صحيفة السفير
من وحي الثورة الفرنسية بوصفها مرجعية الثورات العالمية خلال القرنين
الماضيين، ظهر مصطلح الثورة المضادة منذ الأيام الأولى التي أعقبت نجاح الثورة،
وكانت تحيل الى أفراد وجماعات ودول عارضت الثورة، وكانت تخشى المثل السياسية
للحقوق التي ستغزو المناطق المجاورة وتحرّض على الثورات فيها. لقد بدا واضحاً
أن التحوّلات الاجتماعية والرأسمالية والصناعية في أوروبا، ساهمت بصورة مباشرة
في تنمية حركة الثورة المضادة، التي وجدت طريقها الى بقية قارات العالم، حتى
باتت عدوى الثورة المضادة قدراً لا مناص منه في كل الثورات الشعبية، خصوصاً حين
تستهدف الأخيرة تحويلاً شاملاً للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أي
قلب البنى الفوقية واستبدالها بأخرى.
في الثورات الشعبية العربية التي انطلقت في تونس في كانون الأول (ديسمبر) من
العام الماضي، سرٌ ثمين، يلخّص حقيقة الخروج التاريخي للدولة المشرقية، مفاده
أن الكيانات القائمة من المحيط الى الخليج ليست دولاً، بالمعنى الحديث والحقيقي
للكلمة، بل سلطنات قديمة في رداء جديد. وأن الأشكال المتعدّدة لهذه الكيانات لا
يغيّر من جوهرها بكونها عوائل حاكمة في هيئة دول، ولو استطال الزمن لوجدنا
دولاً على غرار الدول الأموية والعباسية والعثمانية والصفوية والقاجارية..
والسعودية.
ثمة مفارقة تاريخية مدهشة أماطت الثورات العربية اللثام عنها، وتتلخّص في
الآتي: أن الشعوب أشدّ إيماناً بالدولة من الحكّام. قبل سبر الأعماق، نضع أمام
القارئ مثالاً عابراً: تتوارى في شوارع اليمن السعيد كل مظاهر التسلّح للاحتجاج
على استبداد السلطة، ويتوافق المحتجّون في شطري اليمن على الاعتصام بأدوات
الدولة لإسقاط النظام، فيما يلوذ رأس النظام بخطاب ما قبل الدولة لمواجهة
الاحتجاجات الشعبية. للمرء أن يتخيّل كيف في بلد يتداول فيه الناس قطع السلاح
جنباً إلى جنب مع الرغيف، يصرّ فيه المتظاهرون على مواجهة رصاص السلطة بصدور
عارية.. نداء (سلمية سلمية)، اندغم على نحو عاجل في قائمة الشعارات المرفوعة في
كل الثورات العربية الراهنة، الأمر الذي تسبب في إرباك المتربّصين بحركة الشعوب
المطالبة بالديموقراطية، ودفع بها للتسلّل الى الثورات من بوابة الثورة
المضادة.
أخذت (الثورة المضادة) في الوطن العربي أشكالاً عدّة، ربما كان أقصاها وأظهرها
الصدام المسلّح في ليبيا، ولكن هناك أشكالاً لا تقل خطورة ومأساوية. من بينها
اختطاف الأجندة الثورية، ويتمّ ذلك حينما تتبنى جماعة مجهولة الهوية غالباً، أو
تزعم السلطة ذلك، هدفاً ليس مدرجاً في قائمة أهداف الثورة، كالقول بأن خطّة
الثوار تهدف إلى تقسيم البلاد إلى إمارات صغيرة، أو إقامة دولة دينية، أو حتى
تصفية وجود جماعة أخرى، وهذه التهمة سارية في ليبيا، واليمن، والبحرين..
شكل آخر من الثورة المضادة وجدنا صورته في إزالة (دوّار اللؤلؤة) في العاصمة
البحرينية، المنامة، في ما يشبه (تدمير الذاكرة)، لناحية تفتيت مركز الحشد
الشعبي، وتشتيت الجموع الثورية، تمهيداً لتبديد أهداف الثورة. لم يكن إسباغ
الطابع الطائفي على الثورة الشعبية عابراً، تماماً كما لم يكن شعار (لا سنيّة
لا شيعية وحدة وحدة بحرينية) هو الآخر بعيداً عن الهاجس الحاضر لدى الثوّار.
محو الذاكرة الثورية بالطريقة التي تمّت في البحرين بعد دخول قوات درع الجزيرة
يمثّل أحد أشكال الردّة عن الدولة، في صورة تحطيم أسس العلاقة السويّة بين
المجتمع والسلطة، والوصول بالنزوع العصباني الى أقصى ما يمكن أن تصل إليه
القطيعة مع الأهل.
اجتياح شبكة التواصل الاجتماعي كان هو الآخر شكلاً من أشكال الثورة المضادة،
فقد تنبّه المستبدون وأشياعهم إلى أن الثورات تبدأ على الشاشة ثم تنتقل الى
الشارع، ولا بد من إجهاض الحمل الثوري قبل بلوغه مرحلة يصعب فيها التحكم في
سلوكه. ثمة ظاهرة (استزلام الكتروني) بدأت في الوجبة الثانية للثورات العربية
(اليمن، ليبيا، البحرين)، وتحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) على
وجه الخصوص، إلى ما يشبه ساحات حرب افتراضية بين الثوّار والطغاة، وتمّ تجنيد
المئات من الأفراد بهدف العبث بالذاكرة العامة والتشويش على حركة الوعي الثوري،
من خلال إطلاق موجات متواصلة من الشائعات، والأخبار المفبركة لإجهاض أي تحرّك
شعبي، وشن حرب نفسية للتهويل على الثوّار وإخافتهم من الخروج إلى الشارع. لا
يكاد جهاز أمني عربي اليوم لا يمتلك حسابات وبأعداد هائلة في مواقع التواصل
الاجتماعي تحت أسماء وهمية، من أجل احتواء الإرهاصات الثورية في مرحلة مبكّرة.
العامل الخارجي، وهو الأخطر على الإطلاق، يلعب اليوم دوراً مركزياً في الثورة
المضادة، وتبدو أصابعه ممتدة في كل الأجندات الثورية. في مصر، التي كان مقدّراً
لها أن تصبح أم الثورات العربية، جرى توظيف كل المكابح الممكنة لإبطاء حركة
التغيير في نظامها السياسي، وتمّت مشاغلة الثوّار بطائفة مفتوحة من التدابير
البيروقراطية للحيلولة دون انتقال سريع للسلطة.. ثمة وخز ضروري لدور المؤسسة
العسكرية المصرية، بعد أن تحوّلت في نظر كثير من الثوّار الى (بقرة مقدّسة)
تحصّنت في لحظة تاريخية حاسمة أمام المساءلة والنقد، ولكنها توضع اليوم على محك
الجدارة في صون أهداف الثورة.. من ثوّار 25 يناير من يرسم خطّاً فاصلاً بين
قيادات المؤسسة العسكرية والجيش، بوصفه رمزاً للكرامة الوطنية في مصر، على
قاعدة أن الطبقة القيادية في الجيش جزء من حمولة النظام السابق.
دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين في 15 آذار (مارس) الماضي شكّل اختراقاً في
تجارب الثورة المضادة، فهذه القوات بحسب تصريح لأمير الكويت الشيخ صباح السالم
الصباح في مؤتمر صحافي هي مصمّمة لحماية الدول من عدوان خارجي، وليس للتدخل في
شؤون داخلية، ولكن القوّات التي اجتاحت الجزيرة الصغيرة تجاوزت حتى مجرد إخماد
الثورة الشعبية السلمية، وراحت تمارس سياسة (تطهير طائفي) في ظل غطاء دولي عبّر
عن نفسه صمتاً تارة، وتبريراً يثير الشفقة تارة أخرى..
منذ تخلي مبارك عن منصبه، باتت المجابهة في جزء جوهري منها مع قوى خارجية جاءت
بخطة احتواء شاملة لكل الثورات العربية. لعل أخطر تدابير الاحتواء أن تقلب
القوى المناهضة للثورة ظهر المجن، فتتولى هي تفجير وإدارة ثورة هنا أو هناك،
وأصبح الصراع بين الدول العربية منصرفاً الى قدرة أي منها على تحريك ثورة هنا،
أو إفشال ثورة هنالك. مسؤول خليجي أبلغ القيادة السورية بأن (البحرين في مقابل
سوريا)، على قاعدة طائفية، فيما ركبت قوى سياسية متصارعة في المنطقة موجة
الثورات لتصفية حسابات قديمة أو ثارات عالقة..
إإن أشد التصوّرات إملاقاً اليوم هي التي تريد إيصال الحركات الثورية في الشرق
الأوسط إلى مرحلة العقم، بما يجعل كل فعل ثوري مشبوهاً، لأنه يؤول الى الفوضى
وسيل الدماء. أولئك الذين يشيعون تصوّراً زلقاً عن الثورة، يديرون في الخفاء
أدوات الثورة المضادة (الحرب الأهلية، التقسيم، الطائفية..الخ). إنها، بحسب
التراث النازي، (خلط الأفكار) بطريقة هابطة، حيث تنفصل المعاني عن الألفاظ،
فتصبح الثورة تمرّداً، والحرية فوضى، والوحدة طائفية.
لا تتم مطالبة الدول الحليفة للولايات المتحدة والغرب عموماً اليوم بإجراء
تغييرات في بنية النظام السياسي، ولا إدخال إصلاحات جوهرية على النظامين
التشريعي والقضائي. مشهد التكالب على ليبيا لإطاحة القذافي في مقابل العماء
المخزي عن دور مناقض في البحرين (جيش تحرير في ليبيا مقابل جيش قمع في البحرين)
يضع المجتمع الدولي أمام عالم النفاق الذي ينتمي إليه.
ظاهرة المصادرة الجارية للمجــهود الثوري تــجري على قـدم وساق، ففي مصر لم يعد
ثوّار 25 يناير هم من يقرر ويدير عملـية التـحوّل السياسي حتى بوتيرته البطيئة،
وهو ما يفــسّر عودة التــظاهرات المليونية مجدداً الى الشارع خشية سرقة منجزات
الثورة (المأمولة أو التي لم تكتمل)، كما يفسر أيضاً (ثورة الشك) التي اندلعت
في الأوسط الشعبية عن مسار الثورة ومآلها. يقال الشيء نفسه عن ثورة تونس التي
بالرغم من تشكيل مجلس لمراقبة تنفيذ أهداف الثورة، فإن نوبة الارتيــابات تراود
الثوّار حيال ما تمّ إنجازه حتى الآن، وما يتربّص بالثورة من أخطار كامنة. يردد
الثوّار في تونس ومصر أن الدكتاتور رحل ولكن الدكتاتورية ما زالت باقية.
في اليمن، الثورة تسلك درباً ذا طابع حضاري قلّ نظيره، فيما تتحيّن كل القوى
المضادة داخلية وخارجية فرصة الانقضاض عليها. يبدي الثوّار اليمنيون لياقة
عالية في التعاطي مع محاولات الاستدراج المستمرة للوقوع في فتنة المزايدات
والمساومات. مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي جاءت متأخرة، وتنبّه الثوّار إلى
منزلق الاستغلال الذي يمكن الوقوع فيه.. وأثبت الثوّار بأنهم قادرون على حراسة
القيم الثورية التي ناضلوا بصدور عارية من أجلها.. السعودية سعت عبر حلفائها
القبليين أو في (اللقاء المشترك) أو حتى في المعارضة الجنوبية إلى تمرير صيغة
انتقال سلس للسلطة يكفل نفوذها في المرحلة المقبلة.
وفي ليبيا، ينغمس الثوّار في العمل العسكري الذي لا يبدو أن ثمة خياراً بديلاً
لمناجزة نظام القذافي، فيما تنشق الساحة السياسية عن شخصيات من داخل النظام
مقرّبة من الغرب، مثل وزير الخارجية ورئيس الاستخبارات السابق موسى كوسا (الشخص
المسؤول عن العلاقة مع الدولة العبرية)، في خطوة جاءت بعد زمن من استقالة علي
عبد السلام التريكي، ممثل ليبيا في الأمم المتحدة، والتي أثارت سؤالاً حول
القرار المفاجئ والمبكر بالاستقالة في لحظة لم يكن مسلسل الاستقالات قد بدأ حتى
ذلك الوقت..
ما يقلق الجماهير العربية اليوم هو مفاعيل الثورة المضادة، التي تجري عبر
مبادرات من لدن دول إقليمية أو منظّمات دولية أو حتى قيادات محلية لناحية تعطيل
الحركات الداعية للديموقراطية في الشرق الأوسط. ما يبعث الاطمئنان حتى الآن، أن
الاجيال الثورية الشابة ما زالت عصيّة على استهدافات الثورة المضادة. فالأخيرة
تلعب في مضمار القوى السياسية والاجتماعية التقليدية العاجزة، حتى اللحظة، عن
احتواء شباب الثورة في مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين..