع على اشراك الشبيبة في مؤتمرات وندوات تتعلق بمفاهيم الحراك
السياسي وآلياته والخطاب الديمقراطي ومفاهيم حقوق الانسان والتمرد السلمي. وقد
خصصت الولايات المتحدة مبالغ باهظة من ميزانية وزارة الخارجية وغيرها من
المؤسسات المدنية الامريكية التي مولت مشاريع ومؤتمرات صغيرة هنا وهناك من اجل
تفعيل استراتيجية جديدة هدفها الاول التغيير السياسي في المنطقة العربية. ونذكر
منذ اعوام كيف كانت الرسائل البريدية الدعائية لمثل هذه المشاريع تأتي الواحدة
تلو الاخرى بهدف نشرها. واستهدفت هذه الرسائل اساتذة الجامعات في اوروبا
والعالم العربي وخاصة اولئك الذين يعملون في الجامعات الامريكية الخاصة
المنتشرة في مناطق ومساحات كبيرة. كنا نتوجس من هذه الرسائل حيث ينتهي معظمها
الى فتح باب التساؤلات عن اهداف المشاريع هذه ومصداقية القائمين عليها.
ولا نعتقد ان هذه التدريبات والمشاريع هي المحرك الاول لما حصل في مصر وثورتها
الشعبية او في تونس قبل ذلك ناهيك عن اهمية مثل هذه المبادرات الامريكية في
مناطق اخرى كاليمن وسورية وليبيا والبحرين.
ربما كانت هذه المبادرات الخارجية قد وفرت بعض التقنية والاطلاع على مساحات
حوارية تختلف عن نظيرتها في العالم العربي الا انها ظلت محدودة ومرتبطة بخطاب
امريكي خارجي لا يتعاطى مع مشاكل واقعية ومعاناة الاكثرية في الدول العربية.
سيظل هم المشاريع الخارجية مرتبطا بافراز قيادات عربية جديدة شابة تستطيع ان
تحل محل القيادات القديمة البالية فتعول السياسات الخارجية على موضوع هوية
القيادة الجديدة وموقفها من الغرب وسياساته وسوقه المفتوحة وتوغلها في المنطقة
العربية. وبعد ان اقتنعت الحكومات الغربية ان الفساد المستشري في اروقة الطاقم
القديم قد اصبح عقبة امام الاقتصاد النيوليبرالي الطامح الى اختراق الاسواق
العربية اكثر واكثر انقلبت على حكم العوائل والمافيا المرتبطة بها حيث تحولت
هذه العوائل في بلاد كمصر وتونس الى حجر عثرة امام الرأسمالية العالمية لحظة
ازمتها المستشرية منذ اكثر من سنتين.
جاءت مشاريع تدريب وتأهيل القيادات الجديدة من باب الرغبة في خلق طاقم قيادي
جديد يكون اكثر شفافية من القديم واكثر تمسكا بمبادئ السوق المنفتحة تحت غطاء
شعارات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والقمع وتثبيت سيادة
القانون وكلها تأتي مجتمعة لانها مترابطة بعلاقتها حيث يرتبط الاقتصاد والسياسة
في لحمة عضوية تفرز النتيجة المرغوبة وهي الازدهار الاقتصادي الذي يدعم
الديمقراطيات الغربية ويمكنها من التوسع افقيا خاصة وان هذه الديمقراطيات تجد
نفسها امام ما لم تكن تتوقعه وهو النمط الصيني الحديث، حيث النمو الاقتصادي
يفوق نظيره في الغرب ويأتي هذا النمو على خلفية سياسية لا تشترك مع
الديمقراطيات الغربية في خطابها السياسي المعلن فلا تضليل في الصين ولا
ازدواجية معايير بل نجد رأسمالية مرتبطة بمركزية الدولة فلا تتشدق الصين بحقوق
الانسان او محاربة الفساد حيث يقل الفساد فيها ولا تتباهى بنشر الديمقراطية
ويظل نظامها اليوم يطرح علامات استفهام عن جدوى ربط النمو الاقتصادي
بالديمقراطية ونمطها الغربي وقد برهنت الصين وحدها ان الدولة القمعية تستطيع ان
تنمو اقتصاديا وتقتحم الاسواق العالمية بمنتجاتها دون ان تكون نمطا يحتذى
للديمقراطية وحقوق الانسان.
وقد وجدت بعض الديكتاتوريات العربية كالسعودية مثلا ضالتها المنشودة بالنمط
الصيني، حيث لا نفاق او ازدواجية فالنظام السعودي يوعد شعبه بالرخاء الاقتصادي
على حساب الحقوق السياسية وهو تماما ما تفعله الصين وينظر البعض للتقارب
السعودي ـ الصيني وكأنه محاولة من الاولى تعلم الدروس من الثانية مع اختلاف
البيئات والطاقات والموارد. ربما تكون الصين مثالا حيا لرأسمالية ستالينية
استطاعت ان تحقق نموا اقتصاديا باهرا يخيف الغرب ويرجفه الا ان الوضع السعودي
يختلف حيث ان السعودية تصدر مادة خام واحدة بينما تصدر الصين اطنانا من
المنتوجات التي تستوعب ملايين من اليد العاملة المدربة لذلك نجحت التجربة
الصينية وستفشل التجربة السعودية التي تعتمد على منظومة القمع مقابل النمو.
فالقمع يتزايد الا ان النمو يبدو باهتا في المدى القريب والبعيد وحتى هذه
اللحظة فشلت مشاريع التنمية السعودية في القضاء على البطالة بينما تبقى الصين
تستثمر يدها العاملة ذات الاعداد الهائلة. وتبقى العلاقة مع الصين علاقة تشوبها
علامات الاستفهام خاصة وان النظام السعودي يلوح بها ليخيف واشنطن والتي تعيد
وتكرر ان امن السعودية لا تستطيع الصين تأمينه بل سيبقى في يد الولايات المتحدة
وآلتها العسكرية المنتشرة في المنطقة.
تسمح الولايات المتحدة للسعودية باقامة علاقات غزل خجولة مع الصين الا انها
مستعدة لايقاف هذه العلاقة ساعة ما تشاء وستأتي الثورة العربية الثانية لتكشف
خبايا المستقبل وتضع النمط الغربي المختصر بالانفتاح الاقتصادي والرأسمالية مع
الديمقراطية او النمط الصيني المتمثل بالرأسمالية المركزية مع القمع على المحك
وستجد الشعوب العربية بما فيها الشعب السعودي امام خيارين.
الامريكي او الصيني. وبغياب المبادرة العربية والخيار العربي المرتبط بثقافة
محلية ستتحول الثورة العربية الثانية الى عملية تقليد بحتة تستلهم من هذا النمط
او ذاك.
مع الاسف يبقى الخيار العربي غائبا غيبته عقود القمع الفكري والحجر على العقول
حتى جفت المنابع رغم تراث ضارب الجذور وعميق الآبار. اين هو خيارنا اليوم ومن
اي بئر يأتي الالهام؟