ويتواصل ربيع الثورات في العالم العربي، ولكنه يصبح اكثر دموية وعنفا ويزداد
اتساعا. فالمشهد العربي اليوم يختلف عما كان عليه عندما أشعل الشهيد التونسي،
محمد بوعزيزي، شعلة الثورة مقدما جسده وقودا لها. يومها لم يكن هناك سوى مشاعر
غضب تعتمل داخل النفوس يخشى اصحابها ان يظهروها الى العلن لكي لا يدفعوا
ارواحهم ثمنا لذلك. اما اليوم فقد تحول المشهد بشكل جوهري، فلم يعد هناك
ديكتاتور عربي بمنأى عن غضب شعبه. واذا كان المشهد الليبي الأشد من حيث الدموية
والقتل الجماعي، فانه سيكون الاعمق تغيرا وشمولا. فليبيا بعد مجازر الاسبوع
الماضي لن تكون كما كانت قبل اندلاع ثورة شعبها.
واذا كان النظامان المصري والتونسي قد خرجا من ثورتي البلدين محافظين على
الدولة وآلياتها، فان من الصعب تصور سقوط القذافي وبقاء الدولة التي تزعم
صياغتها منذ ان تربع على الحكم في 1969. وثمة خشية متعمقة بان يستمر العنف في
ليبيا بعد سقوط القذافي نتيجة الدماء التي اسالها ووحشية قمع المتظاهرين خصوصا
في المنطقة الشرقية من البلاد. مع ذلك لم تمنع تلك الوحشية الدموية انتشار
الثورة الى بلدان اخرى. فاليمن يشهد ثورة شعبية اخرى تتوسع بشكل مضطرد وتهدد
حكم الرئيس علي عبد الله صالح الذي تربع على كرسي الحكم اكثر من ثلاثة عقود.
والبحرين، هي الاخرى، تستمر في ثورتها بتظاهرات سلمية تتوسع بمرور الوقت، نتيجة
فشل العائلة الحاكمة في اتخاذ خطوات جذرية لاصلاح اوضاعها. وبرغم محاولات بعض
الاطراف السياسية حرف الهدف للثورة وهو اسقاط النظام بوضع شروط للحوار معها،
فالواضح ان الشارع يفرض اجندته ويصر على اسقاط النظام كما حدث في البلدان
الاخرى.
وربما التطور الاهم الذي سوف يؤدي، لو حدث، الى تغيير الشرق الاوسط جذريا،
يتمثل بما سيحدث في المملكة العربية السعودية. ويراقب العالم ما سيجري في
الاسابيع المقبلة في هذا البلد المهم استراتيجيا وعربيا واسلاميا. وقد تصاعد
القلق لدى الدوائر الغربية خصوصا الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص بعد
اطلاق دعوات على الفيسبوك للاحتجاج الشعبي في 20 مارس المقبل، وهي دعوة فريدة
من نوعها في بلد لم يعرف عن شعبها حماسه للتظاهر والاحتجاج لاسباب عديدة.
اولها: القبضة الامنية الشديدة التي فرضها الحكم السعودي طوال العقود السابقة،
والقسوة في التعامل مع المحتجين في السابق، وما تزال ذاكرة المتقدمين في العمر
من المعارضين المخضرمين تختزن قصصا متداولة ليس معلوما مدى صدقها، عن القاء
المعارضين من الطائرات في صحراء الربع الخالي. ثانيها: الدعم الغربي، خصوصا
الامريكي على الصعيدين الامني والسياسي، وهو دعم مؤسس على القناعة الراسخة
بضرورة الحفاظ على نمط الحكم القائم وعدم السماح بما يزعزعه من جهة وما يحوله
الى نظام ديمقراطي يسمح للشعب بالتحكم في القرارات ذات الطبيعة الاستراتيجية
كالنفط والتسلح والعلاقات مع الغرب من جهة اخرى.
ثالثها: الفتاوى الدينية التي تنطلق من مؤسسات الافتاء الديني والتي تدعو عموما
لاطاعة الحاكم وتحرم الخروج عليه، وهي فتاوى ساهمت في تكريس انظمة القمع
والاستبداد باضفائها شرعية دينية على انظمة حكم لا تقوم بالعدل ولا تحترم حقوق
الناس ولا تلتزم بكتاب الله. رابعها: ان السعودية بسياساتها ومدارس تعليمها
وفقه مؤسساتها الدينية كانت من بين اسباب نشوء ظاهرة التطرف التي ادت الى تفتت
الامة من جهة، وتشويه صورة الاسلام من جهة ثانية، والحيلولة دون تغيير اي من
الانظمة الديكتاتورية من العالم العربي من جهة ثالثة. وفي ما عدا ليبيا، فان
مجموع من سقط من الشهداء في البلدان التي شهدت ثورات شعبية عارمة لا يصل الالف
من الشهداء. ومن المؤكد انه رقم كبير لانه قتل عمد وازهاق لنفوس محترمة، ولكنه
ثمن متواضع لتحقيق حرية الشعوب اذا ما قورن بحمامات الدم التي سالت في العديد
من البلدان العربية والاسلامية نتيجة العمليات الانتحارية التي ازهقت ارواح
عشرات الآلاف من الابرياء.
السعودية تقف اليوم على مفترق طرق: فاما الاصلاح العميق والمستعجل، او الولوج
الى الحالة الثورية التي لن توفر النظام في بلد ما يزال اسيرا لعقلية الحكم
الاستبدادي الشمولي، ويعاني من صراع خفي على مستويات عديدة: سياسية ومناطقية
وثقافية ومذهبية. وكعادة انظمة الحكم العربية، لم تتحرك العائلة السعودية
المالكة حتى هذه اللحظة بشكل جاد لاصلاح نظام حكمها الذي يشجبه القاصي والداني
ويعتبره من بين اهم اسباب الثورات التي تجتاح البلدان الاخرى. فتقديم مساعدات
مالية محدودة اسلوب جديد قديم لا يقدم ولا يؤخر في المعادلة السياسية شيئا، ولا
يقنع الجيل الشاب الراغب في التغيير بجدية رموز الحكم. وما اكثر العرائض التي
وقعها بعض العلماء والمثقفين والناشطين والتي وجهت لرموز الحكم، مطالبة
باصلاحات محدودة. ولم يحظ اي من هذه العرائض باهتمام الحكم السعودي، بل ربما
اعتقل القائمون عليها كما حدث مؤخرا. وبرغم ما يقال عن السعودية وما يقال عن
خمول شعبها، فقد شهدت العديد من التحركات المناوئة للحكم في العقود الاخيرة.
وما تزال الذاكرة تختزن الانتفاضة التي قادها جهيمان العتيبي في 1979 الذي
تمترس مع المئات من انصاره داخل المسجد الحرام، واعلن تمرده على الحكم السعودي.
ولم تنته الازمة الا بعد تدخل القوات الفرنسية التي استقدمها النظام وقتل
جهيمان وعدد كبير من انصاره، واعتقال من بقي منهم على قيد الحياة. وفي
الثمانينات شهدت المنطقة الشرقية تظاهرات واحتجاجات ومطالب سياسية اصلاحية،
قوبلت بالقمع والاعتقالات. واستمر التوتر في تلك المنطقة حتى 1993 عندما دخل
الملك فهد آنذااك في حوار مع المعارضين، ادى الى انهاء المعارضة الشيعية وعودة
كوادرها وغلق ملفاتها ضد الحكم السعودي بعد تقديم وعود كثيرة بالاصلاح. وما هي
الا برهة حتى شعر رموز تلك الحركة بخيبة الامل وعدم التزام الحكم بجانبه من
الوعود، فعاد بعضهم الى المعارضة واعادوا صياغة اجندة جديدة تطالب بالاصلاح
وتمارس الضغوط المختلفة على نظام الحكم.
وفي ضوء التطورات المتلاحقة في المنطقة وتطاير شرار الثورات عبر الحدود، اصبح
في حكم الممكن جدا انفجار الوضع في الجزيرة العربية برغم محاولات الغربيين،
خصوصا الولايات المتحدة الامريكية منع ذلك باتخاذ خطوات ومواقف جديدة مختلفة عن
تلك التي اتخذتها عندما اندلعت ثورتا تونس ومصر. فقد تراجعت واشنطن واصبحت اقل
حماسا للتغيير في منطقة الخليج، خصوصا بعد اندلاع الاضطرابات في سلطنة عمان،
وهي التي كانت الاقل عرضة لرياح الثورة والتغيير. ادارة الرئيس اوباما رحبت بما
اسمته 'اصلاحات' من جانب حكومة البحرين، لا تتجاوز اطلاق بعض السجناء السياسيين
واجراء تعديل وزاري شمل اربعة وزراء فقط. هذا في مقابل دعوات المعتصمين في دوار
اللؤلؤة لسقوط النظام. ولذلك يتوقع ازدياد الوضع تعقيدا في الاسابيع المقبلة
خصوصا فيما لو انطلقت ثورة السعودية المنتطرة. وبرغم الاستغراب من الموقف
الامريكي، فان الامر الاكثر غرابة تجاهل الانظمة العربية المهددة بالثورات
الشعبية دعوات الاصلاح وتباطؤها في اعتماد اصلاحات تذكر لاحتواء الغضب الشعبي
المتفجر. فلماذا هذا التلكؤ؟ ولماذا اعتقاد هذه الانظمة بان ما يحدث في الدول
الجارة لن يصل حدودها؟ هل بلغت حالة البلادة والعجز والتخلف العقلي درجة تحول
بين هذه الانظمة واستيعاب عمق المشكلة؟ ام ان ذلك ناجم عن ضمانات غربية،
امريكية وبريطانية، بحمايتها من السقوط؟ اهو حالة الخواء الفكري والنفسي التي
بلغتها هذه الانظمة؟ ام مستوى التخبط والدجل والانتقائية وازدواجية المعايير
لدى الحكومات الغربية؟ فكثيرا ما قيل ان مصر بوابة التغيير للعالم العربي، وان
سقوط نظامها يعتبر الخطوة الاولى على طريق التغيير. ولكن ما جرى بعد تنحي حسني
مبارك يوحي بصراع خفي بين الطرفين الاساسيين في المشروع التغييري: حركة الشباب
العربي التي اطلقت مشروع التغيير والقوى الغربية التي دخلت الميدان متأخرة لمنع
ذلك بكافة الوسائل المتاحة لديها. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، كما
يقال. فانفلات الوضع الامني في ليبيا ادخل عاملا جديدا على مسلسل الصراع من اجل
الحرية والديمقراطية. فالقذافي استعمل قوة مفرطة لقمع ثورة شعبه، واحرج
الغربيين كثيرا. فهل يسمحون بسقوطه، وهو الخيار الذي كان متوقعا؟ ام منع ذلك
وتأجيله الى حين، لتوجيه ضربة للمشروع التغييري وادخال الخوف في نفوس دعاته؟
أيا كان الامر فان تطورات الاوضاع في الجزيرة العربية في الاسابيع المقبلة سوف
تكون مؤشرا لنتائج الصراع بين دعاة التغيير واعدائه. فحتى لو استطاعت السياسة
الامريكية، اعادة الغطاء السياسي للنظام السعودي، باعادة صياغة الخطاب الامريكي
الذي ربما شجع الثوريين على الاستمرار في مشروعهم في كل من تونس ومصر، فثمة
تغير ملحوظ في المواقف الامريكية خصوصا ما تطرحه هيلاي كلينتون من مبادرات لمنع
سقوط الانظمة وترويج التغييرات الهامشية على انها سقف المسموح به في الوقت
الحاضر.
ولا شك ان مشكلة ليبيا وتصرفات معمر القذافي يزيد الوضع تعقيدا، فلم يعد الوضع
الاقليمي والدولي يحتمل استمرار القذافي حكمه، ولكن الاطاحة به عامل تشجيع آخر
للثورات في دول الخليج واليمن للاستمرار حتى تحقيق مطالبها المشروعة. وبرغم ما
طرح من رغبة في تحويل بعض دول مجلس التعاون الى ممالك دستورية فان عملية التحول
ليست مقبولة لدى هذه الانظمة لان نظام المملكة الدستورية يعني القضاء على
الصلاحيات الادارية والسياسية للعائلات الحاكمة، الامر الذي لا يمكن ان يقبلوه
خصوصا مع استمرار الدعم الامريكي. وتعتبر المملكة العربية السعودية جوهرة التاج
الامريكي في الشرق الاوسط خصوصا بعد سقوط حسني مبارك واستمرار الاحتقان في مصر
بسب تلكؤ المسار الاصلاحي منذ سقوطه. مع ذلك فقد اعاد الثوار التونسيون الى
الذاكرة اهمية استمرار الوعي واليقظة لتحريك المشروع الاصلاحي. فقد ادت
الاحتجاجات المتجددة في تونس لاستقالة رئيس الوزراء، محمد الغنوشي، من منصبه،
وهو امر بالغ الاهمية لتونس التي ما تزال تبحث عن صيغ توافقية للحفاظ على الامن
والاستقرار.
السعودية لا تفيد نفسها ولا حلفاءها بالاصرار على رفض تطوير نظامها السياسي.
وبامكانها اتخاذ خطوات متينة تقنع العالم بجدية العائلة المالكة في تطوير
ادائها الاداري والسياسي بما يتناسب مع مطالب الداعين للثورة في الاسبوعين
المقبلين، بدلا من حصر تلك الاصلاحات بالجانب الاقتصادي وذلك باغداق الاموال
على المواطنين ضمن نظام 'المكرمات' التي لم تعد موضع احترام في اوساط جيل
الفيسبوك والتويتر الذي دعا الى الثورة. السعودية اخطأت باعتقال تسعة مواطنين
بعد اعلانهم تشكيل حزب سياسي مؤخرا، وكان الاجدى بحكامها توسيع دائرة الحريات
برفع القيود عن الصحافة، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية باعلان خطوات على طريق
التحول نحو المملكة الدستورية على اقل تقدير لتخفيف بريق الدعوات لاسقاط النظام
الملكي جملة وتفصيلا. كان بامكانها الاعلان على وجه السرعة عن موعد لانتخابات
بلدية وبرلمانية ذات صلاحيات معقولة لسحب وقود الاحتجاجات المتوقعة قريبا،
واطلاق سراح السجناء السياسيين جميعا بدون تأخير.
وبامكان الرياض ايضا تطوير آليات التواصل والتحاور عبر مؤسسات المجتمع المدني
بعد اعطائها صلاحيات اوسع خصوصا في ما يتعلق بمكافحة الفساد وانتهاكات حقوق
الانسان.