26-01-2011
قبل أن نبدأ ، لابُدَّ من التذكير بأمر مهم ، وهو أننا عندما نتحدث
عن ( الأقليات ) فإننا لا نقصد أقلية عدد ، وإنما أقلية نِسبة ، أقلية تبدأ من
الواحد ، وتنتهي بما دون النصف بقليل . الأقلية هنا قد تكون بالملايين ( كما هي
حال المسلمين في الهند وفي الصين الذين يتجاوز عددهم مسلمي العالم العربي
مجتمعين ) ، وقد تكون الأقلية أكثر فاعلية وحضورا من الأكثرية ، ولكنها تبقى
أقلية ؛ لكونها قضية مصطلح ، والمصطلح هنا يقوم بتحديد النسبة بحياد تام ؛ دون
أي توصيف في أي اتجاه .
الأقلية ، في الأغلب ، هي مظنة ضعف ؛ بحكم أن العدد ، في الغالب ، يحمل قوة
بذاته . ولهذا ، حرصت النظريات الديمقراطية المعاصرة ، أيا كانت هويتها /
توجهاتها ، على أن تحفظ للأقلية حقوقها الأساسية ؛ خاصة وأنها (= الديمقراطية
في صورتها المبدئية ) تعني حكم الأكثرية ؛ بمشاركة الأقلية ؛ وبحفظ حق اختيار
الأقلية ، خاصة في الشؤون الخاصة بالأقلية ، وعلى نحو أخص ، في القرارات التي
يسهل فيها الاختيار ، ولا تحمل طابع الإلزام العام .
القوي يستطيع حماية نفسه ، بينما الضعيف يحتاج إلى كثير من الضمانات الحقوقية
المدعومة بقوة الرادع الثقافي . ولهذا ، فإن أية أقلية لا بد لها من أن تُحاط
بسياج من القوانين الرادعة التي تحميها ، كما لابد أن تُحاط بثقافة معززة بروح
التسامح والإخاء التي تتجاوز حدود ما تستطيع القوانين ضبطه من سلوكيات.
إن حفظ حق الأقلية ، فضلا عن كونه فرضا إنسانيا خالصا ، هو ، من زاوية أخرى ،
حفظ حق الأكثرية ، وضمان لأمنها واستقرارها وازدهارها في مستقبل الأيام .
هذا من حيث حفظ الحقوق العامة التي تتناسل تفاصيلها في كل مجال . أما من حيث
الحق الأمني ، وهو الحد الأول الذي بانتهاكه لا مجال للحديث عن حقوق ، فهو أحق
بأن يفهم في سياق الشراكة المجتمعية ؛ لأن الأمن ، الأمن بكل صوره ، هو كُلٌّ
لا يتجزأ ، خاصة في إطار الوطن الواحد ؛ لأن أمن أي فرد ، فضلا عن أية جماعة أو
طائفة أو فئة ، هو أمن الجميع ، وهو ، في الوقت نفسه ، أمن الوطن الذي يتحقق من
خلاله مستقبل الجميع .
إن العالم العربي ، المحكوم بالثقافة العربية ذات المنحى التقليدي ، هو عالم
زاخر بالتنوع ، ومن ثم ، هو عالم زاخر بالأقليات من كل نوع ؛ كما يتضح ذلك من
خلال قراءة خرائط الأديان وخرائط المذاهب وخرائط الأعراق . ولا شك أن الدول
العربية على الأقل من حيث بنيتها العامة ، وكما تتجلى ظاهريا تنتمي إلى منظومة
الدولة المدنية الحديثة ؛ الدولة الحديثة كما أفرزها التطور الغربي في هذا
المجال . أي أنها ، كما تبدو ، أو كما تدّعي ، أو كما يُفترض فيها ، دُولٌ
مدنية حديثة ، تقوم على مفهوم المواطنة الذي يساوي بين جميع الموطنين ؛ دونما
تمييز أو استثناء.
إذن ، لا مشكلة كبيرة في هذا المجال الحقوقي الذي يخص الأقليات ؛ من حيث طبيعة
بُنية الدولة العربية الحديثة . المشكلة تكمن في الثقافة التقليدية السائدة
التي تزرع بنفسها، واقعيا، تلك التفاصيل الحقوقية المُفصّلة على ضوء مطامحها في
التّحكم ، كما تكمن بشكل أكبر في الممارسات التطبيقية التي يتم التغاضي عنها في
أكثر الأحيان .
وإذا كانت معظم الحكومات العربية تنزع إلى مفهوم المواطنة ، وتقر بما يستلزمه
من مساواة تامة بين المواطنين ، فإن سيادة ثقافة التخلف تقود إلى اختراق هذا
المفهوم ، بل وإلى تفريغه من جوهر محتواه ؛ لصالح مفاهيم أخرى ، مفاهيم عنصرية
، لاإنسانية ، متخلفة ، تتضاد حتى مع بدهيات ثقافة حقوق الإنسان التي آمن بها
الإنسان منذ فجر التاريخ .
عندما تقع جرائم الإرهاب في العالم العربي ، وخاصة ما يقع منها ضد الأقليات ،
يعرف المتابعون لتاريخية الفكر الإرهابي من أي منفذ من منافذ الفكر تسلل هذا
الوحش الكبير المسمى بالإرهاب . في تقديري أن التخمينات في هذا المجال لا تبعد
عن الحقائق كثيرا ؛ بشرط أن تتوفر على مستوى معقول من النزاهة العلمية التي
تتجنب التوظيفات الإيديولوجية ، وهو شرط لا يتوفر إلا في القليل . أي أن تحديد
انتماءات الجناة في الواقعة الإرهابية ليس صعبا ؛ لأن قراءة الواقعة بكل
أبجديتها ليست عملية صعبة ، وإنما تكمن الصعوبة تحديدا في ( المنطلقات ) التي
تحكم منطق التأويل.
إن منطق التأويل ، أي تأويل ، بالضرورة ليس محايدا ، وهو يكشف حتما عن ( مواقف
سيكيولوجية وثقافية وساسية ) من الحدث الإرهابي ، ومن ضحايا الحدث الإرهابي ؛
بأكثر مما يقدم من تفسير أوتوضيح أو ( إخفاء!) . ولهذا لا يمكن عدّ التفسيرات
والتأويلات ، فضلا عن التبريرات ، التي تصدر عن أي طرف مجرد وجهات نظر في
الوقائع الإرهابية ( أيا كانت صورها ودرجتها !) بل هي تعبير عن مواقف ، ولو
بلغة الإيحاء أو التلميح ، أو حتى بلغة تتعمد تشتيت الانتباه عن التأويل
الجنائي الصريح .
عندما قام الإرهابيون بتفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية ، لم يكن عملهم خارج
منطق لغة الإرهاب التي نسمعها منهم منذ سنوات ، ولم يكن الحدث على بشاعته هو
المشكلة ؛ إذ لم ، ولن ، يقف نهر الإرهاب عن جريانه ، ولن نرى نهايته في
المستقبل القريب . لقد كانت التأويلات التي رافقت الحدث هي المشكل الأساس الذي
يجب التوقف طويلا عنده ؛ لأنها هي التي تحمل في طياتها سر الداء العضال الذي
يفرز لنا هذا الطفح الإرهابي الذي لا يزال يستعصي على العلاج .
كثرت التأويلات ، ولكن يمكن تقسيم أنواع التأويلات التي رافقت الحدث إلى أربعة
أنواع ، كل نوع يكشف عن موقف أو رؤية ، لكنها تتفق في أنها جميعا تهرب من توصيف
مصدر الداء ، وتحاول أن تلقي بالتهمة على البعيد أو على المجهول . وهذه الأنواع
الأربعة تتحدد فيما يلي :
1 التأويلات التي حاولت التخفيف من الحدث بالتعمية على مصدره ؛ بزعم أن الإرهاب
الذي يقوم به بعض المسلمين هو إرهاب قد طال المسلمين أيضا . أي أن هناك محاولة
تعمية على الإشكالية القبطية بالذات ، وذلك بإدراج هذا الحدث تحت واقع أعم
وأشمل ؛ وكأن الحدث كان خارج الزمان المقدس ( = ليلة رأس السنة ) والمكان
المقدس ( = الكنيسة ) ؛ مع كل ما يوحي به ذلك من قصد يتجاوز الوقائع المادية
إلى حيث الأبعاد الرمزية للطائفة المستهدفة بهذا الإرهاب .
كون الإرهاب قد طاول بعض المسلمين لا يعني أن هذه الواقعة أو ما يماثلها ليست
في سياق إشكالية خاصة ، إشكالية مرتبطة بالتحولات الدينية التي تجري في إطار
جغرافي خاص . إن هذا التأويل يتعمد طمس الإشكالية بدل فحصها وتوضيحها واستبصار
عللها ، ومن ثم ، علاجها من جذورها . إنه تأويل يحاول ( التستر ) على استشراء
مقولات التقليدية التي تحمل رؤية ( قروسطية ) تجاه الأقليات الدينية التي لا
تنتمي للإسلام ، والتي هي ، بطبيعة الحال ، معادية أشد العداء لمفهوم المواطنة
الحديث الذي يستمد هويته من مدنية الدولة ، والذي تكوّن في هذا العصر الحديث
بالذات .
2 هناك نوع لا يدخل في باب التأويل ؛ بقدر ما يدخل في باب التبرير ، وهو
التصريح ، من قِبَل كثير من التقليديين الذين يدّعون الاعتدال ، أن لا مصلحة
للإسلام في مثل هذا الإرهاب . وخطورة هذا التصريح تتحدد في أنه يحمل تشريعا
مُبطّنا لمثل هذا العمل ؛ فيما لو قدّر ( أحد ما ) أن في مثل هذا العمل مصلحة
للإسلام .
لا شك أن المصلحة هنا تخضع ل( التقدير !) الخاص الذي يختلف حسب اختلاف زوايا
الرؤية . ومن هنا ، ربما يأتي ( وقد أتى !) من يُقدّر عكس ما يَدّعيه دعاة /
مُدّعي الاعتدال من التقليديين .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، ففي هذا التبرير إغفال واضح للجريمة ذاتها
ولبشاعتها ، وكأن ما حدث مجرد إجراء عملي ، قامت به مجموعة لم تُوفق في تقدير
العائد النفعي فقط .
إن هذا التبرير ينقل الوعي من تأمل حجم الجريمة وبشاعتها إلى البحث في موضوع
آخر مختلف تماما ، وهو البحث عن مصلحة الإسلام .
ولتعرف مستوى ما تحمله هذه الرؤية من موقف غير إنساني وغير عادل ، لك أن تتصور
ماذا لو أن الطائفة الضحية ( = الأقباط هنا ) هي التي قامت بهذا العمل تجاه
طائفة أولئك الذين يحملون مثل هذا التبرير ؛ هل سيقولون حينئذٍ : لم يفلح هؤلاء
في تقدير مصالحهم ، أم أنهم سيتحدثون صراحة عن الكيد للإسلام ، وعن الطبيعة
الشيطانية الإجرامية التي تتلبس الآخرين المجرمين ؟!.
3 هناك تعبير يصف هذا الحدث الإرهابي ب( الفتنة ) . والتعبير بالفتنة هو نسبة
الشر إلى المجهول بالمطلق ، أو إلى كائنات أسطورية لا يمكن تحديدها بوضوح . إن
هذا التعبير (= الفتنة ) يُستخدم غالبا ؛ عندما يُراد تبرئة الشركاء في الأحداث
، والقول بأن لا ذنب لهؤلاء ولا لهؤلاء ، وإنما وقعت ( الفتنة ) بينهما ؛
فتقاتلوا ، بينما هم في الحقيقة طيّبون وصالحون وأخيار ، ونياتهم صالحة ؛ لأنها
لم تطمع بمال ، ولم يتيّمها حب الجاه ، ولم تتعلق أحلامها وأحلام أتباعها بما
دون هذا وذاك من أطماع !.
واضحٌ لكل من تتبع تاريخنا ، تاريخ التبرئة والتنزيه والهروب من مواجهة الذات ،
أن أخطر ما في التعبير ب( الفتنة ) أنه تعبير بهلواني ، تعبير يؤدي إلى تبرئة
الشركاء الحقيقيين في الأحداث ، تبرئة الذين باشروا الحدث بأنفسهم ، تبرئة
الذين حرّضوا بألسنتهم وقاتلوا وقتلوا بأيديهم ، في مقابل إحالة التهمة إلى
مجهول أو شبه مجهول.
هذا التحليل ، أو هذه الإحالة على ( الفتنة ) ، أو هذا الهروب من حقائق الأزمة
إلى أوهامها ، يمنع من تحليل المواقف كما هي ، ويُصادر الحق العلمي في قراءة
الشخصيات قراءة موضوعية على ضوء ما قامت به من أدوار على مستوى الواقع . أي أن
هذا التعبير ليس مجرد تأويل خاطئ فحسب ، وإنما هو أيضا حاجز يقف ضد كل
التأويلات ذات الطابع العلمي ؛ لأن منطوقه الضمني يتوفر على تحصين الشخصيات
والوقائع ضد كل أنواع التأويلات والتفسيرات التحليلية الفاحصة ، تلك التأويلات
والتفسيرات التي تجد مشروعيتها في تفاصيل الوقائع وفي السلوكيات المعلنة
للأشخاص .
4 التأويلات التي تتعمد إلقاء التهم على الخارج ، وخاصة على العدو التقليدي في
الذهنية العربية (= الغرب عامة ، وأمريكا وإسرائيل خاصة ) ، وذلك لتحقيق هدفين
في آنٍ واحد :
الأول : إبعاد التهمة ، ومن ثم تحويل توجهات الرؤى التحليلية ، عن كل ما له
علاقة بالذات العربوية / الإسلاموية المتنرجسة ؛ لتصبح الذات هي مصدر الصلاح
والخير ، بل والنقاء التام ، وأن ما يحدث لها ، أو يحدث بالقرب منها أو في
مجالها من أخطاء وكوارث وتأزمات ، ليست أشياء سلبية نابعة من خلل فيها ، وإنما
مصدرها الوحيد هو : كيد الأعداء .
الثاني : ضخ مزيد من الشحن تجاه الآخر ؛ لقتل كل إمكانات التعايش ، ولوأد كل
فرص السلام . فالذين يطرحون مثل هذه التأويلات يدركون أن لا قيمة معنوية لهم
بدون الهيجان الجماهيري الذي لا يجد نفسه إلا من خلال ثقافة الكراهية ، وادعاء
أمجاد الصمود ! ، أي من خلال صناعة أعداء وهميين ، ومن ثم ، الفخر بصمود وهمي .
وبما أن هؤلاء قد ثبت عليهم بمنطق الواقع أنهم لا يستطيعون تقديم تنمية حقيقية
، ولا اجتراح منظومة متطورة لحقوق الإنسان ، ولا صناعة رؤى مستقبلية تتغذى ولو
بالأحلام ؛ لم يبق لهم إلا الفخر الكاذب بالأوهام ، في وسط جماهيري تعوّد ، بل
وأدمن ، مضغ الأوهام..