gulfissueslogo
د.فؤاد إبراهيم
حرب الذاكرة.. في السعودية
د.فؤاد إبراهيم

صحيفة السفير


الكيانات الحية وحدها القادرة على الخروج من ذاكرتها طوعاً، أو على الأقل تشذيبها، لأن ثمة ذاكرة تتناقض والروح الوطنية وبناء الهوية الجمعية، كونها مكتظة بكل صور المعاناة وآلام الماضي، ومسؤولة عن تعزيز الانقسامات الداخلية وتفتيت أسس الوحدة الوطنية.
هناك عوامل جمّة وراء فشل مشروع الدولة الوطنية في السعودية، ولكن يتصدّرها الذاكرة المثخنة بروايات الاجتياحات، وعمليات القتل والسلب والنهب والتهجير لسكان المناطق الأخرى، وهي الذاكرة ذاتها التي يراد إنعاشها في كل عام بمناسبة اليوم الوطني، اليوم الذي حققت فيه كتائب ابن سعود إنجازها العسكري باحتلال الرياض عام 1902، الذي دشّن مشروع (الفتوحات) بدلالاته الدينية والسياسية..وصولاً الى تأسيس ما تعارف عليه في الأدبيات الدينية الرسمية (دولة التوحيد)، بعد اقتحام معاقل الشرك وإدخال أهلها في دين الله!
اليوم، تخرج من الهامش الاجتماعي والسياسي أغلبية صمتت ردحاً من الزمن، فتجتاح «التابوات» الجاثمة على الوعي العام، وتختار أشكالاً جديدة في التمرّد على «فرية» الوطن. قبل أعوام اختارت مجاميع شبابية التعبير بطريقة احتفالية صادمة في التمرد على احتفالية اليوم الوطني، فبينما كسّر بعض الشباب واجهات محال تجارية غربية الطابع، أدّى شباب آخرون رقصات غربية للرد على الرقصة الشعبية (العرضه) وعلى أنغام موسيقى إيرانية.. بالمناسبة، ذاك كان في الرياض وليس في مكان آخر من البلاد..
في هذا العام، بدأت حملات التمرّد على اليوم الوطني في مرحلة مبكّرة، أخذت طريقها السريع والعفوي إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فأطلقت طائفة من الشباب حملة على «تويتر» بعنوان (اليوم الوطني.. أين كرامتي؟).. ثمة دلالات وجدانية تختزن في هذه الجملة، وتضع حدّاَ لوطأة الذاكرة القهرية التي يرفض الشباب الانصياع لها، ولسان حالهم: تلك ذاكرة الغالب والمنتصر، ذاكرة تذخر بكل ما يسيء لكرامتنا وليس فيها ما ينهض مكوّناً لهويتنا، أي بكلمة أخرى ذاكرة لا تمثلنا...
ليس من بين أفراد الطبقة الحاكمة في السعودية مَن على استعداد لأن يخرج من ماضيه، فلا يزال يعتقد بأن مبدأ (ملك الآباء والأجداد) مصدر جدير بالاحتجاج في نقاش المشروعية، أي مشروعية السلطة. الإصرار على «أسطرة» الرواية الرسمية لتشكّل الدولة وتحويل «أيديولوجية الفتح» الى مكوّن لهوية وطنية تشعر الأغلبية السكّانية بأن «السيف الأملح» مصدر فخر أهل الحكم، ليس شيئاً آخر سوى محرّض فعال على تذكير الضحايا الحاليين بما جرى على آبائهم وأجدادهم وأعراضهم، حين كان الجيش «العقائدي» لابن سعود يحقق وعد السماء، زعماً، بنحر الآدميين في مناطق متفرّقة من شبه الجزيرة العربية، وبالدعم الانكليزي.!
جعجعات اليوم الوطني حققت، وتحقق الآن، عكس الهدف المرجو منها، فقد فجّرت الذاكرة الجمعية المدجّجة بكل الغضب المختمر فيها لفرط ما حملت من إهانات لمشاعر الأغلبية التي تحاول، طوعاً أو كرهاً، النأي عن كل ما يذكّرها بتاريخ الانتهاكات الفجّة والفاجرة لحقوق الانسان، والتي لو قدّر للجنة دولية التحقيق في الماضي لواجه النظام تهمة «ارتكاب جرائم ضد الإنسانية» و«جرائم حرب».
مهما يكن، لم تنفك الأجيال الجديدة تبوح بملء الفم والوعي بالحاجة الى تشكيل ذاكرة جديدة، مقطوعة الصلة تماماً مع ذاكرة الغالب، ذاكرة يصنعها الشباب لدولة يرومون إرساء أسسها الرصينة والوطنية بوحي من توقّعاتهم وآمالهم الجديدة..دولة تحقق قيمة الشراكة الفاعلة والتامة لمواطنيها.
يلحظ رجال الحكم، أن سحابة القداسة تنقشع عمّا كان مدرجاً في «الممنوع الاقتراب منه» والتفكير فيه، فلم يعد بالإمكان اليوم إعدام من يرفض الرواية الرسمية لتاريخ الدولة، أو حتى اختراق «المقدّس الرسمي» سواء كان: الايديولوجية المشرعنة للسلطة، أو الحق الحصري للعائلة المالكة في السلطة.. فقد أدبر الزمن الذي كانت فيه أبواب «النقاش السياسي» مغلقة على «محرّمات مصونة»، بالرغم من فيض القوانين بمضمونها التهويلي الذي لا يزال يصدر بمعاقبة من يتعرض للرموز السياسيين والدينيين ولرمزية الدولة بصورة عامة، ولكن لا تلقى القوانين تلك صدى واسعاً حتى في الصحف المحلية التي كانت بمثابة ساحة الانضباط النموذجية لتأهيل الجمهور على الالتزام بها أخلاقياً وقانونياً.. ووطنياً أيضاً!
بات مألوفاً اليوم أن تقرأ لكتّاب في صحف محلية يتلون آيات العزاء لجمهور القرّاء في الاحتفال باليوم الوطني، ثم ما تلبث أن تتحوّل مقالاتهم مادة للتداول العام.. وهو نفس الجمهور الذي يصبح بيئة حاضنة لهؤلاء الكتاب عبر ترويج مقالاتهم على نطاق واسع.. مقالات من نوع التهكم على الإنجازات الوهمية للدولة في معالجة ملفات الفقر والبطالة وأزمات السكن والخدمات العامة.
لم يعد الجدل يقتصر على حجم التغيير الحاصل، بل تجاوزه الى الآفاق التي يمكن أن تصل اليه في ظل طبقة حاكمة توقف بها الزمن، ولم تعد قادرة على التحرر من أوهام «الحق التاريخي والإلهي» في حكم العباد والبلاد.. وفيما يحصد الموت رجال الحكم من الجيل الثاني الواحد تلو الآخر، يزداد المشهد تعقيداً أمام الجيل الثالث والرهانات المتاحة أمامه لجهة احتواء الأخطار المحدقة بالعرش في المرحلة المقبلة.. كلام بعض الأمراء عن (بعثرة) الحكم في الوقت الراهن، في ظل تجاذب السلطة بين مجموعة أجهزة (الداخلية، وإمارات المناطق وجناحا الملك وولي العهد..)، هو نفثة هاجس مكتوم يعبّر عن نفسه في لحظة التجاذب بين القوى المتصارعة على مستقبل السلطة.
ليست هناك إمكانية لبقاء السلطة متماسكة قدر ما تشاء كما في الماضي، فالعوامل المسؤولة عن ذلك البقاء لم تعد قائمة، بما في ذلك الرمزية الدينية والهيبة الأمنية للدولة، فضلاً عن وجود قدرة الحشد وراء نواة الحكم. بكلمات أخرى، النظام يحكم بما تبقى من قدرة القمع بكل أشكاله لدى أجهزة الدولة، وهي في طريقها للنضوب.
في اليوم الوطني، تعلن الاغلبية الصامتة قهراً بأن الماضي ليس قدراً على المستقبل، فإذا لم يتسن لها تغيير الماضي، فإنها تملك الآن زمام تغيير الأقدار القادمة.. ولذلك، فإن التجاذب اليوم يتم بين جيل الحكم الذي يريد إدامة ما جرى منذ منتصف القرن الثامن عشر وتثبيته في الذاكرة الجمعية، وأجيال تنتمي الى مرحلة العولمة والإنسان الكوني، بما يسمح له بتغيير القوانين الموصلة لسدة الحكم.
تجديد هياكل الدولة ليست خياراً شعبياً فحسب، بل ثمة من يفصح، بقدر من الغضب حتى في الدوائر المقرّبة من العائلة المالكة، بأن التاريخ توقّف بالطبقة الحاكمة، ولم يعد هناك مخرج إنقاذي إلا بإطلاق ورشة عمل على مستوى وطني لإحداث تغيير شامل في بنية الحكم، وأجهزة الدولة وسياساتها العامة. لقد بات المطلب الديموقراطي عاماً هذه المرة حتى في الوسط الأشد مقتاً له قبل الربيع العربي، وحتى بين الأمراء (مثل الأمير طلال) من اختار الجهر بالتحذير من مغبة السير عكس إرادة الشعوب والمطالبة بالتغيير الديموقراطي.
الطبقة الحاكمة تتحدث عما هو قائم بوصفه مساراً إلزامياً لا حياد عنه، بينما تفصح الأغلبية المنتفضة عما سيكون، بل وما تسعى لتحويله واقعاً، ليس في العالم الافتراضي فحسب، بل ثمة من هذه الاغلبية من نقل عملياً معركته الى الأرض، عبر تشكيل جمعيات حقوقية مرخّصة في الخارج، وتعبّر عن نفسها باستبسال مدهش لناحية إيصال صوتها ورسالتها للعالم.
إن حرب الذاكرة اليوم في هذا البلد من أشرس الحروب، ومن ينتصر فيها يطيح بنموذج الدولة القائم ويصنع الوطن القادم. لقد تأجّلت هذه الحرب طويلاً، لأن الدولة اختارت البقاء بلا ذاكرة، أمّا وقد قررت ان تغامر فإنها تواجه أغلبية بذاكرة أخرى انقلابية.

copy_r