لا نود الدخول في اللَّولويَّات (لو ولو) ولا التمني، لأننا مقتنعون بأنَّ
'ما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا'، وما حدث في تونس ومصر من فرض
الشعبين التونسي والمصري لكلمتهما ومطالبهما تتويج لنجاح ثورتيهما الشعبيتين،
وما يحدث في ليبيا من انتفاضة عارمة وثورة شعبية ومغالبة باسلة لنظام فاشستي
مستبد، وما يجري في اليمن والبحرين وعمان والأردن، رغم الأخطار والتضحيات
والدماء الزكية (والبقية العربية ستأتي حتما) تدل دلالة قاطعة على أن الدنيا لا
تؤخذ إلا غلابا. وهو كذلك، لا سيما في الحالة الحاكمة العربية، التي تنعدم في
معظمها الديمقراطية والشفافية والمشاركة الشعبية والتواصل مع الشعب ومع نبض
الشارع.
بَيدَ أننا (ليس لولويّا ولا تمنيا) ولكن إتقائيا نحب أن نقول، كان يمكن أن
يكون الأمر أقلَّ كلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وسيكولوجيا بالتالي (لو وإن
كانت تفتح عمل الشيطان) تلمست الحكومات العربية مطالب شعوبها وتحسست حاجاتهم
منذ زمن بعيد، لَما وصلنا إلى هذه الحال المتشنجة التي نحن عليها الآن. وكنتيجة
طبيعية وحتمية لغياب مثل هذه الرؤية أو لتغييبها (وهنا قد يبرز سؤال جوهري ألا
وهو: ومتى كانت رؤية كهذه حاضرة لكي تغيب أو تُغيَّب؟) لدى العائلة الحاكمة
المالكة، التي يحكم رأسها بأمره في العالم العربي (والعالم العربي كله عائلات
حاكمة واقعا تطبيقيا عمليا مع اختلاف المسميات والأسماء والصفات والنعوت
والألقاب) ويقول لهم من خلال تصرفاته، وهي أكثر فصاحة وبيانا من الألفاظ
(فالحاكم العربي معروف إلا من رحم ربك باللحن والأخطاء النحوية الفاضحة عند
إلقاء الخطب) كما كان يقول فرعون لبني إسرائيل في مصر: 'لا أريكم إلا ما أرى
ولا أَهديكم إلا سبيل الرشاد'. وهذه العائلات (متضخمة الأنا) تنظر إليها الشعوب
(إلا من رحم الله) على أنها احتلال واغتصاب للحقوق بتواطؤ ملحوظ وعلني من الغرب
(الديمقراطي والإنساني) ولعقود طويلة.
فقد نال المصريون والتوانسة بعض مطالبهم وبعضها الآخر لا يبدو بعيد المنال،
بمغالبة دنيا عائلتين حاكمتين مالكتين فاسدتين قاسيتين مارقتين على أيّ وكلّ
قانون إنساني منذ (حمورابي)، وأظهرهم الله وتم لهم الانتصار بعد أن أخذوا
بأسباب التغيير، وليس بلَو ولا بالتمني. ولقد اضطرَّ الغرب المكيافيلي (الغاية
عنده تبرر الوسيلة) النفعي المنافق مكرها مجبرا وعلى مضض شديد - كما اتضح
للجميع - على تأييد مطالب الشعبين التونسي والمصري والشعب الليبي، مع علمه
المسبق والأكيد بتعفن هذه الأنظمة الموالية له و(لإسرائيل)، وبعدها عن شعوبها
قبل قيام الثورات الشعبية بعقود، لأنه متمصلح من بقائها. ونحن نعرف أن
(إسرائيل) خط أحمر للغرب (ولم يبد الغرب الشيء نفسه بشكل واضح إزاء مطالب
اليمنيين والبحرينيين والعمانيين والأردنيين) فقط حينما رأى شعوب هذه البلاد
تنفجر وتتفجر في الشوارع بالملايين. وساعتها تيقن أن لا مناص من القفز من السفن
الغارقة، ودعم مطالب الشعوب، ولسان حاله يقول ما يقوله المثل الخليجي: 'العوض
ولا الحَريمَه' أي الحصول على شيء خيرٌ من الحصول على اللاشيء. إن ثمة قاسما
مشتركا جليا بين احتلال وقمع (إسرائيل) للفلسطينيين، واحتلال وقمع هذه الأنظمة
في العالم العربي (وبالرصاص الحي كإسرائيل)، لشعوبها لمجرد قولها لا، وخروجها
إلى الشوارع للمطالبة السلمية بحقوقها المستَلبة.
وثمة قاسم مشترك آخر وهو دعم الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ودول
الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا (لإسرائيل) و(ليس
الشعوب العربية) وإنما للأنظمة لأنها إسرائيل أخرى. فإسرائيل تلك المحتلة
لفلسطين تقمع الفلسطينيين المطالبين بإنهاء احتلالها وبالحرية وبفك الحصار عن
غزة والاعتراف بالديمقراطية الفلسطينية التي اعترف بها كل العالم ما عدا
(إسرائيل) وحلفاءها الغربيين، فهي وإن كانت ديمقراطية حسب الأصول إلا أنها ضد
مصالح (إسرائيل) والغرب وعملاء (إسرائيل والغرب) وهي الأنظمة الديكتاتورية في
العالم العربي. وإسرائيل الأخرى (أي الأنظمة العربية الساقطة، وتلك التي في
طريقها للسقوط) تحتل الأرض والشعوب العربية وتقمعها وتحول بينها وبين
الديمقراطية والحرية والحياة الحرة الكريمة. فما الفرق إذن بين هذه وتلك؟
وها هي ذي شعوب ليبيا واليمن والبحرين وعمان والأردن مستمرةٌ في مشاريع إسقاط
العائلات الحاكمة المالكة بلا هوادة، وفي مغالبة اعتقال تلك العائلات لمطالبهم
المشروعة وسينالونها لا بالَّلولويات (بلَو ولو) ولا بالتمني، ولكن بالمغالبة.
ومثل هذه العائلات كثيرة بل وأسوأ منها بكثير في العالم العربي. غير أن الكلام
لا يكثر إلا عن الحاكم الذي يسقطه الشعب في ثورته الشعبية، وكما يقول المثل
الخليجي 'ليه طاحَ الجمل ...كثرَت سكاكينَه'، أي عندما يخر الجَمَل صريعا
تتكالب عليه السكاكين. وإن بدت المغالبة هادئة في الحالتين البحرينية
والعمانية، فذلك بسبب التعتيم الإعلامي الغربي عليها، الذي بكل الأسف تقوده
تلفزيونات معروفة بصدقيتها مثل 'بي بي سي' و'سي إن إن'. وهو طبعا نتيجة لنوعية
المصالح الغربية التقليدية والتاريخية في هذين البلدين، وإلى حد كبير التعتيم
أو الانتقائية الموجهة سياسيا والمقصودة حتى ـ للأسف - من قبَل كبريات محطات
التلفزة العربية الموصوفة باستقلاليتها وموضوعيتها، والتي تتمتع بشعبية عريضة
في الشارع العربي، وينضم إليها، ويا للأسف ويا لَلأسى، الخطاب الديني العربي،
الذي لا يعكس ما في القرآن والسنة والذي تقوده شخصيات دينية مرموقة عربيا
وعالميا، والذي يركز بصورة انتقائية خاصة على مصر وتونس وليبيا واليمن، غاضاّ
الطرف عن البحرين وعمان والدول العربية الأخرى المحتقَنة سياسيا حتى النخاع،
وخاصة الخليجية، التي عاجلا أو آجلا ستنفجر هي الأخرى والمسألة مجرد مسألة
توقيت ليس إلا.
والتفسير المحتمل هو وجود غطاء سياسي صادر عن مجلس التعاون الخليجي لنظامي
البحرين وعمان، بصرف النظر عن عدالة مطالب الشعبين ومشروعيتها. صحيح أن مجلس
التعاون لدول الخليج العربية (وسميَ بهذا الاسم احترازيا لَئلاَّ تغضب إيران)
تم تأسيسه عام 1981، وثمة تسريبات أنه أنشئ بإيعاز أمريكي وبريطاني لعزل آبار
النفط الخليجية عن العراق وإيران (وهو ما يهم الغرب في المقام الأول)، اللذين
كانا يتطاحنان في حرب ضروس في ما سمي بـ(حرب الخليج الأولى) أو (الحرب العراقية
الإيرانية). ومنذ إنشائه وحتى بعد أن وضعت تلك الحرب المشؤومة أوزارها، يعيب
الكثير من شعوب الخليج على المجلس أنه لم يفعل شيئا يذكر من أجل الشعوب، وإنما
هو موجود ومستمر لحماية الأنظمة لا الشعوب. ولم يكلف المجلس نفسه في الحد
الأدنى مؤونة النصح لحكومات المنطقة بالاهتمام بالمواطن، باعتبار أنه مصدر
الأمن الحقيقي وصمام الأمان وليس تلك الأشياء التي تجلب من الخارج، وأن المواطن
يفترض أن يكون هو الثروة الفعلية لبلدان الخليج وليس مجرد ألفاظ تعج بها أدبيات
المجلس وخطب أعضائه، ولتعديل أوضاع مواطني دول المجلس الاقتصادية والمعيشية،
وتضييق الفجوة بين أفراد الأسر الحاكمة من جانب والمنتفعين وأفراد البطانة
والأثرياء من جانب آخر، وسائر أبناء الشعوب والكف عن تفضيل فئات بعينها كما
يحدث في كثير من دول الخليج على حساب الفئات الأخرى، واستبعاد سياسات الإقصاء
والانتقائية والتعاطي مع الشعوب بالتساوي، وحسن توزيع الثروة بين الشعوب
باعتبار أنهم كلهم مواطنون.
وفي المقابل ينظر إلى المجلس في بلدان الخليج العربي على أنه بوق وبروباغاندا
للحكومات، ومنفصل تماما عن هموم الشعوب وتطلعاتها نحو الحرية والديمقراطية
والمشاركة والعيش الكريم، ودائما يكرس الصورة النمطية المتداولة خارجيا من أن
دول الخليج ليس فيها فقراء ومحتاجون (وحتى الإشارة إلى الفقر النسبي منعدم في
خطاب المجلس) وهو أمر يكذبه الواقع، خاصة في دول مثل السعودية والبحرين وعمان.
في السعودية - على سبيل المثال - يقدر عدد العاطلين عن العمل فيها بنحو عشرين
في المائة ويشكو الكثير من العاملين من المواطنين مثل الحراس الأمنيين بتدني
رواتبهم، التي فيها استهانة بآدميتهم، وتبلغ نسبة السعوديين الذين لا يمتلكون
سكنا حوالي ثمانين في المائة. مع أن السعودية تصدر حسب بعض الإحصائيات اثني عشر
مليون برميل من البترول يوميا، ويدر عليها الحج والعمرة على مدار العام ما
يناهز المائة مليار ريال سعودي أي ما يقارب الثلاثمئة مليون دولار، إضافة إلى
دخول أخرى ترجح الإحصاءات أنها تربو على المليار دولار. إذن هي نتائج كارثية
لسياسات التوظيف والاعتناء بالمواطن، إن كان ثمة شيء كهذا وذاك موجود حسب
المفهوم العلمي.