gulfissueslogo
دولة على حافة التغيير
العائلة السعودية بين دعوات الاصلاح والإنشقاق
الهام المانع

 
ترجمة واعداد: ابراهيم درويش
 

الانقسام الطائفي


 
 
العامل في الانقسام الطائفي في السعودية يرتبط بسياسة التمييز التي تقوم بها الدولة تجاه الاقلية الشيعية، ويقدر عدد الشيعة ما بين 200 الي 300 الف نسمة، اي انهم يشكلون نسبة 5 في المئة من عدد السكان، ويتركز معظمهم في المنطقة الشرقية خاصة واحات الحسا والقطيف. تمييز الدولة ضد الشيعة ملاحظ، ويمكن ملاحظته من كون الشيعة يقعون في اسفل السلم الاجتماعي، بعيدون عن ثمار التطور ومصادر الثروة. ومن اللافت للنظر ان اول مستشفي حكومي تم بناؤه في مركز التواجد الشيعي، مدينه القطيف عام 1987، وفي الغالب يتم استبعاد الشيعة من مراكز الدولة العليا ومن المستويات العالية في الخدمة المدنية، ونادرا ما تم تجنيدهم في الجيش او الشرطة، كما يمنعون من الانضمام للحرس الوطني. ونتيجة لذلك، فهم يشكلون القوة العاملة المحلية والوحيدة في المملكة، واكثر من هذا، فهم ممنوعون من اقامة احتفالاتهم الدينية في الاماكن العامة، باختصار تتم معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية.
 
التمييز ضد الاقلية الشيعية ديني في اصله، ومنذ نهاية السبعينات، بدأ التمييز يأخذ ايضا طابعا سياسيا، فالشيعة السعوديون ينتمون الي الفرقة الاثني عشرية، وهي نفس الفرقة التي يعتنقها شيعة العراق والبحرين وايران، والتي تؤمن ان امامة المسلمين هي حق لابن عم الرسول صلي الله عليه وسلم، علي وابنه الحسين. وفي التاريخ الاسلامي، تري الفرقة ان هناك اثني عشر اماما، حيث اختفي الامام الاخير في القرن التاسع، ويعتقد ان الامام الثاني عشر ذهب للغيبة الكبري وسيعود في المستقبل كمهدي منتظر.
 
واذا اخذنا بعين الاعتبار ان المنظور والتفسير الذي يؤمن به الشيعة يختلف عن التفسير السني، فليس غريبا ان يعتبر الوهابيون المعروفون بتشددهم، ان الشيعة ليسوا اكثر من مشركين . وفي الحقيقة، عندما استولي الاخوان علي المنطقة الشرقية عام 1913 طالبوا الملك سعود اما باجبار الشيعة علي اعتناق الوهابية او تطهير المنطقة منهم، ولكنه رفض كلا الدعوتين، الا ان وضعهم الثانوي في المملكة تمت مأسسته، وتواصل عدم التسامح مع ممارساتهم الدينية.
 
وفي تقرير لمنظمة العفو الدولية (امنستي انترناشونال) عام 1993 عن السعودية، تحدث عن ان الوهابية تتعامل في الشيعة وممارساتهم باعتبارها غير متوافقة مع التعاليم السلفية، وان التمييز المدعوم من الحكومة ادي لاعتبار الشيعة منشقين سياسيين.
 
واعطت الثورة الايرانية عام 1979 غطاء سياسيا لهذا الانقسام الطائفي، فالسعودية كانت دائما شكاكة من ايران حتي قبل الاطاحة بنظام الشاه، وتعتبر طهران كعامل اساسي من عوامل عدم استقرار مؤثر علي الطائفة الشيعية في السعودية، وتزايدت الشكوك السعودية بعد انتصار الثورة وقائدها الامام الخميني، كما ان دعوة الامام الخميني لتصدير الثورة الاسلامية للعالم خاصة منطقة الخليج لم تنعكس فقط علي العلاقات السياسية المتوترة بين ايران والسعودية، بل انها زادت من عدم ثقة السعودية بالاقلية الشيعية. وزاد عداء الدولة لهم لأن معظم حقول النفط السعودية موجودة في مناطقهم. الشك والعداء السعوديان، والثورة الاسلامية الايرانية، واحتلال جهيمان العتيبي واتباعه للحرم، كلها عوامل ساهمت بتغير الموقف المسالم للشيعة تجاه الدولة، فلاول مرة اعلن شيعة في القطيف عن اصرارهم علي الاحتفال بعيد عاشوراء بشكل علني، وانفجرت المناوشات بعد ان حاول الحرس الوطني منع الاحتفالات، ونتيجة لذلك طالب بعض الشيعة بايقاف تزويد النفط في مناطقهم واعادة توزيع الثروة بطريقة اكثر عدلا، وطالب البعض باقامة جمهورية اسلامية في الاحساء.
 
اجبرت المناوشات والنزاعات التي انفجرت في عام 1980 الدولة علي مراجعة سياستها تجاه السكان الشيعة، ونتيجة لذلك، حاولت السعودية تطبيق سياسة ذات اتجاهين، فقد بدأت بتخصيص وزيادة الاموال لدعم مشاريع التطوير في المناطق الشيعية، وفي نفس الوقت قامت بتشديد اجراءاتها الامنية عليهم. وقد ساهمت مشاريع التطوير بالاستجابة لبعض مطالب الشيعة وخففت من احباطهم، فيما عملت الاجراءات الامنية المتشددة والتي غالبا ما تم فيها انتهاك حقوق الانسان، علي تأكيد سيطرة الدولة علي المنطقة.
 
وفي عام 1993 اتخذت الحكومة خطوة اكثر تقدما، حينما توصلت لمصالحة مع بعض القيادات الشيعية وممثلي المعارضة. وبعد لقائه مع قادة الشيعة اعلن الملك فهد عن اطلاقه سراح بعض المعتقلين السياسيين الشيعة، وسمح لبعض الناشطين الذين هربوا من البلاد بالعودة، ووعد بالنظر في شكاوي الشيعة عن الاضطهاد والتمييز في مجال العمل. وفي المقابل وافقت القيادات الشيعية علي ايقاف المطبوعات والمجلات المعادية للسعودية والصادرة في لندن وواشنطن، وعلينا الانتظار حتي نري فيما اذا قامت الدولة بالاستجابة للمطلب الثالث، والذي يشير لحرمان الشيعة من المشاركة في الحياة العامة، فحتي الان لا يسمح لهم بتولي مناصب عالية، ويستبعدون من الجيش والحرس الوطني، وما زالوا في اسفل السلم الاجتماعي.
 
وفي نظري، فالانقسام الاقليمي والطائفي يمثلان تحديا كبيرا للنظام السعودي. ومن الجدير بالذكر ان الصحوة الاسلامية التي تزايدت بعد حرب الخليج، تحاول تقديم نفسها من خلال الخطوط الاقليمية والطائفية. فغالبية الذين وقعوا علي وثيقة المطالب بالاصلاح السياسي واعطاء دور سياسي اكبر للعلماء هم من النجديين، وينتمون الي الجماعة الاكثر قوة في المملكة، اي الجماعة السلفية التي تتمتع بشعبية كبيرة في وسط وشمال نجد. ولا تخفي هذه الجماعة عداءها للشيعة السعوديين، ودعا بعض افرادها صراحة عام 1987 لقمع وتدمير الاعتقاد الشيعي. وفي عام 1992 اعتبر البعض منهم الشيعة مرتدين ويجب اعدامهم. ولم تمتنع هذه الجماعة عن انتقاد الملك فهد عندما عين عام 1993 قيادة شيعية معروفة في المنطقة الشرقية من ضمن 60 اسما، هم اعضاء المجلس الاستشاري، وتساءلوا عن شرعية السماح لـ مرتد شيعي لكي يقوم بتقديم النصيحة للملك.
الحجازيون بالمقابل لديهم جماعتهم الدينية، وهي المسلمون الحجازيون ، وتطالب هذه الحركة باصلاح يعكس الاحباط الذي يعانيه اقليم الحجاز، ويطالب الحجازيون المسلمون علانية بـ باصلاح ديني رقيق لمواجهة الهيمنة الوهابية علي حرية ممارسة شعائرهم الدينية، واعطائهم فرصا متساوية في مجال التوظيف الحكومي علي قدم المساواة مع النجديين .
 
قد تفكر الدولة السعودية ان الذين يطالبون بالاصلاح هم اشخاص لا يمثلون المجتمع، وفي نظري فهذا سيكون افتراضا خاطئا، وحتي تقوم الدولة بتغيير نظامها السياسي بنظام يكون قادرا علي الاستجابة للحاجات الطائفية والاقليمية فانها ستواجه فترات حرجة من عدم الاستقرار. واذا اخذنا بعين الاعتبار ان استقلالية الدولة وأمنها في مقابل المجتمع معدودة في حال غياب دولة الرفاة. وفي غياب المؤسسات السياسية القوية التي ستكون قادرة علي الاستجابة لمطالب الاصلاح، وارادة سياسية، فالنتيجة ربما ستكون تحلل الدولة السعودية إلي عدة أقاليم مستقلة.
 
 

دولة علي حافة التغيير


 
 
تمثل السعودية صورة عن الدولة التي قامت علي اساس الدين، وممارساتها الدينية مرتبطة بالعهد الذي قام به محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود عام 1744 لانشاء دولة تقوم علي التعاليم الوهابية، ولنفس العهد الذي اكده ابن سعود بعد قرن ونصف القرن. وعلي الرغم من الانتصار الذي حققه ابن سعود علي التمرد الاخواني، وتسيد رأيه علي الرأي الديني، فالدولة ظلت تسير بناء علي التعاليم الوهابية، فلم تقم الدولة ببناء صورة عن نفسها باعتبارها حامية ومثالا عن الاسلام، ولكنها التزمت بشكل حرفي بالتعاليم الوهابية في سياساتها الداخلية، والطبيعة الدينية للدولة السعودية تم تعزيزها من خلال الدور الذي لعبه العلماء في الشؤون الداخلية، والتحالف الذي تم بين العائلة السعودية والمؤسسة الدينية اكد علي شرعية النظام السعودي وضمن في نفس الوقت سيادة الوهابية علي كل البلاد. ومع ذلك، فالتحالف وتأثير العلماء لم يكن شاملا، وظلت منطقتان، خارج اطار تأثيرهم، سلوك العائلة السعودية، والسياسة الخارجية للدولة، ولم تتسامح العائلة مع اي نقد لها او تدخل في سياستها الخارجية، وهذه الاستراتيجية نتجت من خلال النصر الذي حققه ابن سعود علي الاخوان. وتعززت هذه الاستراتيجية اكثر عندما انشئت دولة الرفاه. واعطت اموال النفط وثمار الرفاه الدولة حسا من الاستقرار والامان في مواجهة المجتمع السعودي، وسلحتها بإحساس خادع بالاستقلال ما سمح لها بتجاهل الدعوات للاصلاح السياسي وعدم الالتفات للانقسام الطائفي والاقليمي المتشعب. ولكن حس الاستقلال والأمان يمكن ان يتبخر حالة نهاية عصر الوفرة النفطية ونضوبه.
 
 

سلطنة عمان

 
عمان ارض منغلقة، السرية والغموض والابتعاد عن الأضواء تظل ملمحا اساسيا من ملامح هذا البلد. وتعكس هذه الحقيقة شيئا اكبر من الطريقة التي تدير فيها الحكومة شؤونها. فعندما قرر سلطان البلاد، السلطان قابوس بن سعيد عام 1981 انشاء مجلس الدولة الاستشاري، أكد تحديدا في خطابه الافتتاحي علي ان اهداف المجلس هي توسيع مجال المشاركة الشعبية في الحكومة وفي تطبيق مشاريعها الاقتصادية والاجتماعية من خلال تشكيل الرأي والنصحيــة . غير أن هذا الهدف (أي تشكيل الآراء والتشاور) كان يقتضي التطبيق عبر اطار من السرية! فقد سمح لاعضاء مجلس الدولة الاستشاري بالتعبير بحرية عن ارائهم الا ان مداولاتهم حجبت عن الرأي العام. منعوا من مناقشتها مع اناس خارجيين، ولم يشجعوا علي إفشاء طبيعة عملهم لغير الاعضاء في مجلس الدولة الاستشاري. وأكثر من هذا، فقد تم نقل توصيات المجلس بشكل سري للسلطان. وحينما سئل بعض الاعضاء عن دواعي هذه السرية، اجابوا لانها تضمن عدم احراج المجلس للمسؤولين الكبار. وليس غريبا ان ظلال الكتمان تخيم علي اي دراسة تحاول البحث في عمان، مما يجعلها من اكثر البلدان صعوبة للفحص والدراسة.
 
وتظل عمان استثناء في نظامها السياسي، فمن جانب، لا يمكن وصفها بالدولة الديمقراطية، ويتبدي ذلك واضحا في أن السلطان قابوس، الذي يحتل المنصب منذ عام 1970، يمارس فعليا سلطة مطلقة، فبالاضافة لدوره علي رأس الدولة، فهو يقوم بدور رئيس الوزراء ووزير الخارجية والدفاع والمالية. ومن جانب آخر، تمكنت الدولة من توجيه دفة النظام السياسي في البلاد في إتجاه ما أسماه مسؤولون عمانيون بـ الارتقاء المحسوب ، أي المدخل التدريجي باتجاه مشاركة عامة واسعة تحترم تقاليد البلاد. وعلينا بطبيعة الحال ان نأخذ بالاعتبار ان عبارات مثل احترام تقاليد البلاد تستخدم عادة في منطقة الخليج كتعبير لطيف يوفر عذرا وغطاء لإعاقة أي اصلاح سياسي جاد، وفي حالة سلطنة عمان فإن الوضع لا يشكل إستثناء. رغم ذلك، فإنه يحسب للدولة العمانية اتخاذها خطوات عدة في التسعينات تسمح بمشاركة اوسع، ففي عام 1992 تم استبدال مجلس الدولة الاستشاري بمجلس شوري جديد، ومثل سابقه لم يتمتع هذا المجلس بسلطة تشريعية. وفي عام 1997 منحت المرأة حق التصويت، كما اصبحت مؤهلة لعضوية مجلس الشوري، واصبح أعضاء المجلس يرشحون من اقاليمهم بدلا من قيام السلطان بتعيينهم، وسمح المجلس بنقل مطالب الاقاليم ومناقشتها.
 
علي صعيد آخر، عادة ما توصف عمان بأنها مختلفة عن جيرانها الخليجيين. وهو وصف لا يبتعد كثيرا عن الصحة. فباستثناء البحرين، وعلي خلاف دول الخليج الأخري، يعود تاريخ عمان إلي الالفية الثالثة قبل الميلاد، كما ان موقع عمان علي الطرق التجارية القديمة اتاح لها ان تصبح مركزا تجاريا شهيرا. والاعتقاد الديني في عمان يعمق اختلافها وتميزها عن جيرانها الخليجيين. فعمان هي البلد الوحيد في المنطقة ان لم تكن في العالم العربي التي تعتنق مبادئ الاباضية منذ القرن الثامن الميلادي. والاباضية هي جماعة تعود جذورها إلي حركة الخوارج وهي الحركة التي دعت للشوري في اختيار الامام ومن بين عامة المسلمين. كما تختلف سلطنة عمان عن جاراتها وبقية العالم العربي بسياسة العزلة التي فرضها عليها السلطان سعيد بن تيمور (1932 ـ1970)، حتي الاطاحة به من قبل ولده عام 1970. وهي العزلة التي أدت إلي عدم انضمام الدولة لا الي الجامعة العربية ولا إلي منظمة الامم المتحدة، وفوض السلطان سعيد لبريطانيا صلاحية تمثيل بلاده في المنظمات الدولية وفي الدوائر الدبلوماسية ورد هذا الي مشاكل في خزانة الدولة.
 
بعد كل هذا، فسأناقش هنا، وهو ما قد يثير الدهشة، ان عمان هي دولة قوية، ومناقشتي لهذه الحالة واضحة، فعمان تسيطر علي حدودها وسكانها، ولديها القدرة علي تخصيص المصادر واعادة توزيعها عليهم. قوة الدولة العمانية لم تكن هبة من السماء، بل حصلت عليها بعد فترة طويلة من الصراع والآلام، وبسبب سياسة متعمدة من قيادتها. وفي هذا السياق ولكي أوضح الطريقة التي اصبحت فيها عمان بلدا قويا، سأقدم أولا عرضا سريعا قائما علي اطار ميغدال بشأن العلاقات بين الدولة والمجتمع، وبعد ذلك سأقدم شرحا مفصلا للعوامل الرئيسية التي ادت لولادة دولة عمانية قوية.
 
 

تشكيل الدولة القوية: اطار عام


 
 
لو رجعنا الي نظرية ميغدال وسألنا: هل نجح سلطان عمان في استخدام مؤسسات الدولة لدفع رعاياه لفعل ما اراده منهم؟ فالجواب سيكون نعم، وإذا سألنا من جديد هل نجاحه في تحقيق ذلك يستدعي الاستغراب؟ فالرد سيأتي بنعم مرة اخري، لان تاريخ عمان مطبوع بالاعتماد الدائم علي القوي الاجنبية لضمان أمنها الداخلي، وفي الحقيقة، فبقاء عمان في القرن التاسع عشر تم تأمينه فقط من خلال مساعدة خارجية. ومع ذلك فالنظام سيصبح نموذجيا في العالم العربي من ناحية سيطرته علي المجتمع. كيف تم هذا؟ في نظري، الاجابة موجودة من خلال فحص ثلاثة عوامل: تاريخ عمان، سيادة الدولة علي أراضيها، وقيادتها. ولكن قبل مناقشة هذه العوامل الثلاثة أود ان اقدم ملخصا نظريا لأهم ملامح نظرية ميغدال.
 
فحسب ميغدال، ظهور الدولة يتم من خلال شرطين علي الأقل: الأول، ضعف المجتمع والثاني انهيار الأسلوب التقليدي القديم للسيطرة الاجتماعية، وهذان الشرطان، كما يؤكد ميغدال، يتحققا بالفعل عبر اختراق الاقتصاد العالمي السريع والعميق للمجتمع. فالتغيرات المفاجئة والمتفجرة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشربن، تركت آثارا خطيرة وبعيدة المدي علي أساليب التنظيم والسيطرة الاجتماعية، وادت هذه التغييرات لدفع المجتمع لتحولات مؤسساتية، وهذه الأوضاع المائعة وغير الواضحة مهدت لأرضية محبذة لتغييرات سريعة في المؤسسات الاجتماعية، ولظهور شكل اجتماعي راديكالي مختلف. فالمجتمع الآن في حالة طيعة مطواعة، مثل الشمع المذاب جزئيا والذي يمكن تشكيله بأية طريقة ، ومع ايمان ميغدال باختلاف المنظمات والسيطرة الاجتماعية من مجتمع لآخر، الا ان اشكالا مألوفة للتآكل تتواجد في كل مجتمع. واحد من الامثلة التي يذكرها ميغدال، مثال سيراليون حيث ادي تحول الاقتصاد العالمي كليا عن تجارة الرق (العبودية) في منتصف القرن التاسع عشر لحرمان القادة المحليين من واحد من أهم مصادر السيطرة الاجتماعية .
 
الشرط الثاني لبناء الدولة القوية هو تعزيز السيطرة الاجتماعية، او بعبارات ميغدال، تشكيل الشمع المذاب جزئيا. لكنه يحذر في الوقت نفسه بأن نشوء دولة قوية ومستقلة لا يعد بأي حال من الأحوال النتيجة الطبيعية للتحولات الاجتماعية المرتبطة بالعصر الحديث. فالسؤال العملي الجوهري، يتركز علي من يقوم بالاستفادة من الظروف الجديدة ويعيد بناء التحكم الاجتماعي ، إذ أن النجاح في تعزيز وتمتين التحكم الاجتماعي يقتضي قيادة قوية وقادرة، وبالنسبة للدول التي عاشت هيمنة خارجية مباشرة، فالنجاح يقتضي توزيع المصادر والموارد وإيصالها إلي منظمات محلية قادرة علي توسيع مجالات التحكم الاجتماعي في كل أنحاء المجتمع. عامل آخر، قد يخدم كحافز لتعزيز التحكم الاجتماعي، هــــو التهديد العسكري المباشر، والذي قد يساعد النظام علي تحدي أي قاعدة سلطة متشرذمة. وكانت هذه حالة اسرائيل بعد انشائها عام 1948 فقد كان من الخطورة بمكان عدم تعزيز التحكم الاجتماعي، فبقاء القائد والمنظمة التي رعاها بعناية، والدولة الجديدة، كلها كانت معتمدة علي تلك الخطوة .
 
وكما ستتم ملاحظته، عمان تناسب بشكل كبير الإطار النظري الذي قدم ملامحه ميغدال، فضعف المجتمع، وتحلل الأشكال القديمة للتحكم الاجتماعي حدثت في السلطنة بسبب اختراق الاقتصاد العالمي، وكما في حالة سيراليون التي اشرنا اليها سابقا، فقد كان لالغاء تجارة العبيد اثر كبير علي الاقتصاد المحلي. بالاضافة لذلك، فالحروب الدائمة بين مسقط ومناطق الداخل (عمان)، وكذلك الخلافات داخل العائلة البوسيعيدية الحاكمة ادت لتسريع عمليات تحلل المجتمع.
 
غير أنه يجب الإقرار بأن عمليات تعزيز التحكم الاجتماعي كانت قد بدأت فعلا في عهد والد السلطان قابوس، كما كان ملفتا ان المعونة البريطانية والمساعدة من الدول الاجنبية، مكنت عائلة البوسعيد لمد سيطرتها المحكمة علي كل الاراضي العمانية، وتبع هذا النجاح قدرة الدولة علي اختراق المجتمع، وتنظيم العلاقات الاجتماعية، واستخراج المصادر المناسبة، وكل هذا تم تحقيقه خلال قيادة السلطان قابوس وبرنامجه التنموي. وبعبارات اخري، فالعوامل الثلاثة التالية والتي تتداخل فيما بينها كانت اطارا محددا في قدرة الدولة علي ممارسة التحكم علي كل المجتمع العماني:
 
1ـ تاريخ البلاد، وبالتحديد العوامل المتعلقة باختراق الاقتصاد العالم، والحروب الأهلية المستعرة.
 
2ـ تشكيل الدولة، وقيام العائلة البوسعيدية بالسيطرة الكاملة علي عمان.
 
3ـ القيادة، وأعني بذلك سلطة السلطان قابوس وبرنامجه التنموي الذي قام بتطبيقه.
 
 

تحلل الاشكال القديمة للسيطرة الاجتماعية


 
 
كما ذكرنا سابقا، فالشرط الاول لبناء الدولة القوية هو ضعف المجتمع وتحلل السيطرة الاجتماعية كما كانت في شكلها السابق، وينسب ميغدال هذا التغير الي الاختراق العميق والسريع للاقتصاد العالمي. وفي حالة عمان، فالتغييرات المفاجئة، في مجال التجارة الدولية والغاء تجارة الرق، اضافة الي الحروب الاهلية المستمرة، والتي حدثت كلها في منتصف القرن التاسع عشر، قادت الي تفكك المجتمع وتحلل نظامه الاجتماعي.
 
وإذا عدنا إلي التاريخ العماني سنجد أن عمان كانت قد وصلت في عهد السلطان سعيد بن سلطان (1807 -1856) الذي يعتبر من اشهر حكام البوسعيديين في القرن التاسع عشر، الي ذروة قوتها كمركز تجاري وقوة بحرية اقليمية، ووسعت عمان مجال تأثيرها لتشمل مناطق في الجزيرة العربية، ومنطقة الخليج ومستعمراتها في شرق افريقيا وكذلك الباكستان (غوادار). وكانت تجارة شرق افريقيا التي اعتمدت بشكل اساسي علي الاتجار بالرقيق والعاج، مربحة، وتوسعت لتصبح الاكثر اهمية، وبالتأكيد فاعتماد عمان علي تجارة شرق افريقيا كان كبيرا لدرجة ان زنجبار اصبحت العاصمة التجارية لعمان وفي مركز اقتصادها كان الاتجار بالرقيق. ولكن الازدهار الذي جلبته التجارة كان قصير الامد لسببين:
 
الاول يرتبط بالغاء الرق رسميا، ففي الربع الاول من القرن التاسع عشر اعلنت بريطانيا ان تجارة الرقيق غير شرعية، وبشكل متساوق ازداد التأثير البريطاني في عمان من خلال وجود شركة الهند الشرقية، ونتيجة لهذين العاملين، صدرت العديد من المعاهدات التي منعت تجارة الرقيق (1822، 1839، 1845، 1873) واجبرت بريطانيا السلاطين العمانيين علي تطبيقها، وبحسب كليمنتس يبدو ان السلاطين العمانيين لم يكن لهم اي دور في المفاوضات، وان الغاء تجارة الرقيق كان بمثابة كارثة صغيرة علي الاقتصاد العماني، كما لا يعرف احد ماذا حصل العمانيون عليه من هذه المعاهدات، رغم أنه من الممكن أن يكون السلطان (سعيد) قد حصل علي معونات شخصية مقابل موافقته، ولكن لا توجد أدلة تدعم هذا الرأي. لكن المؤكد أنه لم يكن بوسع السلطان تحدي هذا الوضع، لأنه أدرك ان القوة البحرية البريطانية جعلت من الصعوبة بمكان تحدي الوضع.
 
العامل الثاني، كان الفصل الرسمي بين عمان ومناطقها الجغرافية ومستعمراتها في شرق أفريقيا، فقد ادي خلاف عائلي بين ابني السلطان سعيد، ثويني وماجد لانفصال الجزئين عام 1861، وقام البريطانيون بلعب دور الحكم والفيصل في الانفصال لانهم اعتبروه حيويا لمصالحهم. وكان الانفصال بمثابة الضربة القاصمة لتجارة الرقيق، كما أدي لزيادة اعتماد الطرفين علي بريطانيا، وظهر هذا بشكل خاص في مناطق عمان الرئيسية، حيث حرمتها خسارة مستعمراتها في شرق افريقيا من عوائد مالية هامة. ورغم ان معاهدة الانفصال عام 1861 طالبت ماجد ـ في شرق افريقيا ـ بدفع تعويضات مالية، لكن هذا لم يساعد كثيرا، فبعد فترة قصيرة توقف ماجد عن الدفع واصبح السلطان العماني معتمدا ماليا علي الحكومة البريطانية.
وكانت النتائج التي أسفرت عن هذين التطورين مدمرة. فاعتماد السلاطين علي بريطانيا العظمي لم يمنع معاناة البلاد من وضع اقتصادي حاد. وفاقم من تردي الأوضاع التنافس الشديد مع السفن البخارية الاوروبية التي تفوقت علي الاسطول العماني القديم، لدرجة ان العديد من العائلات العمانية قررت الهجرة لزنجبار. وفي الفترة ما بين الخمسينات والسبعينات من القرن التاسع عشر انخفض عدد سكان مسقط من 55 ألفا الي 8 الاف فقط.
 
الاقتصاد المتردي بشكل حاد، ادي لأزمة جديدة، وهي التمرد والثورات العسكرية التي قامت بها القبائل العمانية، والتي قادت الي الانفصال بين مسقط ومناطق الداخل. وبعيدا عن الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي كانت البلاد تمر بها، فقد نظرت القبائل بعين الغضب لاعتماد السلطان المتزايد علي البريطانيين، واكثر من هذا، فقد فاقم السلطان فيصل بن تركي (حكم في الفترة ما بين 1888 ـ 1913) الاوضاع اكثر عندما وافق عام 1891 ـ وبضغط من البريطانيين ـ علي توقيع معاهدة منعت الاتجار بالاسلحة وغير ذلك من التجارة المربحة في داخل مناطق القبائل الاباضية.
 
ونتيجة لذلك، حملت القبائل الاباضية السلاح، مما ادي لخسارة السلطان السيطرة علي الداخل، وصار تمرد القبائل جزءا من نظام الحياة في عمان. في عام 1913 اعادت القبائل الاباضية الامامة، وهذا التحرك ادي لمواجهة عسكرية بين مسقط ومناطق الداخل، وعلي الرغم من الدعم المالي والعسكري الذي قدمه البريطانيون للسلطان الا انه لم يكن قادرا علي تحقيق نصر حاسم، ونتج عن ذلك وضع صعب من حالة اللاحرب واللاسلم، حيث كان السلطان يسيطر علي مسقط والمدن الساحلية، فيما كان الامام يحكم مناطق الداخل، وقد تم توثيق هذا بطريقة دبلوماسية في معاهدة عام 1920 والتي رعاها الوكيل السياسي البريطاني، فمقابل الحصول علي استقلاليتها تعهدت قبائل الداخل بالامتناع عن مهاجمة الساحل.
 
وعليه، ومع مقدم الربع الأول من القرن العشرين، قدمت عمان نموذجا واضحا يتناسب مع معايير ميغدال عن المجتمع المتفتت وتحلل النظام الاجتماعي، فالبلاد كانت تعاني من انهيار اقتصادي وإفلاس مالي ومنقسمة، وتمرد القبائل كان منتشرا، ولم تكن سلطة السلطان تتجاوز مسقط، ومناطق الساحل وسهول صلالة. وكان المجتمع والحالة هذه يعيش وضعا هلاميا وغير محدد، وكان والحالة هذه جاهزا لتحول اجتماعي حاسم لمؤسساته الاجتماعية. وقد حدث هذا التحول كما سنري اثناء حكم السلطان سعيد.
 
 
 
***
 
 
 

السعودية: مصادر التوتر وعدم الاستقرار


 
 
* * الدولة والمؤسسة الدينية
 
دستور، لماذا علينا تبني الدستور، ولدينا اقدم دستور، القرآن، انتخابات وبرلمان، دعونا من التفكير بهذا، لأننا شاهدنا التجارب التعيسة التي جربتها الدول الجارة، ويجب ان تعلموا ان الاسلام، هو الدين الشامل والمرن ودين التنوير الذي يضمن السعادة لشعبنا .
 
هذه الكلمات للملك فيصل عام 1966 والتي تعكس الموقف القديم للنظام السعودي وهو ان الاسلام هو اساس المملكة، والقرآن هو دستورها، وطغي هذا الخطاب علي النظام السعودي، فتمثيل الصورة الحقيقية للاسلام، والدفاع عنه، والالتزام بمبادئه كانت ولا تزال جزءا رئيسيا من الصورة التي يسعي النظام لتصوير وإظهار نفسه من خلالها.
 
ولا شك، فالعامل القوي الذي قاد لانشاء المملكة العربية السعودية كان ذا طبيعة دينية، وفي الحقيقة، فصعود العائلة السعودية يعود لتحالفها مع محمد بن عبدالوهاب، مؤسس الحركة الوهابية. والعهد الذي اقسمه كل من محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب في 1744 كان التعاون لانشاء دولة تقوم علي المبادئ الوهابية، وقيام ابن سعود بتأكيد هذا العهد بعد قرن ونصف قرن يقدم الاساس للدولة السعودية اليوم. كذلك قدم العهد للعائلة السعودية مهمة دينيه واضحة ساهمت في بناء قيادتها واضفاء الشرعية عليها. وبعبارات اخري، فطبيعة هذا الحلف اسهمت ولحد بعيد بتشكيل طبيعة النظام السياسي الذي ظهر فيما بعد، والذي قام علي دعامتين، العائلة السعودية والمؤسسة الدينية.
 
ساعدت الوهابية، بمبادئها السلفية، وحماسها التوسعي ابن سعود علي توطين وحشد دعم القبائل البدوية النجدية، المعروفة باستعدادها للانضمام إلي العدو في وقت الحاجة الماسة إليها. وقام ابن سعود بارسال المبعوثين لاقناع القبائل لكي تنضم الي الجماعة، حيث عبر العديد منهم عن استعدادهم لتقلبها، ذلك ان الوهابية اعطت الاخوان نزعة ذات هدف محدد، وهي نشر مبادئ الدعوة الوهابية وقتال من يرفضها. وتم توطين رجال القبائل هؤلاء في الهجر ، حيث تلقوا تدرييات عسكرية ودروسا دينية. وقدمت هذه المستوطنات للملك بن سعود قاعدة قوة ساعدته علي القيام بحملاته لتوسيع اراضيه، وفي الحقيقة كان بعض هذه الهجر ، يضم اكثر من ستين الف محارب. وفي نفس الوقت منحت الدعوة الدينية شرعية لحملة التوسع التي قام بها ابن سعود، مبدئيا، كان بمقدور الملك عبدالعزيز والحكام السعوديين السابقين تجاوز الولاءات القبلية والحضرية من خلال الدعوة الوهابية، في الوقت الذي استخدموا فيه تركيباتها كقاعدة للتحكم السياسي. مظهريا عمل الانتماء للمجتمع الاسلامي علي محو الخلافات، وحينما قبلت القبائل بالدعوة الوهابية فانها قبلت بامامة ابن سعود، دولة شرعية تقوم علي الاسلام، وهذه اعطت ابن سعود سلطة دنيوية اكثر من سلطة المشايخ والامراء . وكانت سلطة دنيوية بالتأكيد، ففي عام 1929 انتهي التحالف بعد الثورة التي صارت تعرف فيما بعد بثورة الاخوان، وباستعادة الاحداث، فالمناوشات التي قامت بين الطرفين لم تكن مفاجئة، فالتحالف كان مشروطا، وتم كسره بناء علي آراء متعددة ومتعارضة:
 
فالاخوان وقيادتهم الدينية اعتقدوا ان الهدف الاساسي وراء الحملة السعودية هو نشر مبادئ الدعوة الوهابية وقتال الذين انحرفوا عن هذا الخط، وعني هذا ان يقوموا بنشر أفكارهم في كل الجزيرة العربية، وبالنسبة لهم فقد كانت جهادا.
 
بالنسبة لوجهة نظر بن سعود، فهو وان لم يعارض التوسع الا انه كان براغماتيا، فقد كان يعرف ان اي توسع باتجاه العراق او الكويت يعني مواجهة مع بريطانيا العظمي، وهذه المواجهة كانت ستكلفه بعض او كل المناطق التي غزاها في الفترة ما بين 1902 الي 1929. وبالنسبة له فقد كانت الحرب عائلية، فقد اراد استعادة كل الاراضي التي ادعي ان اجداده السعوديين حكموها في الماضي، وحينما سيحقق ذلك فقد كان مستعدا لتقبل، وان بتردد، دولة ذات حدود.
 
كذلك عارض الاخوان علاقة ابن سعود الوثيقة مع بريطانيا العظمي، واعتبروها كفرا ، ومقارنة مع هذا كان ابن سعود يعتقد انه لن يستطيع توطيد دعائم الدولة بدون دعم بريطاني، ولهذا كانت بريطانيا بالنسبة له حليفا مهما. واخيرا وليس اخرا، ففي قلب النزاع بين قادة الاخوان وابن سعود كان الاعتقاد بان المجتمع المسلم له الحق بتغيير قادته في حال انحرافهم عن المبادئ الاسلامية. وبالنسبة للاخوان، ابن سعود كان اماما ارتبط حقه بالامامة بالتزامه بمبادئ العقيدة الوهابية. وكما هو واضح فلم يكن ابن سعود يشارك الاخوان في اعتقادهم هذا، فقد كان ينظر لسلطته باعتبارها موروثة عن اجداده، ويملك حقا وراثيا بالحكم، وحقيقة اتخاذه لقب سلطان ثم ملك بدلا من اللقب التقليدي الامير، اعطي وقودا جديدا للنار.
 
وبمساعدة من بريطانيا العظمي استطاع ابن سعود تدريجيا الانتصار علي الاخوان، ولكن التمرد كان مفصلا هاما في تحديد هوية الدولة التي اعلن عنها رسميا عام 1932، فقد صممت كدولة وراثية، يلعب فيها الملك وعائلته الدور السياسي الرئيسي في النظام، وبأيديهم صناعة القرار. وهذا يعني بالتحديد رفع يد المؤسسة الدينية عن السياسة الخارجية.
 
ولكن انتصار ابن سعود لم يضع حدا للتأثير الديني، بل علي الخلاف من ذلك، لم تواصل القيادة الدينية تأثيرها فقط بل زاد هدا التأثير بشكل كبير. وهذه المرة تم دمج المؤسسة الدينية وتطويعها، وبدأ ابن سعود بتدليل العلماء واعتبارهم جزءا من المؤسسة الرسمية، ولكن كان واضحا منذ البداية ان هذا الاحترام الظاهر لم يكن اعترافا بسلطتهم او حقهم بالمشاركة بعمليات رسم السياسات، فابن سعود ظل يملك حق الكلمة الاخيرة خاصة في القضايا المهمة، وحينما كانت تستدعي الضرورة كان يتجاهل آراء العلماء. قبل العلماء دورهم علي مضض، ومع انهم كانوا الشريك الأصغر لابن سعود الا انهم استمتعوا باحترام عال، ومميزات وتأثير، وبتطور ادارات الدولة اعطيت لهم مهمة السيطرة علي المؤسسات الدينية، ومراكز هامة بما فيها النظامان القضائي والتعليمي.
 
وتمت المحافظة علي الترتيبات بين العائلة السعودية والمؤسسة الدينية حتي اليوم. فمقابل تحكمهم في الحياة المحلية في المملكة والمميزات التي منحت له، واصل العلماء دورهم باضفاء الشرعية علي نظام العائلة السعودية، وقدموا التبريرات الدينية (الفتاوي) بشأن القرارات في القضايا السياسية الحساسة، في الوقت الذي تجاهلوا فيه اسراف العائلة المالكة.
 
وعلي الرغم من تواصل الحلف، الا ان درجة تأثير العلماء تراوحت من وقت لآخر، واعتمدت علي طبيعة الحاكم الذي يعتلي العرش.. مثلا، تراجع تأثير المؤسسة الدينية اثناء حكم الملك فيصل، ومع انه كان متصلا بالقرابة بعائلة الشيخ (اي احفاد مؤسس الحركة الوهابية، محمد بن عبد الوهاب) من جهة امه. الا ان قوة شخصية الملك فيصل ساعدته علي ادخال العديد من الاجراءات التحديثية، متجاوزا في ذلك معارضة العلماء القوية. الا ان مواجهته مع العلماء لم تصل في يوم من الايام الي نقطة اللاعودة. مثلا، عندما نجح بادخال التلفزيون للسعودية، لم يتردد الملك فيصل في حصر البث التلفزيوني في البرامج الدينية والاخبار، وبعد ان اعلن عن حق المرأة في التعليم، قام بوضع كبار العلماء علي رأس مؤسسة تعليم البنات للاشراف عليها.
ولكن خلال عهد الملك فهد، استطاع العلماء، تعزيز واستعادة سلطتهم. فالثورة الايرانية، والدعاية المعادية للسعودية مثلت تحديا كبيرا للدولة السعودية، ونتيجة لذلك، بدأ الملك فهد باستشارة كبار العلماء في الشؤون المحلية اسبوعيا. كما اوقف الاجراءات الليبرالية التي ادخلت بشكل متردد في السبعينات من القرن الماضي وتبني سياسة اكثر محافظة، وبناء عليه، فقد صار التعليم اكثر اسلامية. ومع انه استمع لمطالب العلماء المتعلقة بالسلوك الاخلاقي وأثر التغريب والعادات الغربية الا انه لم يسمح لهم بالتدخل في شؤون ادارة الدولة او السياسة المحلية.
 
 

دور المطوعين


 
دور العلماء في شؤون المملكة يمكن تلخيصه بشكل جيد بالدور الذي لعبته لجنة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر او المطوعين، ومثل بقية قطاعات المؤسسة الدينية، تم دمج اللجنة في قطاع الخدمة المدنية، حيث صارت تحت سيطرة الملك بالتعاون مع العلماء.
 
ونشأت اللجنة اصلا في القرن التاسع عشر، ويبلغ عدد اعضائها اليوم 20 الف شخص ويقومون بالتأكد من التزام العامة بتعاليم الوهابية، وتضم واجباتها:
 
التأكد من إلتزام الذكور بمواقيت الصلاة ودخولهم المسجد.
 
التأكد من اغلاق المحلات اثناء الصلاة.
 
التأكد من التزام العامة بالامتناع عن الشراب والأكل والتدخين اثناء الصيام في شهر رمضان.
 
التأكد من منع تناول الكحول
 
التأكد من ان الحشمة يتم الالتزام بها في الاماكن العامة، اي ان المرأة تغطي جسدها، ومنع اي تصرف غير اخلاقي.
 
وهذه الواجبات التي تبدو انتهاكا لخصوصية الفرد وحريته الشخصية اعطت المطوعين سمعة تشير الي تطرفهم وقسوتهم وفظاظتهم، ولكن النظام السعودي يعترف بدور المطوعين، وكما يلاحط بيتر ويلسون ودوغلاس غراهام فبعض السعوديين يعتقدون ان العائلة السعودية تشغل المطوعين في قضايا تافهة لمنعهم من التصدي لقضايا ذات وزن كبير، وسلطتهم تتعاظم عندما تحتاج الدولة لبناء مصداقيتها الدينية. وهذه النزعة تكررت كثيرا خاصة في أثناء فترات القلاقل مثل اعمال الشغب الايرانية اثناء الحج في عام 1987، كما ظهرت اثناء حرب الخليج الثانية، حينما ادي تواجد القوات الاجنبية علي التراب السعودي لنقد شديد من بعض العلماء والمحافظين، ومن اجل ارضاء المشاعر المحافظة قامت بدعم دعوة المطوعين لقمع كل السلوكيات غير الاسلامية، وكان رد الحكومة الحاسم علي مظاهرة النساء في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1990 حالة في هذا الاتجاه، فعندما قامت اربعون امرأة سعودية متعلمة بالخروج في مظاهرة للمطالبة بحقهن بقيادة السيارات، طالب المطوعون بمعاقبتهن، ونتيجة لذلك قامت الحكومة بمصادرة جوازاتهن وفصلت المدرسات منهن، ومنع النساء من قيادة السيارات رسميا، وصارت سلطة المطوعين اكثر وضوحا وتدخلا في شؤون الآخرين.
 
وقبل انهاء هذه الفقرة، لابد من ملاحظة هامة عن تحالف السعوديين والعلماء، فقد فهمت العائلة السعودية وبشكل مستمر اهمية الدور الهام الذي لعبته المؤسسة الدينية في التأكيد علي شرعية النظام، وتسامحت ولعقود طويلة مع مطالب المطوعين المتزايدة بالالتزام بمراقبة شديدة لتصرفات السعوديين والتي اعتبرت غير اخلاقية، لكن هذا التسامح لم يكن محدودا وظل محكوما بشرط أساسي. فما دامت المؤسسة الدينية لم تقم بتغيير قواعد اللعبة فالحكومة واصلت تدليلها، ومن هنا فانتهاك هذا الشرط سيكون قرارا غير حكيم من طرف المطوعين، وكمثال علي هذا، رد فعل العائلة الحاكمة علي العريضة التي وقعها اكثر من اربعمئة عالم واستاذ جامعي في الجامعات الاسلامية وغير الاسلامية عام 1991، فالعريضة التي جاءت علي خلفية حرب الخليج، وتواجد القوات الاجنبية علي التراب السعودي اصابت المؤسسة السعودية بالصدمة، خاصة ان اكثر من خمسين من الموقعين عليها كانوا من العلماء الكبار، وطالبت العريضة من بين عدة اشياء بسيطرة العلماء عبر مجلس الشوري علي السياسات الداخلية والخارجية، بما فيها السياسات المتعلقة بانتاج البترول وتسعيره وتسويقه، ببساطة كانت العريضة دعوة لتغيير معادلة السلطة بين العائلة السعودية والمؤسسة الدينية. وردت العائلة سريعا وبطريقة قاسية، وتم اتخاذ خطوات غير مسبوقة ضد الموقعين، بما فيها مصادرة جوازاتهم، ومنعهم من القاء المحاضرات في الجامعات او استخدام المنابر في مساجدهم، فيما تم سجن الشخصيات الخطيرة من بينهم.
وبعد ان ذاقت طعم غضب النظام، اصدرت هيئة كبار العلماء بيانا شجبت فيه العريضة ونشرها قائلة للمسلم حق نصح الحاكم علي انفراد، الا انه يجب عدم الافصاح عن هذه النصيحة او استخدامها لتحريض الغير ، وكان الرد الحاسم من قبل النظام بمثابة تعزيز لمعادلة السلطة التي وضعها ابن سعود: العلماء شركاء صغار مع العائلة السعودية، ولن يسمح لهم بالاملاء علي العائلة طريقة حكم البلاد.
 
 

الرفاه والاستقرار السياسي


 
 
 
كما لاحظنا، قاومت العائلة السعودية التغييرات السياسية، وتمسكت بقوة بـ سياسة الامر القائم ، واضعة علي الرف الانتقادات الداخلية والخارجية. وحتي تحت الضغط، فالتنازلات الظاهرية التي قام بها النظام لم تكن اكثر من تأكيد قانوني لسياسة الواقع القائم، وظلت بشكل عام غير مستجيبة لمطالب الاصلاح السياسي، ولم يتحرك لها اي شعرة. لكن، وعلي خلاف الجانب السياسي، كانت العائلة السعودية تتخذ موقفا مغايرا عندما يتعلق الأمر بالشأن الاقتصادي. فأينما كان هناك قلق وعدم استقرار بسبب المصاعب الاقتصادية، كان الرد الحكومي مختلفا، ففي مثل هذه الحالات كانت الحكومة سريعة في الاستجابة للمطالب الاقتصادية والاجتماعية، وكان هذا واضحا في الثمانينات من القرن الماضي حينما واجهت الحكومة ركودا اقتصاديا وعجزا كبيرا في الميزانية، وووجهت باحتجاج عام، عندها تراجعت الحكومة لانها كانت راغبة في التخفيف من المشاعر المعادية.
هذا التناقض في ردود افعال النظام تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية لم يكن مثيرا للدهشة، والجواب علي هذا موجود في الدور الذي لعبته الدولة داخل المجتمع السعودي. وفي رأيي فان ممثلي المجتمع والدولة مرتبطون ببعضهم البعض بعقد اجتماعي غير مكتوب، فمقابل الحصول علي المنافع التي تقدمها دولة الرفاه، قبل السعوديون بشرعية الدولة الحاكمة علي الرغم من تبذيرها. وبنفس السياق، فحرمان الشعب من هذه المنافع سيكلف النظام شرعيته.
 
عندما اكتشف النفط في عام 1938 جعل من ولادة دولة الرفاه امرا ممكنا الا انه لم يضمن ان تكون الدولة ناتجا من منتجاته، فدولة الرفاه يمكن ردها الي حكم الملك السعودي الثاني، سعود، وتم بناؤها تدريجيا. في الحقيقة، تم تخصيص مئة وخمسين الف جنيه فقط، من الميزانية الرسمية لعام 1946 التي وصلت الي 13،2 مليون جنيه استرليني لمشاريع التطوير. لكن الصورة بدأت بالتغير عندما تولي نجل الملك عبدالعزيز، سعود السلطة، وخلال حكمه المضطرب تم تأسيس بنية تحتية كبيرة، ولكن اعمدة دولة الرفاه الاجتماعي تم بناؤها فقط في الخمس سنوات الاولي من الخطة الخمسية للتطوير (1970 ـ 1975) في عهد الملك فيصل.
 
وقامت اهداف الخطة الاجتماعية علي تقديم العناية الصحية المجانية للسعوديين، والتدريب المهني، وقروض لا ربوية، ومساعدات لشراء البيوت، ودعم للمواد الاساسية، ومعونات بدون فوائد للاشخاص من ذوي الدخل المحدود، وتوسيع فوائد التأمين الاجتماعي والدعم للمحتاجين، وقد تم تحقيق هذه الاهداف، وتمتع المواطنون السعوديون بالمزايا التي اعتبرت استثناء مقارنة مع المعايير الدولية، واعفي السعوديون من دفع ضرائب الدخل مع ان معدل الدخل السنوي للمواطن السعودي ارتفع عام 1981 الي 28 الف دولار امريكي في العام.
 
كل هذه المنافع الاجتماعية عبدت الطريق لاستقلالية الدولة في مقابل المجتمع، ويناقش ميشيل نهيم في حالة دول النفط الخليجية فقد تموضعت الدولة في الحقيقة خارج ضوابط القوي المحلية الثقافية والاجتماعية السياسية . وقدمت الثروة النفطية بعدا اضافيا كانت الدولة بحاجة اليه لتفعيل مفهوم استقلاليتها النسبية، وكما ان الدول الخليجية المنتجة للنفط تشتق ميزانياتها ونفقاتها من الاقتصاد العالمي القائم علي فكرة الدولة المصدرة للنفط، عوضا عن الاقتصاد المحلي، ومن الوحدات الاجتماعية والثقافية، فقد كان من المنطقي أن تصبح هذه الدول مستقلة وغير محكومة بالقوي المحلية.
 
غير أني أعتقد في المقابل أن إستقلالية الدولة السعودية كان وما زالت منحصرة بشكل كبير في مطالب الاصلاح السياسي، لانها اظهرت استعدادا لتقديم تنازلات في المجال الاقتصادي، وتقدم وثيقة المطالب التي وقعتها 400 شخصية اسلامية في أيار (مايو) 1991 حالة واضحة في هذا الاتجاه. وطالبت هذه العريضة باصلاحات سياسية واسعة وتضمنت كذلك بتوزيع الثروة الوطنية بالعدل بين كل طبقات المجتمع، والغاء كل الضرائب، وتخفيض الرسوم، وحفظ المصادر من التبذير والاستغلال، واعطاء الاولوية للحاجات الضرورية، والغاء كل اشكال الاحتكار، والثروات التي اكتسبت بطريقة غير شرعية ، ولكن النظام تجاهل اجندة الاصلاح السياسي علي الرغم من تفجر الوضع السياسي بسبب حرب الخليج وتواجد القوات الاجنبية علي التراب السعودي، واختار النظام فقط تخفيض الضرائب والرسوم.
 
والامثلة كثيرة علي استعداد النظام للتنازل حينما تمت مواجهته بالمطالب الاجتماعية، وعندما فشلت المحاولات الاولي لتخفيض الدعم علي الكهرباء والماء والكاز وغيرها من المواد الاساسية بسبب المعارضة العامة، قامت الحكومة بالاعلان عن اجراءات جديدة لرفع العائد الوطني في ميزانية عام 1988، وتضمنت هذه ضريبة مطار، 10 ريالات سعودية للرحلات الداخلية، و 50 ريالا سعوديا للرحلات الدولية، و10 ريالات سعودية فواتير الكهرباء والمياه، ونفس المبلغ علي استخدام العيادات والمستشفيات الحكومية، ورفعت الحكومة النسب علي الاستيراد لما بين 7 الي 12 بالمئة، وفرضت ضريبة 20 بالمئة علي الاسمنت وغير ذلك من البضائع التي تنافس البضائع السعودية، ولقيت كل هذه الاجراءات نفس مصير اجراءات اخري: الهزيمة الكاملة. فبعد اسبوعين من اقرارهما قامت الحكومة بشطب معظمها بسبب الضغط المحلي الكبير.
 
فالفرق الكبير بين رد فعل الحكومة علي المطالب السياسية والاقتصادية في حالة، والمطالب السياسية في حالة اخري يمكن شرحه من خلال اقتناع العائلة السعودية بإفتراض محدد، يقول انه مادامت الحكومة قادرة علي تقديم منافع دولة الرفاه، فغالبية السعوديين لن تأبه أو تنشغل بمطالب الاصلاح السياسي، وبنفس القدر، فهذا الافتراض ينظر للاشخاص الذين يطالبون باصلاحات سياسية باعتبارهم لا يمثلون الاتجاه العام للمجتمع أو الشارع السياسي. وفي نظري، فالنظام مخطئ في هذه النظرة، وهو للمفارقة يتجاهل دوره الرئيسي في توليد الحركات المطالبة بالاصلاح، فقد كان انشاء دولة الرفاه شرارة لولادة المطالب السياسية، وهذا الافتراض ليس جديدا، فقد قدم هنتنغتون الاساس النظري له في كتابه الشهير الاستقرار السياسي في المجتمعات المتغيرة ، ومرة ثانية في كتابه خيار ليس سهلا: المشاركة السياسية في المجتمعات النامية ، وفيهما ناقش ان طبيعة التحديث لا تؤدي فقط الي تغييرات اجتماعية واقتصادية تنعكس علي الاستقرار بصورة مقلقة، ولكن النتائج الجانبية لهذه التغييرات تكون في العادة تحديثا سياسيا، ومع ان التحديث السياسي والاجتماعي غالبا ما يولد تغييرات في المجال السياسي والاجتماعي ولكن هذا لا يعني بالضرورة ان النظام السياسي يتحرك نحو دولة حديثة. وعليه، فقد وجدت بعض الدول النامية نفسها في دائرة مفرغة: فالتحديث يتطلب تغييرات اجتماعية وسياسية سريعة والتي تشكل ارضية لولادة منظمات اجتماعية قوية تطالب بمشاركة في عمليات اتخاذ القرار السياسي، ومع ذلك فهذه التغييرات تحدث في غياب المؤسسات القادرة علي الاستجابة للحاجات الجديدة والتوقعات العالية، ونتيجة لذلك، قد يبرز التوتر والنزاع الاجتماعي، والذي من الممكن ان يؤثر علي الاستقرار السياسي، والذي يعتبر شرطا مقدما لنجاح الحداثة. ويمكن ان تصلح السعودية حالة لاثبات هذه النظرية بشكل صحيح، فانشاء دولة الرفاه السخية ربما ادي لتأخر او بطء عمليات الاصلاح والتحديث، الا ان الدولة لم تمنع من حدوثها. بالمقارنة، فعمليات التحديث السريعة للسعودية فاقمت الانقسام الاجتماعي الموجود اصلا، فهذه الانقسامات الاقليمية والطائفية تمثل تهديدا متعدد الجوانب للنظام السعودي.
 
 

الانقسام الاقليمي ـ المناطقي السعودي


 
يمكن النظر الي السعودية باعتبارها تتشكل من اربعة اقاليم كان كل واحد مستقلا عن الاخر قبل ان يبدأ الملك عبدالعزيز حملته الناجحة عام 1902، وكل اقليم يحتوي علي سكانه المحليين، فالحجاز، الذي توجد فيه الأماكن المقدسة للاسلام، ارتبط تاريخيا بالنظام البيروقراطي العثماني، وتم تشريب سكان الحجاز وخلال قرون من المسلمين القادمين من الخارج الذين كانوا يأتون للحج ويقررون البقاء. اقليم نجد، الذي كان مركز سلطة السعوديين، ظل معزولا حتي الستينات من القرن الماضي ولم يتعرض للاستعمار قط، وكان اقليم نجد هو الذي اعتنق مبادئ الوهابية بحماس شديد، وقدم الاقليم الجنود لجيش الاخوان، في اطار آخر تعيش بالمنطقة الشرقية غالبية الشيعة في السعودية، وبنفس الوقت تحتوي المنطقة علي الاحتياطي الاكبر من نفط البلاد، اما عسير، بارتباطاتها الجغرافية والتاريخية مع اليمن، فمعظم سكانها من اصل يمني.
 
الصراع والعداء المستمران بين الاقاليم حقيقة موجودة، خاصة ان الصراع بين نجد والحجاز موثق بشكل جيد، ويعود الي عام 1925 حينما احتل عبدالعزيز الحجاز بالقوة، واعتبر انتصاره غزوا نجديا للحجازيون، ولعب العرق والاختلاف الثقافي دورا في مفاقمة العداء المتبادل بين الطرفين فقد اعتبر النجديون انفسهم اصفي عرقيا من الحجازيين، الذين اطلقوا عليهم طرش بحر او بقايا حجاج لان اجدادهم رماهم الموج علي شاطئ البحر الاحمر، كما نظروا للحجازيين باعتبارهم هراطقة، لان الاسلام الذي يمارسونه شابته المؤثراته الاجنبية.... اما الحجازيون الذين كانوا يملكون التلفونات والسيارات ولديهم نظام قانوني متقدم نوعا، ونظام مصرفي نظروا للنجديين باعتبارهم جهلة، وغير متحضرين .
 
وكانت العائلة السعودية الحاكمة اداة هامة في تعميق هذا التنافس، ففي البداية اعتمدت البيروقراطية السعودية علي الحجازيين لأن تعليمهم، ومعرفتهم بالعالم وتجربتهم التجارية اهلتهم لهذه المناصب، بالاضافة لذلك، وعلي الرغم من اعتماد الرياض التي تقع في قلب نجد كعاصمة للبلاد، فقد تركت وزارة الخارجية السعودية، ووكالة النقد للمملكة العربية السعودية في جدة التي تقع في الحجاز، كما ان الممثليات الدبلوماسية الاجنبية موجودة ايضا في جدة، حيث تم الاخذ بعين الاعتبار موقف الرياض المعادي للاجانب. وكانت وفاة الملك فيصل عام 1975 بداية النهاية لتسيد الحجازيين لمؤسسات الخدمة المدنية، فقد اصبحت محاباة النجديين ملمحا اساسيا من حكم الملك الراحل الملك خالد وما زالت واضحة في عهد الملك فهد. ويمثل النجديون الآن غالبية الوزراء ونواب الوزراء وكبار مسؤولي الحكومة، وبالتأكيد فالمحاباة انتشرت في بعض الوزارات بشكل صارخ لدرجة ان مئات الحجازيين اجبروا علي ترك وظائفهم فيما استخدم النجديون مواقعهم لخدمة اقاربهم.
 
كما ان التنافس بين الحجازيين والنجديين لم ينحصر فقط في البيروقراطية والمناصب الحكومية، فهم يتنافسون ايضا علي المصالح التجارية، فتقليديا، تكونت الطبقة التجارية في الجزيرة العربية من الحجازيين ومن المنطقة الشرقية، وعليه كانت العائلة الحاكمة تقترض الاموال من الحجازيين ونظرائهم في المنطقة الشرقية. وبعد ان تدفقت اموال النفط كالطوفان توقف السعوديون (اي العائلة) عن الاقتراض منهم وبدأوا بالتنافس معهم، واستخدموا اموال النفط لانشاء طبقة تجارية جديدة تحابي النجديين .
 
ولا يمكن طرح هذا العداء بين الاقليميين باعتباره امرا تافها، في الحقيقة، يمكن ان يستغل الخلاف كمحفز للفوضي السياسية، اذ كانت هناك عدة محاولات قام بها الحجازيون في الماضي وان لم تكن ناجحة اثناء فترة الازدهار والوفرة النفطية لفصل اقليمهم عن المملكة.
 
الاقليمان الاخران، المنطقة الشرقية وعسير يظلان مصدرين ممكنين لتوتر قد يؤثر علي استقرار المملكة، وستتم مناقشة المنطقة الشرقية في الفقرة التالية، اما عسير، فنادرا ما تناقش في الدراسات البحثية، وربما كان غياب المعلومات سببا في هذا التجاهل، ومع ذلك، فان سكانها يمنيي الاصل قد يشكلون معضلة مستقبلية. وعلي الرغم من ان سكانها قد يفضلون اسلوب الحياة المتقدم في المملكة الا انهم مرتبطون بروابط الدم مع القبائل اليمنية علي الحدود مع السعودية.
 
ربما ولكل ما سبق يري جي اي بيترسون ان فشل النظام السعودي في الثمانينات من القرن الماضي في الوفاء بوعوده بالاصلاح السياسي، ربما جاء هذا بسبب الاعتبارات الاقليمية والجهوية. فقد ظل النظام يؤجل الوفاء بهذه الوعود لانه كان خائفا من بروز الخلافات الاقليمية نتيجة للنقاش العام وضمن هذا الرأي لا توجد هوية سعودية واحدة، بل يوجد نجديون وحجازيون وعسيريون مرتبطون ببعضهم البعض بسبب آل سعود .
 
 
 
***
 
 
 

الإصلاح السياسي


 
 
تحكم السعودية عبر مزيج العلاقات العائلية والدينية. وهي الدولة الوحيدة في العالم التي سميت علي اسم العائلة التي تحكمها. قد يفضل بعض الباحثين، عربا كانوا ام غربيين وعيونهم علي ثروة البلاد، اعتبار المملكة ديمقراطية اسلامية ، وبالتأكيد اتخذت الدولة سياسة، داخلية وخارجية، حاولت من خلالها تصوير نفسها علي انها حامية للاسلام، ونفس السياسة تحاول تقديم المملكة علي انها الدولة الاسلامية الحقيقية ، ولكنها ليست هذه ولا ديمقراطية اسلامية ، وفي الحقيقة فهي ابعد ما تكون عن هذين الوصفين.
 
ومع ذلك فان اي باحث لا يمكن التعامل مع المملكة، كملكية مطلقة، فالسياسة في السعودية غالبا ما تتبع طريقا يقوم ببناء نوع من التوازن بين العديد من المؤسسات الاجتماعية، مما يساعد علي الحفاظ ولو اسميا علي طبيعة الدولة الدينية. ولهذا السبب فالسعودية ذات طبيعة معقدة. وفي الحقيقة، يمكن وصفها بعدة صفات، دولة دينية، دولة تحكمها عائلة واحدة، دولة رفاه اجتماعي، او دولة مقسمة. وسأناقش ان السعودية نظام يجمع كل هذه الصفات. وسأقوم في هذا الفصل بالتركيز علي النظام السياسي السعودي الداخلي وتعقيداته، ودور العائلة المالكة، الدولة والمؤسسة الدينية، الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
 
 

دور العائلة المالكة


 
آل سعود لا يفهمون شيئا عن رغبة العالم والدول الغربية في حاجتهم للتغيير، ويختفون وراء ادعاءات غير حقيقية منها ان الدول الاسلامية مختلفة وغير مهيأة لتبني الديمقراطية، ولا يرون في الدعوات المطالبة بتوزيع عادل للسلطة والثروة، وحماية حقوق الانسان اكثر من تدخل بالشؤون الداخلية.
 
تبدو هذه العبارات قاسية، الا انها لا تبالغ، فالسعودية في الحقيقة مجتمع غير متساو، ولديها سجل طويل في انتهاكات حقوق الانسان. ومنذ ان وصلت العائلة السعودية للحكم فلم تكن تر اي حاجة للتغيير. وفقط وعبر الضغط يمكن الحصول منهم (اي العائلة الحاكمة) علي تعهدات بالاصلاح ـ والتي غالبا ما لا يوفون بها ـ، وبناء عليه، فالامثلة كثيرة، اهمها تلك التي تتعلق بالحكومة الدستورية. وقد اصيبت السعودية بالرعب، عندما سقطت الدولة المتوكلية عام 1962، حيث تبع ذلك وصول القوات المصرية للتراب اليمني، اضافة الي ان لجوء ثلاث طائرات سعودية بطاقمها الي مصر، ادي لسعي السعودية لطلب المزيد من الدعم السياسي والعسكري الامريكي، ومقابل هذا الدعم، تعهد ولي العهد السعودي الامير فيصل بن عبدالعزيز لادارة الرئيس الامريكي كيندي باجراء اصلاحات ديمقراطية في المملكة والتي جاءت من خلال الاعلان عن برنامج النقاط العشر . ومن بين النقاط الثورية لهذا البرنامج وعد بتطبيق القانون وانشاء مجلس شوري، فالقانون كان سيستخدم كدستور، والذي كما اشار فيصل نفسه سيدفع للامام المبادئ الاساسية للحكومة، ويحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وينظم السلطات المتعددة للدولة والعلاقات بين السلطات، ويعطي الحقوق الاساسية للمواطنين ، وقد سلمت الاقتراحات للقانون الاساسي ومجلس الشوري لجان من الخبراء، التي لم تجتمع ابدا، ومع ذلك استمر الدعم الامريكي، الا ان وعود فيصل كانت فارغة.
 
تعهد آخر بالاصلاح، أعلن بعد انتفاضة الحرم عام 1979، حينما قامت مجموعة اسلامية تحت قيادة (جهيمان) العتيبي باحتلال الحرم في مكة، وكانت الجماعة تعارض حكم العائلة السعودية وما اسمته فسادها الاخلاقي، وطلبت من المصلين في الحرم، الانضمام اليها، كما طلب جهيمان واتباعه من العلماء اعادة النظر بدعمهم للعائلة المالكة، وبدلا من وذلك، وبناء علي طلب من الملك خالد، قام العلماء باصدار فتوي سمحت بارسال قوات الحكومة للحرم لطرد الثوار منه. وقد احدثت المواجهات الدموية في الحرم صدمة كبيرة للعائلة الحاكمة، ومن هنا تم تجديد الوعد السابق، بالاعلان عن القانون الاساسي والمجلس الشوري، وهذه المرة فاللجنة المكونة من تسعة اشخاص ـ وضمت تسعة علماء وشخصية عامة عادية تحت رئاسة وزير الداخلية ـ قد اجتمعت، ولكن بعد عام من المداولات، تم وضع مسودتين للميثاقين علي الرف، وتم تشديد الاجراءات الامنية، واطلقت الحكومة يد المطوعين لمعاقبة اي اخلال بالسلوك الاخلاقي، ومرة ثانية تم تجاهل الوعود بالاصلاحات.
 
وقام الملك فهد بتقديم نفس الوعود عندما وصل للسلطة عام 1982، ومع ذلك فقد فشل هو الاخر بالوفاء بتعهداته، فقط، وعندما اجتاح العراق الكويت عام 1990، وطلبت السعودية من امريكا التدخل، فانها اجبرت علي الوفاء بوعدها، ولكن النتائج كانت، علي الرغم من ذلك، مخيبة للآمال. فالقانون الاساسي لعام 1992، في الحقيقة قام بالمصادقة علي الحكم المطلق للملك، فيما لم تعط للمجلس الاستشاري الذي عين الملك اعضاءه مباشرة، اية سلطة حقيقية.
 
فبالتأكيد، جاءت تصريحات الملك فهد الواضحة، بعد شهر من المصادقة علي القانون الاساسي لتقفل الباب امام اي امل طبيعة شعبنا، وطرق حياتنا تختلف عن طرق وتقاليد الديمقراطية في العالم، الانتخابات الحرة لا تناسب بلدنا، دولتنا خاصة، وهو امر يجب علي كل شخص ان يفهمه، وهذا بلد تميزت حياته السياسية بالامان والاستقرار، وبتطبيق تعاليم الاسلام، ولهذا السبب فهو بلد خاص .
 
وفي الوقت الذي يمكن فيه موافقة الملك فهد حول رؤيته للطبيعة الخاصة والاستثنائية للسعودية ، الا ان خصوصيته لا علاقة لها بالاسباب التي ذكرها الملك فهد. فحقيقة ان ابن سعود، مؤسس الدولة، اطلق اسمه عليها تشير الي اعتقاده ان البلد ملك له. كانت دولته هو، وبعد ستين عاما من وفاة ابن سعود، ما زالت هيمنة وسيطرة آل سعود المطلقة متواصلة. ويشترك ابناء سعود واحفاده معه مع بعض الإستثناءات بالطبع) في هذا الرأي، ويجسد البند التاسع من القانون الاساسي هذا الاعتقاد بوضوح إذ ينص علي أن العائلة (السعودية) هي نواة المجتمع . ولكن الباحث لا يحتاج للنظر في المميزات القانونية للتأكد من سيطرة العائلة علي شؤون المملكة، وهذه واضحة في كل قطاع من قطاعات الدولة.
 
 

العائلة والدولة


 
 
علي المستوي الحكومي، يقوم الامراء ـ الاخوة الكبار للملك وابناء عمومته ـ دائما باستلام وزارات الدفاع والخارجية والداخلية والشؤون العامة، وفي الغالب يمنح اخوة الملك الصغار وابناء عمومته بشكل اوتوماتيكي، مناصب نواب للوزراء في نفس الوزارات. كذلك، فقيادة المخابرات والمؤسسات الامنية كلها مقصورة علي العائلة المالكة. وهذا لا يعني ان اشخاصا بأعينهم لا يرتبطون بعلاقات قرابة مع العائلة، لا يستلمون مناصب في الحكومة، فهؤلاء تكنوقراط تم تعيينهم بناء علي كفاءاتهم وولائهم للعائلة السعودية.
 
وهؤلاء مناط بهم مهمة تطبيق برنامج تطوير المملكة ـ وهي مهمة محفوفة بالمخاطر لأن تطبيق سياسة اقتصادية واضحة سيؤدي حتما للتصادم مع مصالح ومميزات اعضاء العائلة السعودية. وغالبا ما ادي هذا التصادم لاعفاء التكنوقراط من مناصبهم. وكمثال في هذا الاتجاه، قيام الملك فهد بعزل ثلاثة من اهم واقدر التكنوقراط في المملكة، وزير الصحة السابق، غازي القصيبي، ووزير النفط السابق احمد زكي يماني، ومدير وحدة النقد للمملكة العربية السعودية السابق عبدالعزيز القرشي، وكان دفاع الوزراء عن سياسات تعارضت مع مصالح العديد من الامراء السعوديين سببا لقيام الملك فهد بعزلهم.
 
ولم تكن الحكومة هي نطاق السيادة الوحيد الذي سيطرت عليه العائلة المالكة، فكل اقاليم المملكة، الاربعة عشر، يحكمها امراء سعوديون، وكل واحد فيها بصفته اميرا او حاكما، قام الملك بتعيينه. وفي العادة يقوم الامير او الحاكم بالاتصال مباشرة مع الملك، علي الرغم من انه تابع نظريا لوزارة الداخلية.
 
مسؤوليات الحاكم كبيرة، فهو مسؤول عن الاشراف علي اداء المسؤولين الحكوميين وعمل البلديات داخل اقليمه، ويقوم بقيادة قوة الشرطة المحلية، ووحدة الحرس الوطني، كما يقوم بالاشراف علي عمليات التجنيد والقبول في هاتين المؤسستين الامنيتين. وباختصار، فهو يقوم بالسيطرة الكاملة علي الشأن العام في الاقليم. وليس غريبا ان تؤكد العائلة الحاكمة علي اهمية استلام المناصب العليا، ومناصب النواب التابعين افراد العائلة.
 
 وفوق هذا، وكلما كانت المنطقة مهمة، كلما كان الحاكم يتمتع بصلات قرابة قوية مع الملك. وعليه، ففي عام 1992، كل الامارات المهمة، استلمها اشقاء وابناء وابناء عمومة للملك، فيما حكم الاقاليم الصغيرة اقرباء اباعد للملك.
 
السيطرة الكاملة التي مارستها العائلة علي الشؤون الحكومية تزاوجت مع هيمنتها علي قطاع الاعمال، ولا ينكر اعضاء العائلة الحاكمة تسيدهم للاقتصاد، وفي الحقيقة، برر بعض الامراء هذا من خلال قولهم عليك ان تفهم حقيقة بسيطة كما قال الامير سعود بن نايف بن عبدالعزيز عام 1992 لأن العائلة كبيرة، وكلنا لا نستطيع ان نحصل علي وظائف حكومية، يجب علي بعضنا ان يبحث عن سبل للعيش، وهذا عدل .
 
العائلة السعودية بالتأكيد كبيرة، ولو تم جمع كل فروعها، فانها ستصل الي 20 الف شخص، هذه العائلة الابوية تنتمي الي محمد بن سعود، مؤسس العائلة في القرن الثامن عشر، واهم فرع من فروع العائلة ذلك الذي يرد اصوله الي فيصل بن تركي، جد ابن سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية اليوم، وفي عام 1992 قدر عدد الذكور الذين تعود اصولهم الي فيصل اربعة الاف شخص، وفقط هؤلاء، يعتبرون من العائلة المالكة ويطلق عليهم لقب امير.
 
ومع ذلك فان وصف البحث عن رزق لا يعبر في الحقيقة عن الدور الذي تلعبه العائلة المالكة في قطاع المال والاعمال، واذا اخذنا بعين الاعتبار ان المراكز العليا في الدولة يشغلها اعضاء العائلة المالكة وان الحكومة هي التي تقوم بالانفاق علي الاقتصاد، وعليه يتم منح الامراء اوتوماتيكيا العقود الحكومية، وكما اشار كل من ويلسون وغراهام فان هذه العقود تمنح لأمراء لا يملكون من الحس التجاري الا اقله وعلي اساس صلتهم بالعائلة المالكة فقط ، وحسب خبراء سعوديين وامريكيين فالمراكز الحكومية والعلاقات العائلية استخدمت للحصول علي عقود والعمولات من الشركات الاجنبـــية، ويلاحظ المراقب ان المصدر الرئيسي لدخل الامراء يأتي من الاموال المقطوعة كعمولات من قبل اعضاء العائلة الحاكمة الذين اما يشغلون مناصب في الحكومة او يقومون بدور السماسرة لتأمين الصفقات التجارية مع الشركات الاجنبية، وليس غريبا ان انخراط العائلة المالكة في القطاع التجاري يسبب حساسية العائلات التجارية التي كانت تقليديا القوة الرئيسية في قطاع المال والاعمال.
 
مثال آخر عن انخراط العائلة في الاقتصاد، ذلك الذي يتعلق بعقود السيطرة علي الارض، وحسب سعيد ابو الريش، فنسبة 80 في المئة من اراضي المملكة تمت مصادرتها باعتبارها ارضا تعود للعائلة المالكة ـ اي اراضي اميرية ـ خلال عهد الملك فيصل (1964 ـ 1975 ) وغالبا ما تم توزيع هذه الاراضي بين افراد العائلة المالكة او حاشيتهم والذين يقومون بدورهم ببيعها مرة اخري للحكومة او لافراد وبأرباح ضخمة.
 
ومع ذلك لا شيء يلخص استخدام العائلة المالكة لموارد الدولة من اجل زيادة أرصدتها المالية اكثر من الطريقة التي تتعامل فيها العائلة مع نفط المملكة، وتظل الخطوط التي تفصل ما بين عوائد العائلة المالكة من النفط غامضة. وقد بدأ هذا الوضع في الايام الاولي لحكم ابن سعود وما زال مستمرا حتي اليوم. وتعامل ابن سعود مع الشؤون المالية للمملكة عكس اعتقاده ان الدولة هي ملك شخصي له، وتوصل الباحثان بيتر ويلسون ودوغلاس غراهام الي هذا الفهم ليس هناك اي تمييز بين عوائد الدولة والشخصية ، ولم تكن عوائد النفط استثناء، وفي الحقيقة، فقد استخدمت عوائد التنقيب عن النفط لتخفيف الضغط المالي عن العائلة المالكة خاصة عندما تتراجع العوائد المالية للحج بسبب الضيق الاقتصادي. وبدلا من استخدام هذه الاموال في المشاريع العامة، استخدم ابن سعود وابناؤه وحاشيته الثروة الجديدة لبناء القصور، والسيارات، وغير ذلك من الرفاهيات، مما ادي لاحداث فوضي في الوضع المالي.
 
واستمر البذخ هذا بعد وفاة ابن سعود، حيث قفزت المخصصات الحكومية للملك والعائلة المالكة من عشرة في المئة في عام 1958 الي 17.6 في المئة عام 1960، ومنذ ذلك الوقت، فقد تراوحت هذه الحصة ما بين 15 الي 17 في المئة. وحسب سعيد ابو الريش، فنفقات العائلة المالكة تدفع مباشرة من عوائد النفط ولا تظهر في حسابات الدولة الوطنية، وفي الوقت الحالي، يقوم الملك فهد بتلقي الاموال وتوزيعها علي بقــية اعضاء العائلة المالكة.
 
ويؤكـد كل من ابو الريش وغراهامـ ويلسون ان بعض افراد العائلة المالكة يعطون نفطا خاما للتصرف به وبيعه بطرقهم الخاصة، وليس غريبا ان تقوم العائلة المالكة بمراكمة ثروات هائلة.وفي عام 1989 قدرت ثروة الملك فهد بحوالي 18 مليون دولار امريكي، حيث جاء في المرتبة الثانية بعد سلطان بروناي الذي كان اغني رجل في العالم.
 
وباختصار، فالطبيعة الاستثنائية للسعودية كانت نتيجة للتحكم والسيادة اللذين مارستهما العائلة المالكة علي شؤون البلاد السياسية والاقتصادية، وعليه فليس مبالغة الحديث عن تجارة العائلة او ما اطلقت عليه ايكونوميست شركة العائلة حينما يتعلق الامر بالسعودية.
 
 
 
 
القدس العربي ـ لندن ـ اكتوبر 2002
 
 

copy_r