30-11-2010
الرؤساء والزعماء يمرضون ويدخلون المستشفيات لفترات طويلة دون أن
يثير ذلك أي إشاعات أو تكهناك حول مستقبل الحكم في بلدانهم، أما في المملكة فإن
الأمر مختلف تماماً ولاشك أن لذلك أسبابه التي سأحاول بيانها في الأسطر
التالية كما سأجتهد في نهاية المقال في تقديم توصيات قد تساعد في وضع نهاية
لهذا اللغط المستمر حول استقرار الوضع السياسي في المملكة.
ولكن وقبل بيان الأسباب فلابد من الإشارة إلى أن جزء من مسئولية حدوث هذا اللغط
حول الحالة الصحية للملك وانعكاساتها المحتملة على ترتيبات الحكم تقع على
الأسرة المالكة ذاتها خاصة في بعض ممارساتها التي تدفع الناس للحديث والتساؤل
وتبادل الشائعات عما يجري بين الإخوة. وسأكتفي هنا بذكر ببعض
الامثلة على هذه الممارسات التي تبعث برسائل خاطئة و يأتي في مقدمتها رحلة
المغرب المتكررة للقيادة والتي أصبحت ونتيجة لتكرارها عرفاً في السياسة
الداخلية للأسرة، فرغم أن هذه الرحلات يسبقها بيانات توضح الغرض منها ومن ذلك
الراحة والاستجمام خاصة بعد العلاج، إلا أننا جميعا نعلم أن هذه الرحلات تعد
عادة قديمة لم نستطع حتى الان تفسيرها وهي ليست مرتبطة بمرض أو نحوه وقد تأكد
هذا قبل أيام حين عاد الأمير سلطان للمملكة وبشكل سريع ومفاجئ للجميع بعد ساعات
من إعلان الديوان الملكي عن نية الملك السفر للعلاج.
مثال آخر للسلوك المثير للتساؤلات والإشاعات حول وجود خلافات داخل الاسرة يتمثل
في ما يحدث أثناء مناسبات الاستقبال الرسمية ولعلي أكتفي هنا بذكر مثالين فقط
حدثا قبل فترة قصيرة؛ أولهما اقتصار استقبال الرئيس بشار
الأسد خلال زيارته الأخيرة والمهمة للمملكة في شهر أكتوبر على الملك وأبنه عبد
العزيز حيث كان لافتاً عدم مشاركة أيا من الأمراء وخاصة نائب رئيس مجلس
الوزراء أو الأمير مقرن أو حتى حسب البروتوكول المعتاد أمير منطقة الرياض
بالنيابة.
كذلك لابد أن نشير الى عدم مشاركة الأمير متعب بن عبدالله استقبال عمه
الأمير سلطان حين عاد من المغرب رغم أنه كان متوقعاً مشاركته خاصة بعد تعيينه
رئيساً للحرس الوطني وعضواً في مجلس الوزراء فهذه الصفة "الحكومية" على الاقل
كانت تستوجب مشاركته في استقبال ولي العهد. أخيرا هناك حدث آخر مرتبط بتعيين
الأمير متعب يجعل المواطن و المراقب محقاً في تساؤلاته عما يجري وتعطي
فرصة للشائعات وأقصد بذلك مراسيم أداء القسم للأمير متعب فقد اقتصر الحضور فيها
على أخوته دون حضور أياً من أعمامه أو حتى أياً من الوزراء رغم أن الأمير تولى
ما يمكن اعتباره ثالث أعلى منصب أمني في المملكة وفوق ذلك حصل على عضوية
مجلس الوزراء ولاشك أن إضافة هذا المنصب وجعل الحرس الوطني ممثلاً في
مجلس الوزراء وبشكل لم يكن متوقع ابداً يعد سبباً آخر للتساؤلات التي
تبقى معلقة دون إجابة وتترك الباب مفتوحا امام الشائعات.
ولكن لننتقل الأن إلى محاولة تفسير حالة الاهتمام والقلق حول حقيقة ما يجري في
دوائر الحكم في المملكة رغم ما اشرنا إليه أعلاه من أن حالة الملك الصحية لا
تستدعي كل ذلك الهرج والمرج وأقول مستعيناً بالله أن هناك ثلاثة أسباب لذلك هي
على النحو التالي:-
(1) الغموض المحيط بآلية انتقال الحكم في المملكة
(2) تقدم السن بين غالبية أبناء الملك عبد العزيز
(3) الرابطة العضوية والفريدة بين استقرار العلاقات داخل الأسرة المالكة وبين
استقرار وبقاء المملكة.
وسنعرض لهذه الاسباب أدناه دون تفصيل:
(1) بالنسبة لموضوع انتقال الحكم فقد جرت العادة ان ينتقل الحكم بين أبناء
الملك عبدالعزيز وفقاً لمعيار العمر- الاكبر فالأكبر. وفي 1412 وبعد صدور
النظام الاساسي للحكم أضيف معياراً آخر وهو "الصلاحية" حيث نصت الفقرة(ب)
من المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم على أن " الحكم في أبناء الملك
المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وأبناء الأبناء… ويبايع الأصلح
منهم للحكم على كتاب الله تعالى وسنة ورسوله". ورغم أن هذه الفقرة لم تشير الى
عامل السن، إلا أن العرف قد جرى على ذلك. وقد اضيف شرط "الصلاحية" من أجل
تجنب تولي من يفتقد شروط القيام بمهام الحكم الجسيمة خاصة شرطي الصحة والقدرة.
رغم ذلك لم يكن هذا النص التشريعي كافياً لحل اشكالية انتقال الحكم لذلك صدر
في نهاية شهر رمضان 1427 نظام هيئة البيعة ليضع تنظيماً أدق لهذه
المسالة. ورغم أن القصد كان تحقيق نوعا من التوافق داخل الأسرة المالكة على من
يتولى الحكم، الا أن ما تضمنه هذا النظام من نصوص جعلت اختيار ولي العهد
شراكة بين الملك وأعضاء هيئة البيع زاد الامر تعقيداً من خلال الدخول في
ترشيحات وترشيحات مضادة لابد أن تتسبب في حالة من التنافس والتحالفات إن لم يكن
الصراعات بين اعضاء الهيئة ومن يمثلونهم من بقية ابناء الاسرة. والبعض يرى ان
هذا أمر حاصل بالفعل حتى بدون الهيئة التي جاءت بهدف تنظيم هذه
العملية التنافسية والتي تقتصر المشاركة فيها على اعضاء الاسرة المالكة (فرع
واحد منها- ابناء واحفاد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن) واعطائها الإطار
القانوني المقيد.
(2) أما موضوع التقدم في السن بين ابناء الملك عبدالعزيز فلعله العامل
الابرز المثير لحالة القلق في الداخل والترقب في الخارج تجاه موضوع
انتقال الحكم. فنظرة سريعة على أعمار الأحياء منهم تظهر أن متوسط
العمر بينهم هو (76سنة)، في حين أن متوسط العمر بين الخمسة الاكبر
منهم ( الملك عبدالله، الامراء بندر، مشعل سلطان ومساعد) يبلغ (84 سنة)
ولاشك أن كلا الرقمين متقدم جداً خاصة إذا أضيف اليهما مسألة الحالة الصحية.
والأسرة المالكة ذاتها تدرك هذه المشكلة ( التقدم في العمر وما يعنيه من
احتمالات) حيث ضمنت هذه الاحتمالات في نظام هيئة البيعة الذي فصلت مواده
(10-14) في مسألة تعرض الملك وولي العهد لمرض يمنعهما من القيام بمهام الحكم أو
وفاتهما في وقت واحد.
ورغم أن المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم ضمنت حق الحكم لجميع أبناء
الملك عبد العزيز بالإضافة الى الاحفاد وبالنظر الى شرط (الصلاحية) المشار اليه
أعلاه، إلا أننا نستطيع القول أن من "يصلح" لتولي الحكم بعد سمو ولي العهد هم
ستة فقط (الامراء نايف، سلمان، مقرن، أحمد، عبدالاله، سطام)،في حين أن بقية
أبناء الملك عبدالعزيز الاحياء إما انهم يعانون مشاكل صحية أو غير راغبين في
الحكم أو تنقصهم الخبرة الكافية لتولي هذه المسئولية العظيمة أو لا يوجد لهم
قبول بين المواطنين( البعض قد يعترض على هذه النقطة بالقول متى كان القبول
الشعبي أمراً مهما، فترتيبات الحكم مسألة محصورة في الأسرة المالكة، ولكن نقول
أن هذا يدخل في إطار شرط الصلاحية الذي أضيف في النظام الاساسي للحكم
ولاشك أن الاسرة المالكة يهمها هذا الأمر حتى لو لم تعلنه صراحة).
للوهلة الاولى قد يبدو هذا العدد (ستة ) صغيراً ومن ثم يعطي احساساً بأن مسألة
الحكم لا تتطلب كل هذا القلق وقد يكون هذا صحيح من حيث حدود مساحة المنافسة
المتوقعة، الا أن المشكلة تظهر لنا حين نأخذ بعين الاعتبار موضوع التقدم
في السن والحالة الصحية حتى بين هؤلاء. وللخروج من هذا المأزق يقترح البعض فكرة
الإنتقال الى الجيل الثاني، الا أن هذه تعد مشكلة في ذاته، ولكن قبل مناقشتها
لابد لنا من النظر في السبب الثالث لحالة القلق بشأن مستقبل الحكم في المملكة.
(3) تختلف المملكة عن غيرها من الدول في أشياء كثيرة، الا أن أهم وأخطر
ما يميزها هو الترابط التام بين نظام الحكم من جهة والدولة من جهة أخرى.
فالمملكة وبعد جهود جبارة للملك المؤسس ورجاله اسكنهم الله فسيح جناته تكونت من
أقاليم ومناطق في كيان يحمل اسم العائلة المالكة وهو ما أوجد رابطة عضوية بين
الاسرة والدولة. فعلى النقيض من الكثير من الدول التي في الغالب لا
يؤثر فيها عدم استقرار النظام السياسي أو حتى تفككه على استقرار الدولة
وبقائها، فإن المملكة تفتقر لهذه الخاصية فبقائها موحدة مشروط ببقاء العائلة
موحدة كذلك. هذه الخاصية لا تزال مستمرة رغم الجهود التنموية الكبيرة للتأسيس
لهوية وطنية واحدة التي لم تنجح في تجاوز إشكالية التلازم العضوي بين النظام
السياسي والدولة. هذا هو السبب الرئيس لحالة القلق التي تصيب المواطنين
في كل مرة تظهر فيها بوادر خلاف أو مزاعم بوجوده داخل الاسرة. وعلى الاسرة
المالكة أن تقدر هذا القلق وتنظر اليه بشكل ايجابي وتعمل على تبديده من خلال
التماسك الداخلي مهما كانت الخلافات كما أن عليها العمل على المدى البعيد على
تعزيز مقومات الدولة وضمان بقائها بشكل مستقل عن حالة النظام السياسي.
نعود الان لما يطرحه البعض من أن الحل الانسب لمشكلة الحكم في المملكة
تتمثل في الانتقال الى الجيل الثاني ويقصد بذلك أحفاد الملك عبدالعزيز. و هذا
الرأي يطرح لسببين؛ هما مشكلة التقدم في السن بين الأعمام والسبب
الثاني ضمان أن من يتولى الحكم يمتلك رؤية إصلاحية. بالنسبة للسن فمن يطرح هذا
الخيار يرى أن تولي الجيل الثاني الحكم سيحقق نوعاً من الاستقرار ويتجنب
مشكلة الانتقال السريع التي قد تنتج عن حالة الوفاة أو المرض بين أبناء الملك
عبدالعزيز. وقد يكون هذا الافتراض صحيحاً الى حد ما، الا أن الحقيقة أن بعض
الامراء من الجيل الثاني متقدم في السن، بل إن بعضهم أكبر من الاعمام( مثال
الامير خالد الفيصل 71 سنة يتقدم على أعمامه سطام وأحمد ومقرن– الكثير قد
لا يعلم أن أكبر الاحياء من الاسرة المالكة هو من الجيل الثاني وهو الامير محمد
بن سعود البالغ 93 سنة). كما أن بعض ابناء الجيل الثاني لا يتمتع
بالحالة الصحية اللازمة لتولي شئون الحكم.
أما بالنسبة للسبب الثاني في الدعوة لتولية الحكم للجيل الثاني والمتمثل في
أنهم أقدر على قيادة المملكة في هذا العصر مع ما يمثله من تحديات كبيرة ومعقدة
مقارنة بالأعمام الذين قد يحول تقدمهم في العمر دون امتلاك الرؤية الاصلاحية
اللازمة، نقول أن هذا الافتراض قد لا يكون صحيحا في كل الاحوال فقد نجد بعض
أمراء الجيل الثاني حاملاً لرؤية اصلاحية ( الامير خالد الفيصل على سبيل المثال
يحمل رؤية اصلاحية اجتماعية تعليمية وليست سياسية)، ولكن الغالبية منهم لا
نستطيع أن نجزم بوجود رؤية اصلاحية لديهم ولم يظهر منهم ما يشير الى ذلك.
ولكن تبقى المشكلة الاكبر في أن الدعوة الى تولية الجيل الثاني الحكم تصطدم
بحقيقة راسخة تتمثل في وجود عدد من ابناء الملك عبدالعزيز ( من بين الستة
المشار اليهم أعلاه) الذين هم قادرون وراغبون في الحكم ولا يوجد أي سبب صحي او
نحوه يحول دون ذلك بل انهم يمتلكون الخبرة اللازمة لولاية الحكم والتي يفتقدها
الكثير من أبناء الجيل الثاني.
هناك أمر آخر مهم لا يمكن تجاهله عند مناقشة مسألة الجيل الثاني وتتمثل في أن
فرص التوافق بينهم أقل بكثير من فرص التوافق بين اعمامهم وذلك لسبب
يتعلق بنوعية العلاقة بينهم( ابناء عم مقابل اخوة) وكذلك التنشئة
المشتركة بين الأعمام اكبر من تلك التي بين ابنائهم.
أخيرا ومن أجل تبديد الجدل والإشاعات حول مستقبل الحكم في المملكة فأرى أنه
لابد من اتخاذ خطوات حاسمة على المديين القريب والبعيد. فعلى المدى القريب من
الضروري التعاطي مع ما يلي:-
• صحة ولي العهد من خلال المصارحة والشفافية بشأن طبيعة مرضه بهدف طمأنة
المواطنين كما حصل بالنسبة للملك، فمعظم ما يثار حول انتقال الحكم في المملكة
بدأ أصلاً بعد إعلان حاجة الامير سلطان للعلاج قبل سنوات ولا يزال هذا
الجدل مستمراً نتيجة عدم معرفة طبيعة مرض سموه!
ـ معالجة قضية العلاقة غير الواضحة بين تولي الامير نايف منصب النائب
الثاني لرئيس مجلس الوزراء ودلالات ذلك لولاية العهد خاصة في ظل وجود نظام هيئة
البيعة الذي لا يتضمن ما يشير الى طبيعة العلاقة بين المنصبين. المطلوب هو
رسالة واضحة لا لبس فيها أو غموض تؤكد أن الامير نايف هو المرشح لولاية العهد
بعد الامير سلطان.
لكن تبقى هناك مشكلة تواجه الامير نايف تتعلق بالانطباع السائد بأن توليه للحكم
سيترتب عليه تراجع مشروع الاصلاح في المملكة وهذا أمر يسبب الكثير من القلق في
الداخل والخارج. فخبرة الامير الطويلة في وزارة الداخلية تعد ميزة ومأخذاً في
نفس الوقت. فهي ميزة من حيث ما اكتسبه من دراية ومعرفة عميقة بأصول ومتطلبات
الحكم وكذلك بتعقيدات المجتمع السعودي والتحديات الداخلية التي تواجه المملكة،
إضافة الى معرفته الكبيرة بالكثير من الملفات الخارجية المهمة للمملكة. ولكن
هذه الخبرة الطويلة قد تكون مأخذاً من حيث تسببها في هيمنة الهاجس الامني على
رؤيته في الحكم. المشكلة أن هذه الرؤية قد لا تتناسب مع متطلبات المنصب القيادي
الذي يشرف صاحبه على كافة القضايا والملفات الداخلية والخارجية، الاجتماعية
والتعليمية والاقتصادية وليس محصورا في الشأن الامني.
أما على المستوى البعيد فإن مشكلة انتقال الحكم لا يمكن أن تحل دون اتخاذ
اجراءات إدارية وتشريعية مهمة ومن ذلك:
• أن يستثمر الملك عهده قدر المستطاع لسن التشريعات التي تسهم في بناء دولة
حديثة تضمن الاستقرار والرخاء والمشاركة والرضاء وتأخذ بمعايير الحكم الحديث
المعروفة في بقية دول العالم.
• تشكيل لجنة لإعادة صياغة النظام الاساسي للحكم بما يضمن
آلية أكثر وضوحاً لانتقال الحكم وكذلك تحديد أدق لصلاحيات السلطات الثلاث
وعلاقتها ببعض وحقوق المواطنين.
• منح مجلس الشورى صلاحيات أكبر وفي مقدمة ذلك سلطة اعتماد الميزانية العامة
وحق مساءلة الوزراء.
• وضع برنامج زمني للانتقال بمجلس الشورى الى نظام الانتخابات بحيث يتم
انتخاب اعضاء المجلس كما هو في سائر في الدول الديمقراطية.
•• المبادرة الى مكافحة جادة للفساد الإداري و المالي والصرامة في ملاحقة
المتورطين ومحاكمتهم كائناً من كان فهذا هو المصدر الاول والرئيس لاستياء
المواطنين بكافة شرائحهم.
• وضع نظام دقيق وصارم وشفاف لصندوق الاستثمارات العامة وجعله تحت رقابة مجلس
الشورى وديوان المراقبة العامة وضمان حقوق الاجيال.