2011-03-15
ما مصير الثورات العربية؟ هذا هو السؤال الذي يتبادر الى اذهان الكثير من
مراقبي الوضع في هذه البقعة من العالم التي لا تزال أكثر المناطق تخلفا على
صعيد انظمة الحكم ودور الشعوب في المشاركة السياسية، بالاضافة لانتهاكات حقوق
الانسان المتواصلة.
وليس أكثر دلالة على الوضع العربي المتداعي من التهديدات التي تصدر عن الانظمة
عندما يعتزم المواطنون بالتظاهر للمطالبة بحقوقهم المشروعة. فما ان تعلن جهة
شعبية ما عن عزمها على التظاهر في ما اصبح يسمى 'يوم الغضب' حتى يتسابق
المسؤولون لاصدار التهديدات المكشوفة بقمع تلك التحركات بالقوة. ولتأكيد ذلك
يظهر 'الزعيم' الذي هو اساس المشكلة والبلاء في زي استعراضي، جالسا مع جنرالات
الجيش وضباط وزارات الداخلية، كل ذلك من اجل بث الرعب في قلوب الجماهير التي
امتلكت الشجاعة للمرة الاولى منذ عقود وقررت استرجاع شيء من حقوقها باساليب غير
مألوفة في عالمنا العربي المعاصر. لقد كان الآباء والاجداد أكثر جرأة عندما
كانوا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي يملأون الشوارع بجموعهم
وهتافاتهم ضد الاستعمار تارة، وضد احتلال فلسطين ثانية، ودعما للقوى التحررية
في العالم ثالثة. ويمكن اعتبار نصف القرن الفاصل بين نهاية الحرب العالمية
الاولى والانسحاب البريطاني من الخليج في 1971 فترة اضطراب سياسي وامني نتيجة
الصراع على ادارة المنطقة في إثر سقوط الدولة العثمانية. مع ذلك كان هناك فضاء
معقول من الحرية سمح للمواطنين بالشعور بقدر من الكرامة، فكانت مسيرات الدعم
للثورة الجزائرية في النصف الاول من الستينات، ومسيرات دعم فلسطين، والانتفاضات
التي حدثت ضد الاستعمار البريطاني في الخليج، خصوصا عمان والبحرين.
ويمكن القول ان دخول المال النفطي على الخط في منتصف السبعينات أدى الى تغير
جوهري في الفضاء السياسي. ويعتبر دخول المملكة العربية السعودية في مرحلة
الفراغ القيادي في العالم العربي برحيل الرئيس جمال عبد الناصر، ثم خروج مصر من
الحظيرة العربية بعد توقيعها اتفاقات كامب ديفيد، بداية النفق السياسي المظلم
الذي كرس الاستبداد والفساد والتبعية والخضوع امام الهيمنة الامريكية. وما
التدخل السعودي العسكري في البحرين هذا الاسبوع الا مؤشر على طبيعة هذا النظام
الذي يسخر صفقات السلاح العملاقة لضرب الشعوب، ولم يوجهها يوما لأعداء الامة.
الثورات الجارية في العديد من البلدان العربية تعتبر صحوة ضمير متأخرة ولكن
ضرورية لاعادة التوازن لامة مؤهلة للقيام بدور ايجابي على الصعيدين الاقليمي
والدولي، ولكن ضعف حكامها افقدها فرصة الصحوة من السبات واداء تلك المسؤولية.
وبعد قرابة الشهور الثلاثة على تلك الصحوة التي اشعلها استشهاد محمد بوعزيزي في
تونس، ما تزال ثورات الشعوب متواصلة، وتزداد توسعا. يوازي ذلك جهود اقليمية
وغربية مكثفة لاحتواء تلك الثورات ومنعها من تحقيق اهدافها في التغيير الشامل.
مع ذلك يمكن القول ان التغير المتوقع في مصر بعد سقوط حسني مبارك لن تقتصر
آثاره على حدود ذلك البلد، بل ان العالم العربي لن يبقى كما كان، بل سيشهد
تغيرات متواصلة نحو الافضل. فقيام نظام سياسي منتخب ومدعوم بارادة شعبية حرة
امر لا ينسجم مع ظاهرة الاستبداد التي هيمنت على المنطقة عقودا، والتي يستعمل
المال النفطي لاطالة امدها.
الغريب ان يبقى مجلس التعاون الخليجي مصرا على الاعتقاد بامكان شراء الشعوب
بذلك المال النفطي. فبدلا من اتخاذ قرارات شجاعة لاصلاح الانظمة السياسية في
بلدانه، والاستماع لمطالب الشعوب المشروعة، اصدر المجلس الوزاري بعد اجتماعه
الاسبوع الماضي في الرياض قرارا بتخصيص 20 مليار دولار لدعم كل من سلطنة عمان
والبحرين على مدى عشر سنوات، اي بمعدل مليار واحد سنويا لكل منهما. والسؤال
هنا: ما علاقة هذا الدعم بالمطالب السياسية التي يرفعها المتظاهرون وتطالب بها
شعوب تلك الدول؟ وفي ظل انظمة تمارس الفساد، ما الضمان لوصول تلك الاموال الى
المشاريع التنموية المزمعة؟ ولو افترضنا جدلا ان المطالب الشعبية تمحورت حول
الحياة المعيشية وازمات السكن والوظيفة والغلاء، فهل ان الدول التي لا تعاني من
ذلك لن تتعرض للهزات الثورية؟ السعودية نفسها شهدت الاسبوع الماضي موجة من
التظاهرات في ما سمي 'يوم الغضب' عندما خرجت المسيرات الاحتجاجية في بعض مدن
المملكة. هذه الصحوة كانت كافية لتهميش مقولات الانظمة السياسية العربية
ومحاولاتها اضفاء صبغات مختلفة عليها. ولذلك باءت اساليب احتواء هذه الثورات
بالفشل، ولم تنجح في اي بلد حتى الآن.
مع ذلك لا بد من الاعتراف بقوة اللوبي الرسمي الذي يسعى لمحاصرة تلك الثورات
وافشالها ان امكن، خصوصا انه مدعوم باموال نفطية هائلة، ومواقف سياسية غربية
غير معلنة. ويمكن تصنيف الثورات والبلدان التي وقعت فيها ونتائجها الى ثلاثة:
الاول يتمثل بتونس ومصر. فقد سقط رئيسا الدولتين، وتواصلت مساعي التوصل الى صيغ
جديدة للحكم والادارة، بالابقاء على الدولة ومؤسساتها وحصر التغيير بالرأسين
والحواشي القريبة جدا منهما. وهذا شبيه بما يجري في الانظمة الغربية التي تتغير
حكوماتها بعد الانتخابات البرلمانية، ولكن تبقى الدولة قائمة بدون ان يتأثر
دورها او آلياتها. هذا على عكس ما حدث في العراق عندما سقط النظام والدولة معا.
والواضح ان الجهود بذلت ليس لمنع سقوط الدولتين فحسب، بل لحصر ضرر النظامين
وعدم توسيعه. ولذلك فان اعادة صياغة النظام السياسي الجديد في هذين البلدين
مسألة صعبة ما تزال تتحدى الثوار من جهة وآليات الدولة المتبقية من جهة اخرى.
ويمثل اليمن والبحرين نمطا ثانيا من الثورات الشعبية، اذ يطالب المتظاهرون
بمطالب محددة من بينها اسقاط النظام، بينما تتواصل الجهود المحلية والخارجية
لمنع سقوط النظام، والسعي للتشويش على المطالب بحصرها بتغييرات محدودة كالتغيير
الدستوري والانتخابات البرلمانية غير مضمونة النتائج. اما النوع الثالث فيتمثل
بالدول الاخرى التي حدثت فيها اضطرابات امنية وسياسية ولكن مطالب المحتجين فيها
محدودة وتقتصر على اصلاحات محدودة في النظام السياسي القائم، ولا يطالب
المحتجون باسقاطه. فما حدث في سلطنة عمان والامارات والكويت يمثل هذا التوجه.
وفي جميع الاحوال فالواضح ان الدول الغربية تبذل، هي الاخرى، جهودا متواصلة
لمنع نجاح ثورات الشعوب العربية بأي ثمن. وتمثل ليبيا الحالة الاشد إيلاما، اذ
يتواصل الضغط لمنع سقوط نظام القذافي في الوقت الحاضر لاسباب مثيرة للشك. فاذا
كان سقوط مبارك وبن علي قد فاجأ الدول الغربية التي لم تكن متهيئة لذلك، فقد
استطاعت استيعاب الموقف وادركت ان سقوط المزيد من الحكام العرب من شأنه تكريس
قناعة دعاة الاصلاح في شبه الجزيرة العربية بامكان تحقيق آمالهم باسقاط انظمة
القمع والاستبداد التي تعتقد انها خالدة الى الابد.
الثورات العربية خلقت اجواء غير مسبوقة تجسد فيها السباق بين ارادة التغيير
واعدائه، المحليين والاجانب. وللمرة الاولى منذ عقود يشعر المواطن العربي
العادي انه اصبح فجأة 'شيئا' لا يمكن تجاهله، ولا يستطيع احد الغاءه. وثمة
توازن صعب يسعى شباب الفيسبوك والتويتر للحفاظ عليه بين استرجاع اول حق مسلوب
في بلدانهم وهو حق التظاهر والاحتجاج من جهة ومن جهة اخرى الخشية من غضب
السلطات التي ما تزال تهيمن على القوات الامنية والعسكرية، وما تزال تمسك بزمام
الامور وتستطيع حرمان من تعتبرهم اعداء من الحقوق والخدمات الاساسية. وبلحاظ ما
حدث في السعودية يوم الجمعة الماضي اصبح الوضع مفتوحا على كافة احتمالات
التغيير. فما كان من المحظورات قبل ذلك اصبح اليوم ممكنا بعد ان تم كسر حاجز
الخوف وفقدت ادوات القمع بذلك فاعليتها واثرها على قرار المشاركة في
الاحتجاجات. ولعل الجانب الاهم في كل هذه المعادلة نجاح المحتجين في القضاء على
ما كان يسمى 'هيبة الدولة'. هذه الهيبة كانت مفتعلة وجوفاء ومن طرف و احد.
فاعتماد النخب الحاكمة على اجهزة الامن والجيش خلق اجواء افتراضية تستعصى على
التحديث، واصبحت تدريجيا خارج اطر التعامل الانساني وفق المنظومات الدولية. هذه
الاجواء الافتراضية تلاشت في اغلب الدول العربية بعد انطلاق ابنائها في ثوراتهم
وانتهاجهم ما يشبه العصيان المدني بشكل غير مسبوق. فاذا كان الشعب الليبي قد
نجح في كسر الطوق الامني الذي فرضه نظام القذافي عليه، وحمل السلاح لمواجهة
العدوان المتواصل على ايدي مؤيدي القذافي، فان شعبا آخر كشعب البحرين استطاع هو
الآخر كسر هذه الاطواق، وتجاوز قائمة المحظورات الرسمية، ودخل عالم النضال من
اوسع ابوابه، ورفض اساليب التخويف والارجاف، فخرج في مسيراته العملاقة باتجاه
قصر الحاكم، الامر الذي يحمل مغزى كبيرا حتى في نفوس الموظفين الكبار الذين
اصبحوا يرون باعينهم تراجع الرموز التقليدية على مستوى الشعبية والاداء والقدرة
على التحدي. وحتى عندما اجتاحت القوات السعودية اراضيه لم يتزحزح عن موقفه، بل
بقي صامدا واصبح اكثر اصرارا على التغيير بعد ان اثبت الحكم هشاشته فاستدعى
الآخرين لغزو البلاد من اجل حمايته.
هناك اذن طاقات مختزنة في نفوس الشبان العرب منذ عقود، تفجرت الآن في ثورات غير
معهودة منذ اكثر من اربعين عاما. والسؤال الآن: هل سيتحقق التغيير المنشود حقا؟
وما هي المعوقات التي تمنع حدوثه بالسرعة والحجم المطلوبين؟ الامر المؤكد ان
ظاهرة 'الدومينو' او التساقط المتسلسل ليست خيارا مقبولا لدى لغرب لانها تعني
التغيير الشامل الذي لا يخدم مصالحه. مشكلة هذا الغرب الذي طالما تحدث عن رغبته
في ترويج الديمقراطية، اصراره على الانتقائية والازدواجية ازاء هذه القضية
المهمة. والمشكلة الاخرى ان الولايات المتحدة الامريكية تعاني من تشوش الموقف
وتداخل الاولويات والشعور باضطراب المصالح. وهناك كذلك قدر من التضارب بين
سياستي البيت الابيض والخارجية، اتضح في الايام الاخيرة من حكم حسني مبارك،
عندما كان الرئيس اوباما يطالب بتنفيذ الاصلاحات 'فورا' بينما كانت الخارجية
تدعو الى 'الشروع ببدء الاصلاحات في اقرب فرصة ممكنة'. المشكلة الثالثة
ايديولوجية تتصل بالموقف من الحركات الاسلامية التي لا يمكن اخفاء دورها في
إعداد الارضية للتغيير. فهناك رفض غربي متواصل للتحاور مع هذه الحركات، على
الاقل في الخطاب العلني، ولكن في الوقت نفسه يشعر هؤلاء بان استثناء الاسلاميين
من الحوار يضر مصالح الاطراف الغربية اكثر من الحركات نفسها. ومع ان من غير
المتوقع ان يكتسح هؤلاء الاسلاميون اصوات الناخبين في انتخابات مؤسسة على دستور
شرعي يقره الشعب، فان حجمهم السياسي لن يكون قليلا. وربما الامر الاهم ان
الحركات الاسلامية الآن تختلف عما كانت عليه قبل ربع قرن، فقد اكتسبت خبرة
سياسية من جهة، وتغيرت الظروف من جهة اخرى، ونضجت نظرتهم للاوضاع السياسية
المحيطة، واصبح الكثير منهم 'براغماتيا' من جهة ثالثة. هذه الحقائق تضغط على
اصحاب القرار السياسي وهم يواجهون تحديات التغيير الذي تنشده الشعوب العربية.
الاسابيع والشهور المقبلة سوف تكشف مدى قدرة الاطراف السياسية، الاسلامية ام
القوى الغربية، على التوصل لصيغ تعايش في مناخات جديدة خالية من حكام الاستبداد
الذين اصبحوا عبئا ليس على شعوبها فحسب، بل على حلفائهم في العواصم الغربية.
وهذا امر من شأنه ان يصيب عملية التغيير بشيء من الشلل خصوصا اذا اصر الغربيون
على تغيير مواقفهم وسياساتهم، ووفروا للانظمة الاستبدادية ذرائع استعمال القوة
لقمع شعوبها الثائرة. ولكن برغم ذلك كله فالتغيير شأن محلي في الاساس، وبامكان
الشعوب فرضه بدون استئذان احد. وسوف تظل مشكلة ليبيا ماثلة في اذهان النشطاء
والثوار، لانها كشفت عدم وفاء الغربيين لشعاراتهم، وعدم استعدادهم لتجرع كأس
السم الناجم عن نتائج الانتخابات البرلمانية فيما لو اجريت في اي من البلدان
العربية. والحل ليس بقمع تطلعات هذه الشعوب، بل بالتعايش مع خياراتها من خلال
صناديق الاقتراع، واحترام مواقفها والسعي لتكييف المواقف والسياسات الدولية
لتتواءم مع مزاج الجيل الجديد الذي اثبت انه اكثر ثورية ونضجا وانفتاحا من
الاجيال التي سبقته. انها ثورة ليس في النظم السياسية فحسب، بل في التصورات
والمواقف والتوجهات، لا يستطيع احد منعها او احتواء آثارها. والعقلاء هم الذين
يبذلون جهدهم للتعايش مع واقع جديد مختلف عن العهود السوداء المظلمة التي اجبرت
الشعوب العربية خلالها على عيش الخنوع والاستسلام، في ظل انظمة قمعية تصادر
الحريات والحقوق، وتصر على انتهاك حقوق الانسان. انها مسيرة لم تكتمل بعد،
ولكنها متواصلة ومتطورة ومتوسعة، وعلى الغربيين والعالم ان يتعايشوا مع
نتائجها، أيا كانت. فخيارات الشعوب تمثل واقعها الحقيقي بعيدا عن الاملاءات
والضغوط،، وبالتالي فهي انعكاس لواقع جديد يصنعه الثائرون بارادتهم ودمائهم،
وعلى الآخرين ان يتعاملوا معه وليس مواجهته.