gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
الاحتقانات المذهبية داء يتطلب اهتماما عاجلا
د.سعيد الشهابي
القدس العربي


ظاهرة خطيرة يمكن ملاحظتها من خلال تطورات اوضاع العالمين العربي والاسلامي في العقدين الاخيرين، تتمثل بتصاعد التوترات المحلية في البلدان التي تتدخل الولايات المتحدة الامريكية فيها بشكل مباشر. فمن باكستان وافغانستان الى العراق وليبيا وسورية، اصبحت الاوضاع الداخلية مضطربة على صعدان شتى: سياسية واجتماعية ودينية. فليس جديدا اكتشاف وجود اعراق مختلفة في البلد الواحد، او انتماءات دينية او مذهبية، ولكنها لم تؤد الى اضطرابات او مواجهات او حمامات دم، كما حدث في العقد الاخير، وبالتحديد بعد حوادث 11 سبتمبر الارهابية التي استهدفت امريكا.
 
فهل يعود ذلك ان امريكا لا تستطيع العمل الا في ظل الانظمة الاستبدادية، وانها تخطىء الاتجاه عندما تتحرك في بلدان تشهد تغيرات سياسية جديدة؟ وهل تسعى واشنطن لاقناع الجماهير بان التغيير ظاهرة تبعث على القلق وتؤدي الى الاضطراب وفقدان التوافق بين ابناء المجتمع الواحد؟ ام ان امريكا تريد ان تبعث رسالة للعالمين العربي والاسلامي بان السلم الاجتماعي لا يتحقق الا في ظل الانظمة القمعية المدعومة من الولايات المتحدة الامريكية؟ ما الذي يجعل القبائل الليبية تتقاتل في ما بينها في هذه الفترة بشكل خاص؟ اي بعد تسلم المؤتمر الوطني العام السلطة من المجلس الوطني الانتقالي والتركيز على الأمن من بين أهم أولوياته.
 
ما الذي يؤدي الى اضطرابات خطيرة في تونس بعد ان توجهت نحو الاستقرار العام في ضوء الانتخابات البرلمانية التي اعقبت سقوط زين العابدين بن علي؟
 
ولماذا التناحر المتواصل في الصومال بين ميليشات 'الشباب' وبقية اطياف المجتمع حتى يصل الى حد هدم المساجد بفتاوى دينية مهلهلة لا تصمد امام الدليل والبرهان. امة المسلمين التي ما برحت تنوء تحت ثقل الوجود الاجنبي والاحتلال والاستضعاف وانظمة الاستبداد، تعاني كذلك من ذوي التوجهات المتطرفة والتكفيرية وذات النزعة الدموية المقيتة. وقد وجد بعض انظمة الاستبداد في هذه الاتجاهات يدا ضاربة يستعملها لتمرير مخططاته السياسية. هذه الانظمة تروج تلك التوجهات وليست مقتنعة بها، ولكنها تفعل ذلك تقمصا، لتستخدمها ضد مناوئيها من جهة، ولترويج ثقافة عدم الخروج على الحاكم الظالم ثانية، ولشق الصف الوطني في البلد الواحد وحرمانه من الوحدة الضرورية لمواجهة الاستبداد والظلم من جهة ثالثة.
 
ثمة ثوابت يمكن اعتمادها ابتداء ليمكن طرح تفسير ظاهرة الاضطراب الاجتماعي والديني في مرحلة ما بعد الثورة في العديد من الاقطار العربية والاسلامية. اولها ان الاختلافات الدينية او المذهبية يفترض ان لا تكون ظاهرة دموية، وان اتباع الديانات المختلفة والمذاهب الفقهية المتنوعة لم يدخلوا في صراعات دموية مسلحة الا عندما توجد قوى اخرى تحرك الصراعات وتمد اطرافها بالسلاح والعتاد.
 
ثانيها ان التغيير السياسي الذي انطلقت ثورات الربيع العربي من اجل تحقيقه انطلق في اغلب البلدان بتوافق مجتمعي مستعليا على الاختلافات الفقهية والدينية. فوقف المسيحي بجانب المسلم، والشيعي مع السني في معركة الحرية وثورة الحقوق. فالنضال يوحد اهله ويقزم الاختلافات البينية مهما كبرت.
 
ثالثها: ان اندلاع التوترات ذات الطابع الديني حدث بشكل اساسي في البلدان التي تبحث شعوبها عن الحرية والممارسة الديمقراطية، بعد ان تمردت على الوضع القائم الحليف في اغلبه للولايات المتحدة الامريكية والغرب.
 
رابعها: ان ما يطرح من قضايا كعناوين لذلك الصراع ومبرر له، مفتعلة في اغلبها، ولا تصمد امام الدليل والبرهان. ولكن نظرا لطبيعة بؤر التحريض والتمزيق، فكل اختلاف صغير يمكن المبالغة في وصفه والترويج له بعناوين شتى واهداف متعددة.
 
خامسها: ان الامة، لو تركت وشأنها، لغيرت اوضاعها نحو الافضل بدون تحريك مشاعر الانتماء الديني او المذهبي. ويمكن اعتبار مصر المدخل للتعرف على طبيعة المجتمع العربي المنتمي اساسا للاسلام، واعتبارها ايضا ساحة النزال والصراع في حال غلبة قوى الثورة المضادة وتأليبها للجهات المتطرفة التي تعيش على الفوضى والاختلاف والنزاع. وسواء كان هناك اتفاق على الرئيس محمد مرسي وسياساته وانتمائه التاريخي لجماعة الاخوان المسلمين ام لم يكن، فقد حان الوقت لتشجيعه على الاستمرار في سياساته التي بدأها بتحجيم دور العسكر في ادارة البلاد، طالبا منهم العودة الى الثكنات، ولا يمكن التقليل من الخطوات التي اتخذها مؤخرا في هذا الجانب، وهي اجراءات ستضاعف غضب العسكر ضده، ولا يستبعد ان تستجمع قوى الثورة المضادة امرها وتتصدى له لتسقطه، خصوصا اذا التزام بمبادىء تحرير مصر من القيود الاجنبية.
 
فمن حيث الاساس والانتماء ليس هناك ما يبرر احتقان العلاقات بين ابناء المجتمع الواحد على اية خلفية، بل ان مصلحة هذه المجموعات تقتضي التعاطي بعقل وحكمة مع مسائل الاختلاف في التفسيرات الدينية، وبالتالي لا يجوز اثارتها نظرا لما تنطوي عليه من تدمير ذاتي. وان من مصلحة الجنس البشري بروز تفاعل فكري وسياسي وحيوية ايديولوجية تؤدي الى تطوير الخطاب السياسي وعقلنة التوجهات الاصلاحية. اما التطرف في طرح اهداف الحراك الثوري فمن شأنه اجهاض الثورة. هذا لا يعني الجنوح نحو الميوعة السياسية، بل ان الطرح السياسي الحازم قادر على كسر حواجز التعتيم والالغاء والتهميش والتشويش. والاشارة هنا الى المجموعات التي تتنبى ايديولوجية جامدة ترفض التغيير او الثورة على الحاكم الظالم، ولكنها سرعان ما تلتحق بركبها لتحقيق مآربها. فالمعروف ان بعض الاتجاهات السلفية المتشددة كان ضد الثورة على نظام مبارك، ولكنه سرعان ما هرع لقطف ثمار التغيير. وكذلك الامر في تونس وليبيا. هذا مع الاعتراف بان الاتجاه السلفي ليس متجانسا بل يضم توجهات من بينها التكفيري ومنها الداعم للانظمة القائمة وتحريم الخروج عليها، ومنها من يتصدى للوجود الاجنبي على اراضي المسلمين كهدف اول، ومنها من يعتبر ان 'تطهير' الدين باستئصال كل ذي فكر مخالف اولوية لا يسبقها شيء. وثمة مؤاخذات كبيرة على التوجه الفكري والسياسي للجماعات المحسوبة على التيار السلفي، ولكن المشكلة الاساسية ان تأثير الدولار النفطي ادى الى استغلال هذا الاتجاه واعادة توجيهه ليخدم سياسات الدول المعادية للاصلاح والتغيير. انه استغلال ادى الى كثير من الاحتكاك وتوتر العلاقات وتعكير الاجواء التي كانت واعدة. ويمكن ملاحظة ان ثمة انظمة سياسية اصبحت قادرة على استغلال مجموعات سلفية وتوجيهها ضد الآخرين، بتعكير اجواء بلدانها واستهداف مقدسات الآخرين من مساجد واضرحة بدعوى محاربة الشرك.
 
ان من السذاجة بمكان اعتبار ما يجري في بلدان الثورات حوادث عابرة او خلافات طبيعية، بل هي اضطرابات مدبرة وموجهة لتحجيم الانظمة المنتخبة من قبل شعوبها، ومنعها من النمو والتأثير الايجابي على الدول الاخرى. فما يجري في ليبيا من مواجهات مسلحة بين القبائل او بين المجموعات السلفية والصوفيين، وما يجري في تونس من تأهب مجموعات سلفية للانقضاض على الانظمة الفنية والثقافية والتجمعات الحزبية في ذلك البلد، وما تشهده مصر من عنف مفتعل في سيناء، او ما تتعرض له ثورة البحرين من استهداف بذرائع طائفية، كلها تشير الى ايد مشبوهة تعمل ليلا ونهارا لاضعاف الحراك الثوري وتقليل اشعاعه وازالة بريقه. ومهما كان تقييم نتائج الربيع العربي، فانه ما يزال يمثل مصدر ازعاج وأرق للانظمة الشمولية التي تشعر بانها مستهدفة من شعوبها بسبب غياب الحرية والممارسة الديمقراطية واحترام حقوق الانسان. وبدلا من تصدي هذه الانظمة لمشاكلها الداخلية خصوصا في مجال التعددية والشراكة السياسية، تسعى لاستهداف مضمون الحراك الثوري وحرفه بعيدا عن مساره الطبيعي. ان مرحلة ما بعد الثورة تتطلب اعادة بناء البلدان التي دمرت اقتصاداتها وبناها الاجتماعية والانسانية بسبب عقود القمع والاضطهاد والاستبداد، بينما يتم اشغال الحكام الجدد المنتخبين بقضايا هامشية تقلل اهمية ما حققوه من تغيير، وتروج لانظمة الحكم الاستبدادية بدعاوى الحفاظ على الامن الاجتماعي ومنع الاضطرابات التي تحدث عادة في حالة الانفتاح السياسي. فكما اختلقت لايران في بداية ثورتها اضطرابات عرقية في مناطق كردستان واذربيجان وخوزستان وبلوشستان، وكما حدث للسودان من اضطرابات امنية ادت في النهاية الى انفصال جنوبه عن شماله، فان هناك توجها لاشعال الحرب بين الطرفين.
 
فقد ادت عودة مئات الالاف من الجنوبيين إلى ديارهم بعد استقلال جنوب السودان العام الماضي إلى زيادة النزاعات على الاراضي، خصوصا ان عدم وجود قوانين خاصة بالأراضي يعني ان الدولة الجديدة غير قادرة على مواجهة هذه المشكلة. وقال رئيس لجنة الاراضي في جنوب السودن روبرت لادو ان تدفق العائدين يؤدي إلى اشتعال العنف ويهدد الامن في جوبا عاصمة الدولة الوليدة. واكد ان مدينة جوبا تتضخم بشدة لأن العائدين يعودون برا ويعودون جوا.' اما ليبيا فقد قتل عدد من الاشخاص الاسبوع الماضي واصيب آخرون في معارك شرسة بين قبيلتين بالقرب من مدينة زليتن بغرب ليبيا. وكان ذلك اختبارا للجهود الانتقالية لتحسين أوضاع الأمن بعد الانتفاضة التي أنهت حكم معمر القذافي. وتشكل تهدئة الخصومات بين مناطق البلاد قضية صعبة لزعماء ليبيا الجدد وتبرز حوادث العنف الأخيرة الصعوبات التي ينطوي عليها استعادة الأمن. وفي تونس اعتدت المجموعات السلفية الاسبوع الماضي على انشطة فنية وثقافية وتجمعات حزبية في وقت حذرت فيه وزارة الثقافة التونسية من الاحتقان المذهبي. جاء الاعتداء على معارض الرسم بذريعة انها 'تفسد الأخلاق العامة ولا تتوافق وأحكام الشريعة' على حد قولهم. وها هم مجددا يعطون نموذجا جديدا عن ربيع تونس بشكل خاص و'الربيع العربي' المزعوم بشكل عام. وبعدها هاجم مسلحون سلفيون بالسيوف والهراوات والحجارة 'مهرجان الأقصى' في مدينة بنزرت في شمال البلاد، واعتدوا على عدد من الحاضرين إصابة بعضهم خطيرة، بحسب مسؤول بمكتب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في بنزرت بشير بن شريفة. وتم تهريب ضيف شرف المهرجان الاسير المحرر سمير القنطار الذي احتج السلفيون على وجوده، من الباب الخلفي خلال هذا الهجوم.
 
ان لكل حريق شرطين: المادة المشتعلة وعود الثقاب، ومن يشعل اعواد الثقاب يختلف عن الوقود المحترق. فالمجموعات المتطرفة كثيرا ما تستخدم لتحقيق اغراض الآخرين، ولكن بتحريضها باللغة التي تفهمها. فاستهداف الآخرين في معتقداتهم وطقوسهم امر مقدس لدى هذه المجموعات، ولكن ما يهم القوى المحرضة ليس الطقوس والممارسات لدى الآخرين، بل الوئام المجتمعي الذي يخلق التماسك ووحدة الصف، ويركز الانظار على احتياجات البشر خصوصا في مجال الحرية والحقوق الانسانية والسياسية. الانظمة الشمولية تعرف ان الوحدة المجتمعية ضرورة لاي حراك سياسي جاد، خصوصا اذا كان بشكل ثوري. فالشعوب تتوحد على المطالب السياسية ولكنها قد تختلف في قضايا الدين والعبادة والعرق، وهي امور طبيعية وعادية ويستطيع البشر التعايش مع الاختلافات النسبية. ولكن المشكلة تبرز عندما تستغل الانظمة هذه الاختلافات وتوجهها من اجل احداث شروخات في الصف الوطني لمنع تلاحم قوى التغيير. فالاضطراب الديني او المذهبي او العرقي يحول دون توحد المواطنين في منظومة تغييرية واحدة. وتؤكد ثورة الشعوب العربية وجود قدر جيد من التعايش والاحترام المتبادل بين ابناء المجتمع الواحدة والامة الواحدة، ما لم تتدخل ايد خارجية لحرف مسار الوحدة وتعبث بثوابت الناس ومعتقداتهم. واذا كانت ثورتا تونس ومصر قد حدثتا بسرعة هائلة لم تترك متسعا من الوقت لقوى الثورة المضادة لتفتيت المجتمع الثائر، فان هذه القوى استعادت قوتها لاحقا وعادت مجددا لاثارة تلك الاختلافات وجعلها أساسا للمواجهة بين الانظمة الثورية والمجموعات الراغبة في اثارة الفتنة والتشبث بالامور الصغيرة في مقابل الاهداف الكبرى. وما اسهل السقوط في وحل الاستقطابات ايا كان شكلها، فان حدث ذلك تعرضت قوى الثورة لردة فعل عكسية ونتائج كارثية، كما يحصل الآن في ليبيا وتونس، وكما حدث في مصر. لكن هذا البلد الكبير قادر على حماية نفسه بتأكيد مكاسب ثورته ودعم مؤسساته الدستورية الديمقراطية والتصدي لقوى الثورة المضادة التي تعبث بامن المواطنين ووحدة كلمتهم وثورتهم. المطلوب وعي فكري فاعل لاجهاض محاولات تفتيت الصف المجتمعي، فذلك هو الطريق الاقصر لتحقيق الامن. مطلوب وعي النخبة باساليب قوى الثورة المضادة، والاجتهاد في وضع الحلول التي تحول دون ذلك.

copy_r