منذ قيام الدولة السعودية عام 1932 كان ثمة نزوع الى الدمج بين خطابين
متناقضين، الخطاب الديني والخطاب الدولتي، الهدف منه تحديداً هو توفير مشروعية
دينية لمتطلبات بناء وترسيخ دعائم الدولة السعودية. فكان أساس مشروعية الدولة
هو: الامتثال لاملاءات الشريعة الاسلامية بحسب التفسير الخاص بمذهب الشيخ محمد
بن عبد الوهاب وثانياً الحق التاريخي او ما عبر الملك عبد العزيز في كلمة
مشهورة عنه بـ "ملك الاباء والاجداد".
من الناحية النظرية يفترض ان هذا الاساس الثنائي التوجيه يكون مصدراً صلباً
يغذي مشروعية الدولة ويوفر جزءاً كبيراً من استقرارها. وقد نجحت الدولة
السعودية في توظيف الخطاب الديني/السياسي القائم على اساس التفسير الوهابي
للدين والحق التاريخي للعائلة السعودية في توحيد منطقة نجد تحت سلطة مركزية.
بالنسبة للمناطق الاخرى، لم يتحول هذا الخطاب الى الوصفة السحرية التي تركت
مفعولاً مدهشاً في منطقة نجد فكان اللجوء الى القوة العسكرية والاخضاع الجماعي
وحده الكفيل باخضاع باقي المناطق والحاقها بالسلطة المركزية في نجد.
وكان التحام الاجزاء الكبيرة من الجزيرة العربية في وحدة سياسية وقيام دولة
حديثة عاصمتها الرياض قد تطلب خطاباً جديداً يتناسب ومنطق الدولة ويختلف كلية
عن خطاب الفتح الذي سبق قيام الدولة تماماً كمنطق الثورة ومنطق الدولة.
ما حدث ان ذات المكونين للخطاب السياسي السعودي: التفسير الوهابي للدين والحق
التاريخي للعائلة السعودية اعيد توظيفهما في بناء مشروعية وسياسة الدولة، بل
وتعميمهما في كل مجالات عمل اجهزتها الادارية. وكان مدهشاً ان الخطاب الذي من
اجله استعمل لتعبئة قوات ابن سعود لغزو المناطق غير النجدية قد اعيد انتاجه في
فترة بناء الدولة، وهي فترة غالباً ما تستثمر لجهة خلق هوية وطنية وانسجام
داخلي كشرط ضروري للاستقرار السياسي الفعال والمتوازن. ففي المناهج التعليمية،
كمثال بارز، يتم تدريس سكان المناطق غير النجدية العقيدة الدينية وفق التفسير
الخاص بالشيخ محمد بن عبد الوهاب وهو تفسير يحمل في طياته نبذاً ضمنياً للعقائد
السائدة في المناطق الاخرى بدءاً بالتفسيرات الدينية الاخرى في المجال السني
(المالكي والشافعي في الحجاز) والتفسيرات الاخرى الشيعية في الجنوب والمنطقة
الشرقية من البلاد. ولعل من اهم واخطر الدلالات التي تركتها العملية التعليمية
وفي بعدها الديني حصراً انها غذت روح الانشقاق داخل مجتمع كان بحاجة الى تأهيل
مكثف بسبب الاستقطابات الحادة بداخله على اساس قبلي ومناطقي ومذهبي. وكلما
ازداد اصرار الدولة على افساح المجال لخطاب ديني يحتمي بها وان يعمم نفسه
بطريقة اقحامية كلما تعززت مبررات الانشقاق الداخلي وبالتالي تصديع الوحدة
الوطنية. فليست العملية الانشقاقية تتطلب دائماً وجود حركة انفصالية مسلحة كي
تعزل نفسها وأتباعها عن الدولة فيكفي ان تقوم الدولة بفرض خطابها الخاص على
باقي المناطق الملحقة عبر قوة السلاح كي تغذي مشاعر الانفصال والانقسام
داخل جماعات ومناطق وجدت نفسها خاسرة ومتضررة وعلى هامش الدولة الموحدة بحيث
يكون المطلب الانفصالي طاغياً على افراد الجماعة بكاملها.
كان الاعتقاد بأن العامل الديني سيمثّل المكون الرئيسي لهوية الدولة السعودية
الحديثة والاساس الراسخ لمشروعيتها وفوق ذلك القوة التوحيدية للمناطق المكونة
للدولة. ولكن بمرور الوقت ثبت بأن هذا العامل تحول الى عامل انقسام خطير داخل
مجتمع مازال عاجزاً عن الدخول في مشروع وحدودي حقيقي بسبب الالحاح الشديد
والمتواصل على تعميم خطاب دين الدولة الرسمي.
فالخطاب الديني المبارك من الدولة او المباح له بالانتشار والتغلغل يعكس نفسه
في عمل اجهزة الدولة وفي خط سيرها وفي سياساتها الاقتصادية والامنية وفي توزيع
الخدمات ومشاريع البناء بل وفي نظرة الدولة الى رعاياها. فالاحساس المتصاعد
والمتفجر احياناً في بعض المناطق السعودية ازاء حالة الغبن والتمييز الذي
تمارسه الدولة في مجالات التعليم والتوظيف والخدمات ليست سوى تعبيرات وتمظهرات
لهذا الخطاب الديني الانشقاقي القائم على اساس النبذ الديني والكراهية والاقصاء
الكلي للمختلفين عنه. ولعل في شعارات المتظاهرين خلال شهري ابريل ومايو
الماضيين والتي طالبت بصورة ضمنية بنبذ التمييز الطائفي "لا سنية لا شيعية
ووحدة اسلامية" المقالات التي تنشر في جرائد خارجية لكتاب شيعة حول حالات
التمييز التي تمارسها بعض الجهات في الدولة ضد المتفوقين في المجال التعليمي من
مناطق خارج نجد هي صورة مكرورة وسابغة خلال السنوات الاخيرة.
سنجد ذات الصورة تتكرر في مجالات اخرى بدءا من توزيع الثروة والخدمات غير
العادل الى التمييز على اساس مناطقي وديني وقبلي، الى الحريات الفردية المنتهكة
والتي تفرض نفسها بالحاح شديد على المؤسسات الدولية لحقوق الانسان للتحقيق
بشأنها، الى قوائم الموقوفين والمطلوبين والقرارات الغاشمة التي تطال المتهمين
و المشتبه بهم ممن قضى خمس سنوات او اكثر بدون تهمة ونال أشكال التعذيب
المتنوعة.
هذه السياسات الفرزية واشكال التمييز بأنواعها تصبح مستساغة حين يسبغ الدين
مشروعيته عليها فتصبح من ضرورات الدين والدولة معاً، فلك ان تتصور ماذا لو اصبح
الشيخ (المكافىء الديني والعرفي لكلمة قاضي) على رأس جهاز مسئول عن أمن الدولة،
فسيكون حينئذ كل من لا ينتمي الى المذهب الرسمي للدولة مصدر تهديد مباشر لأمن
الدولة وبالتالي فهناك قائمة تهم جاهزة لكل القاطنين خارج منطقة التغطية
الدينية الرسمية، وتشمل قائمة التهم هذه من هم في رحم الغيب، فكل من يولد يتم
تسليمه شهادة ميلاد وادانة في آن واحد.
وليس غريباً حينئذ ان يتصور المرء صدور حكم بالقبض على الشيخ محمد علوي المالكي
بتهمة التصوف وتبني اعتقادات مناهضة لعقيدة الدولة الدينية، وأن يعتقل الشيخ
محمد علي العمري بكونه شيعياً مخالفاً لعقيدة أهل السنة والجماعة، وأن يعتقل
الشيخ المكرمي في نجران بتهمة الهرطقة، وحينئذ اما ان يستسلم هؤلاء للدين
الرسمي للدولة او يتعرضوا للفناء الكامل. فهذه النماذج لم تورد على سبيل التخرص
او ترسم صورة قاتمة لوضع متخيل بل لها شواهد على الارض وتجري الآن في المناطق
السعودية وتطال أتباع هؤلاء بصورة متصلة. ولربما جاء يوم يبوح به المتضررون
بصورة مباشرة من الخطاب الديني الرسمي عن قصص معاناتهم.
أزمة الهوية الوطنية
إن المدخل المناسب لفهم عمق أزمة الدولة في السعودية هو معالجة مسألة الهوية
الوطنية التي لم تولد بعد بل تحولت بمرور الوقت الى أزمة تزداد عمقاً واتساعاً
كلما ضعفت قدرة الدولة على ضخ المال الذي به تشتري ولاء القبائل والمناطق أو
عجزت عن توفير مشاريع تنموية تطفىء بها روح الاحتجاج الداخلي.
لفهم هذا الموضوع بصورة أدق يمكن اجراء مقارنة بسيطة. فهناك نحو 60 بالمئة من
سكان السعودية هم ما دون العشرين عاماً، وهذا يعني ان 60 بالمئة ولدوا
بعد انهيار الدولة الريعية في عام 1982 على أساس بداية عجز الدولة عن الايفاء
بالاحتياجات الضرورية للسكان. ففي هذا العام بدأت ميزانية الدولة تعاني من عجز
مزمن في ميزانيتها العامة الذي تراكم بمرور السنوات حتى بلغت الديون الداخلية
للدولة ما يربو على 650 مليار ريال سعودي وهذا بدوره يستقطع نحو 45 بالمئة من
الدخل القومي للدولة.
ان اهم ما تشير اليه هذه الاحصاءات ان التوسل بالرفاه الاقتصادي لتحقيق اكبر
قدر من الضبط والاستقرار والولاء للدولة قد أصبح فعلاً ماضياً، وهذا يلمح الى
ان 60 بالمئة من سكان هذا البلد مصنفون باعتبارهم غير موالين للدولة بناء على
العقيدة التقليدية التي تربط بين الرفاه الاقتصادي والولاء للدولة. ونتيجة يمكن
القول بأن القطاع الاكبر من الشعب يمثل المخزون الاستراتيجي للاحتجاج الشعبي
الذي من شأنه تهديد استقرار ووحدة الدولة. يمكن الاشارة هنا الى أن أحداث العنف
التي شهدتها المملكة بدءا من انفجارات الرياض والخبر والتفجيرات الصغيرة
المتفرقة خلال العامين الماضيين وهكذا حوادث القتل والشغب وتخريب المنشآت
والخطف والسرقة التي وقعت في غضون العقدين الاخيرين قد تمت بفعل اشخاص ينتمون
الى ما يمكن وصفه بمجتمع ما بعد الطفرة.
في ظل الظواهر العنفية المستحدثة تصبح الاسس التقليدية لمشروعية الدولة غير
قابلة للصمود فلا الخطاب الديني الانشقاقي يحقق الآن انسجاماً حتى في مركز
نشأته ونقصد نجد فضلاً عن المناطق الاخرى، ولا الحق التاريخي للعائلة المالكة
يوفر مبرراً صلباً لمجتمع ما بعد الطفرة لتقديم فروض الطاعة والولاء. فالاوضاع
الاقتصادية والامنية المتدهورة تفرض نفسها وبقسوة على صناعة القرار الداخلي،
وأن تآكل الولاء للدولة لا يعني اكثر من تآكل اسس مشروعيتها بدرجة أساسية.
امام هذه المعطيات الضاغطة وبشدة على كافة أجهزة الدولة يكون خيار اعادة تشكيل
الدولة وفق أسس جديدة ملحاً ومخرجاً وحيداً لازمة الدولة للحيلولة دون استفحال
الازمة الراهنة والتي ستفرز أول ما تفرز ظواهر انقسامية تؤدي الى انهيار الوحدة
السياسية للدولة السعودية.
ثمة اجماع بين علماء الاجتماع السياسي بأن الدولة الحاضنة لجماعات ذات تلاوين
ثقافية وتاريخية ولغوية ودينية متباينة أو متنوعة تفرض مسئولية أولية وأساسية
لجهة تحقيق اكبر قدر من الانسجام الداخلي بين هذه الجماعات من اجل حفظ الدولة
واستقرارها السياسي. وهذا الانسجام يتطلب خلق هوية مشتركة عامة تستوعب
الانتماءات الخاصة، كما تتطلب رسم سياسات عامة تحقق اكبر قدر من المساواة في
المجالين الاقتصادي والسياسي بدرجة أساسية. بمعنى آخر ان مهمة الدولة هي توفير
فرص متكافئة لهذه الجماعات كي تتعزز صلاتها ومن ثم خلق شعور عام بضرورة
حفظ الدولة باعتبارها راعية لمصالح هذه الجماعات مجتمعة.
ما جرى في العقود السبعة الماضية ان تغليباً مقصوداً لجماعة دينية ومنطقة
جغرافية وقبيلة على حساب باقي الجماعات والمناطق والقبائل. هذا التغليب تمظهر
في صور شتى مناطقية تارة (حجازي نجدي) ومذهبية تارة ثانية (حنبلي ومالكي وشافعي
وشيعي جعفري وشيعي اسماعيلي) وتارة ثالثة في صورة تجاذب قبلي بين آل سعود
والقبائل الحليفة التي خاضت سلسلة الفتوحات في صفوف قوات ابن سعود في مقابل
القبائل الحاكمة او المناوئة او غير الحليفة لآل سعود. وهذه الصور
النافرة تعبر عن نفسها بألفاظ محددة لدى المنتصرين فالحجازي يرمى باعتباره طرش
البحر وبقايا الحجاج والسني المالكي والشافعي خارج عن اجماع اهل السنة والجماعة
والشيعي الجعفري والاسماعيلي والزيدي يوصم باعتباره مهرطقاً ورافضياً وبحرانياً
واخيراً طابوراً خامساً لدولة اجنبية، والشمري والعتيبي يصنف باعتباره "غير
موالي" وهو توصيف يشمل تقريباً كافة افراد القبائل التي لم تحارب في صفوف ابن
سعود ولم تقدم فروض الطاعة للعائلة المالكة. فقد انتشرت عبارات نقلها بعض
الدبلوماسيين الاجانب من قبيل 110 فولت و220 فولت كتعبير عن التمايز الطائفي،
وتصوير البقرة التي تتغذى في الحجاز وتحلب في نجد وتلقي بروثها في المنطقة
الشرقية كتعبير عن التمييز المناطقي، وما ظهور بعض القصص على صفحات الجرائد
المحلية في الاونة الاخيرة الا رأس جبل الجليد المرشح للظهور التام بفعل تفاقم
الاوضاع الاوضاع الاقتصادية والامنية بشكل مريع.
الحاصل النهائي ان الهوية الوطنية التي كانت الدولة مسئولة عن انتاجها وتعميمها
لم تتحقق وبقي خطاب الفتح هو سيد الموقف، فيما فرضت الدولة معايير ضيقة وخاصة
دينية وسياسية للتعامل مع رعاياها واعتبرت ذلك المقياس الحقيقي لولاء الجماعات
والمناطق والقبائل.
منذ عام 1996 بدأت الدولة برنامجاً جديداً يستهدف بناء هوية وطنية عبر تعميم
مادة التربية الوطنية على المدارس الحكومية للمراحل الابتدائية والمتوسطة
والثانوية. غير أن قراءة متأنية في نصوص هذه المادة تكفي لمعرفة عمق الازمة،
فقد اعيد انتاج قصة الفتوحات السعودية التي تدرس عادة في مادة التاريخ. يخيل
لقارىء هذه النصوص ان مصنفي هذ المادة أرادوا تذكير طلاب المدارس خارج منطقة
نجد بقصة الاحتلال السعودي لمناطقهم والذي تم بقوة السلاح. فمادة التربية
الوطنية لا تحمل في داخلها أي ملمح وطني مشترك، فهي تستهدف بدرجة أساسية غرس
مفهوم محدد حول العائلة المالكة وتراثها الديني والسياسي. بكلمة أن المادة تصلح
لتدريس المنتصرين في نجد، لأنها تعبر تعبيراً كاملاً عن تاريخها ورموزها وارثها
الديني والسياسي.
ان المقالات التي بدأ كتاب محليون بنشرها في جرائد مثل "الوطن" حديثة العهد
و"الاقتصادية" و"عكاظ" تمثل تنفيساً لاختناق داخلي لا يمكن السكوت عنه لبلوغه
حداً بات من الصعب العيش فيه سيما في ظل تراخي أو بطىء سير الحكومة في طريق
الاصلاح الشامل لسياسات الدولة ولبرامجها التنموية بصورة عامة. ورغم التهديدات
الصريحة والضمنية التي صدرت عن وزارة الداخلية في العام الماضي للصحفيين
المشاكسين بالتوقف عن انتقاد اجهزة محددة في الدولة وبوجه خاص الجهاز الامني
(المعروف بالمباحث) الذي باتت ممارسات رجاله موضع استنكار الجميع الا أن ذلك لم
يمنع انتشار ما يمكن وصفه بـ "مخازي" الجهاز الامني في مواقع الانترنت التي
يديرها سعوديون داخل وخارج المملكة. كانت رسالة الامير نايف وزير الداخلية
ورئيس المجلس الاعلى للاعلام واضحة وصريحة لرؤساء تحرير الصحف المحلية، وهذا ما
ظهر في اختفاء أسماء صحافية معروفة وتقلص مساحة التعبير النقدي لدى صحف اخرى
وبالاخص جريدة الوطن التي قررت تمييز نفسها عن باقي الطيف الصحفي المحلي بلغة
شبه نقدية.
خيار الدولة المدنية
ثمة سؤال يفرض نفسه بالحاح: هل يمكن للدولة أن تستبدل أسس مشروعيتها وبالتالي
التخلي عن ارث نفيس طالما استعملته في توكيد شرعية وجودها وحقية قوادها في
الحكم؟
الجواب عن السؤال يتطلب بلا شك بحثاً موسعاً وعميقاً ولكن سنحاول في هذه السطور
استكشاف الاسس البديلة التي يمكن لدولة مدنية ان تولد في بلد ظل لأكثر من سبع
عقود مرهوناً لمكونات شديدة الخصوصية دينية وسياسية.
ان أول ما يثار حول تحول السعودية من دولة دينية الى دولة مدنية هو مصير
المكونين الرئيسين لها: المذهب والعائلة المالكة. وسنكتفي بتسليط الضوء على
المكون الديني للدولة بوصفه الأكثر جدلاً . فقد قامت الدولة على أساس ان المذهب
الوهابي هو المالك الوحيد للتفسير الديني الصحيح للدين وان مهمة هذا المذهب هو
استعمال التبشير الديني والقوة العسكرية لاخضاع أتباع باقي المذاهب لهذا
التفسير المذهبي المحدد. في المقابل يكون استبدال هذا الاساس بأن يتخلي رجال
المذهب الوهابي عن دعوى احتكار حق التفسير الديني وخيار نشر الدعوة في باقي
المناطق، وبالتالي تخفيضه الى مستوى الجماعات الدينية الاخرى مما يؤول في نهاية
الامر الى الفصل بين الدين والدولة.
ورغم ان ثمة مراهنة كبيرة من قبل الدولة على استثمار القوة الدينية النجدية في
ظل غياب بديل وطني يضاهي في قوته ومفعوله القوة الدينية الا ان ظروف البلد
الراهنة والقراءة المستقبلية لاوضاع البلد تلح على البحث عن بديل مدني يخرج
الدولة من أزمتها مع تراجع خطابها الديني التقليدي الذي بات يشكل عائقاً
حقيقاً. فالتيار الديني الاعتراضي الذي انشق في بدايات أزمة الخليج من داخل
مؤسسات كانت ترعاها وتمولها الدولة كان يفترض أن ينبه قادة هذا البلد الى أن
مبرر انشقاقه ضد الدولة هو عقيدة الشراكة الكاملة والمتكافئة مع الدولة فهو لم
يكن يطالب بأكثر من نصفه المنقوص او المتوهم من قبل السلطة السياسية. وليس مما
يثير الغرابة ان تظهرفتاوى تتضمن احتجاجاً على سياسات الدولة واحراجاً لها
فأصحابها يتصرفون باعتبارهم فوق الدولة وليس تحتها. وللسبب نفسه يشعر رجال
المؤسسة الدينية باطمئنان تام وهم يشحنون جمهور الاتباع بخطاب ديني تمزيقي
مشفوعاً بالفتاوى والمحاضرات المسجلة على اشرطة كاسيت وخطب الجمعة والجماعة دون
تدخل من الدولة بل يعتبر محاولات ايقاف الحرب الدينية ضد خصومهم خذلاناً من قبل
الدولة وفصماً للعقد الديني المبرم مع المذهب.
ان بداية نشوء دولة مدنية متوقف على رسم سياسة مدنية شاملة تعكس نفسها في تخفيض
الخطاب الديني الرسمي في التعليم الحكومي، وفي افساح المجال لمؤسسات المجتمع
المدني للتشكل والانتشار وفي تشجيع ثقافة وطنية مشتركة، وفي تطوير وتفعيل دور
مجلس الشورى بحيث يضم بداخله نخبة وطنية من كافة المناطق عن طريق صناديق
الانتخاب وهكذا توسعة صلاحيات مجلس الشورى تمكنه من رسم سياسات واقتراح مشاريع
لتسوية مشاكل الدولة الحقيقية. ومن جهة ثانية ارساء أساس متين لقيام نظام
لامركزي حقيقي وفعال في ضوء نظام المناطق المحلية المعمول به حالياً، بما يضمن
اداءً فعالاً وناجعاً لبرامج الدولة التنموية يرعى فيها حاجات كل منطقة
ومتطلباتها بالاستعانة بخبرات وممثلين عن كل منطقة في مجالس المناطق المحلية.
ويتطلب حيال ذلك كله توفر قدر كبير من الشفافية والمحاسبة لمراقبة عمل اجهزة
الدولة ومحاربة الفساد الاداري. فدعوة الامير عبد الله الى ملاحقة الفساد
الاداري لم تحقق نتائج مثمرة بسبب غياب النقد والمراقبة من قبل اجهزة محايدة
فيما بقيت اجهزة ضالعة في تدهور الاوضاع مثل الامن والدفاع خارج المحاسبة.