مستقبل عالمنا العربي لن يكون كماضيه بعد انطلاق ربيع الثورات في اغلب
بلدانه. هذا ما يعتقده الكثيرون خصوصا بعد سقوط رئيسي تونس ومصر.
وقد مضى الآن ثلاثة شهور على الربيع الثوري الذي سبق حلول فصل الربيع الطبيعي،
وما يزال متواصلا. فاليمن اصبح على حافة انهيار سياسي مروع بسبب اصرار علي عبد
الله صالح على التشبث بالحكم، بينما ينتظر الشعب الليبي نصيبه من التغيير الذي
يفترض ان يعقب حمام الدماء التي اراقتها قوات معمر القذافي. وهنا تتكرر تجربة
العراق حيث يحدث التغيير بتدخل القوات الغربية وما يعقب ذلك من احتلال لا يعلم
احد بمداه.
اما البحرين فقد اصبحت تحت رحمة القوات السعودية التي عبرت الحدود قبل ثلاثة
اسابيع وتشارك في التصدي للتظاهرات والاحتجاجات المتواصلة. ولكي تتضح الصورة
اكثر يجدر الاشارة لكل من تونس ومصر اللتين يفترض انهما حققتا التغيير المنشود
من قبل شعبيهما. فقد اصبح واضحا ان التغيير الذي تحقق حتى الآن ما يزال محدودا
وانه لم يقتلع النظامين، بل انحصر باصلاحات محدودة دون تطلعات المواطنين
وطموحاتهم. ومن الضروري الاشارة الى ان هذا الانجاز (ازالة الرئيسين) قد أحدث
حالة ابتهاج كبيرة اثرت سلبا على حالة المد الثوري.
ففي مصر احدث الاستفتاء على التعديلات الدستورية حالة من التشوش لدى الكثيرين
الذين كانوا يأملون بدستور جديد يكتبه الشعب بايدي ابنائه، ولكن ذلك لم يحدث.
هذا مع التأكيد على ان التعديلات التي اجريت وتم التصويت عليها مهمة كذلك. كما
ان الحرق المتعمد لمبنى وزارة الداخلية قد سلط الاضواء على 'القوى الخفية' التي
تعمل من وراء الستار والتي تسعى لاحتواء اثار التغيير، ومنع الكشف عن دور اجهزة
الامن والاستخبارات في قمع الشعب، وكذلك دور القوى الاجنبية (خصوصا الامريكية
والاسرائيلية) في السياسات الامنية والتصدي للمواطنين. وفي تونس حدث انفراج
امني وسياسي عام سمح للناشطين باعادة ترتيب اوضاعهم، وسمح بتسجيل احزاب رسمية
جديدة، ومن بينها حركة النهضة. كما بدأ النظام بتخفيف القيود التي فرضها النظام
السابق في مجال الحريات الشخصية ومن بينها الحق في ارتداء الحجاب الاسلامي،
وعدم تجريم ذلك بالطرد من الجامعات او الدوائر الرسمية. مع ذلك فهناك ترقب حذر
من قبل المواطنين والحركات السياسية والقوى التي عملت لاحداث التغيير، لما
ستتمخض عنه مناورات ما تحت الستار لتحديد شكل النظام السياسي المقبل.
فاذا كان الوضع في البلدين اللذين تصدرا الثورات العربية ما يزال يترنح بين
الاصلاح الحقيقي والشكلي، فماذا عن الدول التي لا تزال ثوراتها مستمرة؟ ثمة
حقائق مهمة يجدر الاهتمام بها.
اولها ان الولايات المتحدة الامريكية مدعومة بالدول الاوروبية فوجئت بالظاهرة
الثورية ولم تستطع حماية رئيسي تونس ومصر. وفي بداية الامر شعرت واشنطن انها
ستكون الخاسر الاكبر لو استمرت الثورات وبقيت داعمة لحلفائها التقليديين. فسعت
في البداية لتغيير لغة التعاطي مع الثورات، واكدت عددا من الامور: اولها ان من
حق الشعوب التظاهر السلمي والتعبير عن نفسها بحرية، وانه لا يجوز قمع ذلك،
ثانيها: ان من حق الشعوب تغيير حكوماتها على اساس مبدأ حق تقرير المصير المنصوص
عليه في المواثيق الدولية. ثالثها: ان على الانظمة العربية اصلاح نفسها، وان
الديمقراطية من حق شعوب تلك البلدان. رابعا: ان الولايات المتحدة قررت ان لا
تقف على الجانب الخطأ من التاريخ، ولذلك فلن تقف مع الانظمة الاستبدادية في
العالم العربي. ولكن سرعان ما تخلت واشنطن عن تلك المبادىء، وعادت مجددا لاقرار
اجراءات القمع التي تتخذها بعض الانظمة ضد شعوبها خصوصا المتظاهرين العزل من
السلاح. الامر الواضح ان واشنطن تراجعت، تحت الضغوط السعودية عما اعلنته في
مطلع العام حول ضرورة السماح للشعوب باختيار حكوماتها والتظاهر السلمي، وعدم
استعمال القوة ضد الابرياء العزل. وقد يدعي المسؤولون الامريكيون التزامهم بهذا
المبدأ، ولكن تطبيقه يتسم بالانتقائية والتحيز. ففي البلدان التي تعتبر
حكوماتها صديقة لها، تلوذ واشنطن بالصمت، او ربما اتخذت موقفا داعما لاستعمال
القوة ضد المتظاهرين، بينما تتخذ مواقف مختلفة في بلدان اخرى. فها هي الآن تدخل
الحرب ضد ليبيا، على غرار ما فعلته في العراق، فكأن التاريخ يعيد نفسه بشكل
واضح بدون ليس او غموض. فواشنطن المستعدة لاستعمال القوة في بلد مثل ليبيا لا
تتردد عن دعم التدخل السعودي العسكري في البحرين، وتعتبر ذلك 'حقا مشروعا لحفظ
الامن'، برغم تأكيداتها السابقة بان المتظاهرين في البحرين لم يمارسوا عنفا.
امام هذه المعطيات التي توضح، مرة اخرى، ازدواجية المعايير والمواقف وغياب
الالتزام بالمبادىء التي يعلن عنها يوما ثم يتم تجاهلها اليوم التالي، اصبح من
الضرورة بمكان اعادة تقييم الأسس والمنطلقات التي تستند اليها هذه الثورات من
جهة، ومدى وفاء الطبقات المثقفة وطلائع التغيير لكل ذلك، ومدى نجاح انظمة
الاستبداد العربية في حرف البوصلة باستغلال التباينات الايديولوجية والمذهبية
والنفسية. فالاستبداد ظاهرة في العالم العربي، حيث يتسلط الحاكم على شعبه،
ويستهدفه في وجوده وحياته وحريته، ويبالغ في استعمال القوة ضد معارضيه. هذه
حقيقة معروفة ليست موضع اختلاف. ولكن الامر المختلف عليه استعمال القوة من قبل
انظمة الحكم ضد مواطنيها، ومدى وجود آليات دولية لمنع ذلك، ومدى استعداد العالم
لاتخاذ اجراءات ضد القمع السلطوي. هذا بالاضافة الى ان من يريد التصدي للنظام
الاستبدادي يدرك خطر ذلك الموقف، ولكنه يأمل دائما ان يتبلور موقف دولي داعم
على اساس ان الممارسة الديمقراطية اصبحت احدى مقومات المجتمع المعاصر، كما هي
حقوق الانسان والحريات الاخرى في مجالات التعبير والتجمهر والانتماء السياسي.
هذه الحقائق، برغم انها مقبولة، تواجه حربا شعواء من الحكومات المعادية
للديمقراطية التي لا ترى انسجاما بين انظمة حكمها التسلطية ووسائل التعبير
الحرة التي تنطق بلسان الجماهير. الامر الذي لا شك فيه ان اشاعة شيء من اجواء
الحرية في اي بلد سوف يؤدي، في نهاية المطاف، لتحريك الجماهير المطالبة بتغيير
نظامها السياسي. والحرية، اذا ما انتعشت، تكتسح المزيد من الدوائر المغلقة امام
المواطنين، وتوسع، بشكل مضطرد، اجواء التعبير، وتكسر بذلك حواجز الخوف، فيكتشف
المواطنون خواء التهديد بالقوة الغاشمة من قبل انظمة الاستبداد.
كيف تتحقق اجواء التغيير؟ ربما الامر الاول ضرورة تعمق مشاعر التحرر في النفوس.
فمن يعشق الحرية لا تستطيع قوة، مهما كانت غاشمة، احتواء تطلعاته. وقد رأى
العالم عجز الجيوش المدججة باعتى الاسلحة، عن تدمير ارادة الثوار. حدث ذلك في
مصر وليبيا واليمن. ويمكن القول ان البحرين تمثل ذروة ما يمكن ان يحدث من
استهداف سلطوي لمعارضيه، خصوصا بعد الاستعانة بالقوات السعودية وتوفر الدعم
الانكلو-امريكي لها. الشباب الثوري لا يخشى عليه من التأثر بمقولات أصحاب
الثورة المضادة، وهم عادة، عناصر منسجمة مع النظام الاستبدادي ومتعايشة معه
ومعتمدة عليه في مدخولاتها المادية. ففيما يشعر الشباب المتحمس للتغيير بقوته
الذاتية، خصوصا بعد ان يتمرد على حواجز الموت والاذى، يقابل ذلك خوف يتعمق في
نفوس النخب السياسية والمثقفة. فهي أشد الاطراف خوفا من المستقبل الغامض خصوصا
عندما يلجأ النظام لاستخدام القوة غير المحدودة بحق طلاب الحرية. والقوة
التعسفية هنا ليست محصورة بالدبابات والمدرعات والطائرات العمودية والرصاص الحي
والمطاطي، ولكنها تضم ايضا الهيمنة على الاعلام المحلي وشراء بعض وسائل الاعلام
الدولية، وتسخير كل ذلك لشن حروب نفسيه متواصلة ضد عناصر التغيير. وقد عمد
الزعماء المستهدفون بالثورات لطرح ثورة اعلامية مضادة تسعى للتشويش على المشهد
السياسي على امل استعطاف القوى الكبرى التي تميل عادة لدعم الانظمة
الاستبدادية. ومن المؤكد ان ما يطرحه الرؤساء والقادة المحاصرون من قبل شعوبهم
يؤثر على القادة الغربيين، ولكن في الوقت نفسه، فان هؤلاء القادة لديهم اجندتهم
الخاصة التي قد تتأثر بشيء من ذلك الطرح ولكنها ليست مرتبطة به تماما.
وهنا يكون لخطاب النخب السياسية دور في التعبئة ضد الحملات الاعلامية السلطوية
لافشالها واضعاف اثرها على الرأي العام. ومن معالم الثورة الاعلامية المضادة ما
طرحته ابواق حسني مبارك في الثالث من فبراير، بان مصر سوف تكون تحت سيطرة
الاخوان المسلمين اذا سقط نظامه، وكذلك زين العابدين بن علي، ثم القذافي وعلي
عبد الله صالح، فكل هؤلاء سعوا لكسب تعاطف الغرب بتحذيره من اسقاط انظمة حكمهم
لان ذلك سوف يدعم موقع الجماعات الدينية. وكثيرا ما ردد القذافي بان الذين
يعارضون نظامهم انما هم تنظيم القاعدة. اما البحرين فاتهمت معارضيها بانهم
عملاء ايران وحزب الله. هذه التحذيرات افتراءات واضحة وانتهازية فاضحة يجب ان
لا تنطلي على المراقبين لان ذلك من شأنه اضعاف روح الثورة وتشتيت الصف. ومع ان
الثورات المتلاحقة اظهرت تراجع دور المثقفين سواء في الاعداد الفكري والنفسي
للثورة ام في استنهاض الهمم ام في طرح التحليلات المؤسسة على الشجاعة النفسية
التي تمنع تسرب اليأس للنفوس، فانهم قادرون على وقف دائرة الجدل حول هذه
القضايا. مشكلة النخبة المثقفة خصوصا في البلدان النفطية ارتماء بعض قطاعاتها
في احضان الانظمة خصوصا بعد ان سيطر المال النفطي على الكثير من وسائل الاعلام
التي تمنع الاصوات المعارضة من الوصول للرأي العام. ومن هنا اصبح المثقفون وذوو
الرؤى والانتاج الادبي والثقافي، مطالبين بان يرسموا باقلامهم مشاهد من الواقع
الذي تعيشه هذه الشعوب، وان تترفع على ادعاءات الانظمة، وعدم الانسياق وراء ما
يطرحون. والطائفية واحدة من القضايا المتفجرة عندما تطرح في اي بلد. ففي مصر
مثلا سعى عملاء النظام السابق لاحداث فتنة بين المسلمين والمسيحيين، ولكن شباب
الثورة تصدى لذلك وافشله لعلمه ان اي نقاش يدور حوله يشق في عضد المقاومين وقد
يحاصر بعض الساسة ويمنعهم من اتخاذ قرارات قوية ولكنها محسوبة.
الثورة هي الثورة، ومطالب الشعوب واحدة، واساليب اعداء الثورة واضحة ايضا. فما
يطالب به الليبي لا يختلف في جوهره عما يطالب به اليمني او البحراني. انهم
جميعا يبحثون عن الكرامة التي توفر لهم كمواطنين القدرة على اتخاذ القرار
والاعلان عن الموقف في الوقت المناسب. اماالحديث عن الطائفية فنغمة ممجوجة
يستطيع المثقفون، في حال تمعنهم في الاوضاع، ورفض الخضوع للاملاءات السلطوية،
كسر شوكتها واطفاء بريقها. المشكلة ان بعض المثقفين يقع ضحية تلك الاقاويل ويجد
نفسه تدريجيا في خندق الاستبداد، مضطرا لمسايرتهم ورفض التحرر من قيودهم او
امتلاك القوة النفسية التي تشجعه على التبرؤ من تلك المقولات. المثقفون هم
عناوين السجال المطلوب بين ابناء المجتمع الواحد، خصوصا في حال الاضطراب
الاجتماعي والسياسي المحلي. اصحاب الاقلام هم القادرون على اضعاف وهج الابواق
السلطوية، بالتمرد على الواقع الذي يسعى الحكام لفرضه بالقوة. هؤلاء المثقفون
قادرون على المشاركة في الثورة بطرح عناوين مختلفة من اجل 'مكافحة الثورة
المضادة' التي من شأنها تدمير جهود الشباب ومحاصرة تطلعاتهم. والمذهبية
والطائفية والارهاب من اكبر المعوقات التي تعترض طريق المجتمعات العربية نحو
التكامل والتفاهم. وليس من قبيل الصدفة ان يتم الترويج للارهاب والطائفية طوال
العقدين الماضيين، اي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. كان الوضع مهيأ لنهضة شعبية
في انحاء العالم الاسلامي للتخلص من الاستبداد الذي كان اداة طيعة للهيمنة
الغربية على العالم الاسلامي. كان واضحا ان الديكتاتورية بلغت ذروتها، بزعامة
التحالف المصري - السعودي الذي كان يمثل الدعامة الاساسية للهيمنة الامريكية
على المنطقة، بالاضافة الى الكيان الاسرائيلي. وبرغم القمع المتواصل للقوى
الناهضة بذريعة التصدي للارهاب تارة والطائفية اخرى، فقد انطلقت الثورات مجددا،
لكنها على ايدي الجيل الجديد الذي ما يزال يتحرك بفطرته، باحثا عن حريته، غير
خاضع لقيود المالي النفطي الذي ملأ الجيوب وأفسد العقول والقلوب.
ثورة الشعوب هذه المرة انفصلت عن واقع مر يتحكم فيه الساسة الديكتاتوريون وجوقة
'المثقفين' و'المطبلين'، فاصبح زمام الامور والقرارات الميدانية بأيدي شباب
الفيسبوك والتويتر، فأثبتوا قدرتهم على تجاوز القوى التقليدية والموانع
السلطوية. لكن تلك القوى بدأت 'الثورة المضادة' واسترجعت تماسكها، بدعم من
الغربيين و'المثقفين' والانتهازيين، فاذا بزمام امور التغيير تتحول اما الى
الديكتاتوريين انفسهم او الى القوى الغربية التي تفرض ما تريده من تغيير بقوة
السلاح، كما يحدث في ليبيا، وما حدث في البحرين، وربما في اليمن والاردن
وسورية. انه صراع جديد بين الشباب الثائر والقوى التقليدية التي منعت التغيير
عقودا، وظن الكثيرون انها قد هزمت، لكنها تعود مجددا الى مواقعها لتعيد الامور
الى المربع الاول، بفضل المال النفطي والسلاح الانكلو أمريكي. هل انتهى ربيع
الثورات؟ هذا ما سنراه في الاسابيع المقبلة، خصوصا مع احتدام الصراع بين جيل
التغيير الشاب، وقوى الاستبداد الموغل في القدم والرجعية والديكتاتورية
والاستكبار.