بعد اكثر من ثلاثين عاما من تأسيسه، يواجه مجلس التعاون الخليجي استحقاقات
محلية واقليمية عديدة، من شأنها ان تساهم في اعادة رسم خريطة تحالفاته الخارجية
وسياساته الداخلية. فمنذ مطلع العام الماضي ركز المجلس في سياساته على منع وصول
ثورات الربيع العربي الى حدوده، ولكن عجز المجلس عن القضاء على ثورة البحرين
ادى الى توسع التحديات الداخلية التي تواجهه. فبرغم التدخل العسكري السعودي
لقمع تلك الثورة، وتخصيص عشرين مليار دولار لدعم كل من البحرين وسلطنة عمان، ما
يزال التهديد باندلاع ثورات، او على الاقل اضطرابات، داخل دول المجلس احتمالا
واردا، بل ان مصاديقه تبلورت مؤخرا بشكل واضح في دول اربع اخرى هي السعودية
والكويت والامارات وعمان.
والواضح ان هناك قلقا من ان يؤدي اي خطأ في التعامل مع هذه التطورات الى انفلات
امني يهدد وجود انظمة الحكم في منطقة هي الاكثر حساسية في الشرق الاوسط. ويزيد
من قلق الدوائر الغربية من تصاعد الاضطرابات الداخلية في دول مجلس التعاون
الشعور بغموض المستقبل المنظور في منطقة الخليج خصوصا مع تأرجح السباق بين
الحرب والتفاوض في ما يتعلق بالمشروع النووي الايراني. ويزداد الوضع' غموضا مع
ما يبدو من عودة جديدة لاجواء الحرب الباردة التي خيمت اجواؤها على المنطقة حتى
السبعينات. والواضح ان سقوط الاتحاد السوفياتي لم يقض على المخاوف من تصاعد
السباق الدولي من الوصول الى ما كان يسمى 'مياه الخليج الدافئة'. فشبح روسيا
اصبح الآن يحلق في سماء العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة ومنطقة الشرق
الاوسط. وادركت روسيا ان سياسات العقدين اللذين اعقبا الحرب الباردة اضعفت
وجودها الدولي وافقدتها مواقع نفوذ في الشرق الاوسط. ويمكن تفسير الموقف الروسي
بخصوص المشروع النووي الايراني ورفضها العمل العسكري ضد نظام بشار الاسد في
سورية بانه نابع من اعتبارات استراتيجية مفادها ان روسيا ستخسر المزيد من
نفوذها اذا سمحت للاستراتيجية الانكلو امريكية بالنجاح والتوسع خصوصا في الشرق
الاوسط. ويمكن القول ان سياسة اوباما باعادة نشر القوات الامريكية في منطقة
المحيطين الهندي والهادىء ساهمت يشكل مباشر في تشجيع الصين وروسيا على'اعادة
تقويم سياساتهما الخارجية، وان تلك السياسة شجعت الولايات المتحدة لنشر قواتها
على حدودهما. فانتشار النفوذ الامريكي في أسيا الوسطى وسياسة نشر الدرع
الصاروخية في بولندا، كل ذلك اقنع الروس اخيرا بانهم اصبحوا محاصرين بسياسة
امريكية شرسة لا تعرف حدود التوسع ان لم تشعر بان ثمن ذلك سوف يكون باهظا.
الخليجيون هذه المرة بادروا للتلميح بالورقة الروسية للضغط على' الولايات
المتحدة وبريطانيا، فما ان اندلعت الثورات حتى استخدمت حكومات الخليج 'الخيار
النووي' للمرة' الاولى، وهددت باللجوء الى روسيا ان أصرت واشنطن على مطالبتها
باصلاحات تقلص نفوذ العائلات الحاكمة في هذه الدول. وقد طرأ تعديل على ذلك
التهديد بعد ان تراجعت الولايات المتحدة عن ممارسة الضغط على السعودية والبحرين
بشكل خاص، وسعى الخليجيون لاستعمال العلاقات مع روسيا لمنعها من التعاون مع
ايران، سواء في المجال التكنولوجيا النووية ام الدروع الصاروخية. وقد نجحوا الى
حد تعطيل صفقة صواريخ S-300' بين روسيا وايران، وهي مسألة عالقة حتى الآن،
الامر الذي دفع الايرانيين باتخاذ قرار قضائي بشأنها.
هذا التوازن القلق في العلاقات الخارجية لدول مجلس التعاون لا يعني انتهاء
الشعور بالتهديد، سواء الخارجي ام الداخلي. واذا كان التحالف مع الولايات
المتحدة قد يوفر شيئا من الحماية من الخارج، فان استمرار الحراك الداخلي يؤرق
انظمة دول مجلس التعاون بشكل كبير، خصوصا مع استمرار لهيب الثورات العربية برغم
محاولات تطويعها من قبل قوى الثورة المضادة. وتعكس الاجراءات التي تتخذها هذه
الدول حالة من القلق الذي يتعمق مع عجزها عن استيعاب عمق المشاعر الشعبية
بالرغبة في الاصلاح السياسي الحقيقي. وترتكب هذه الدول خطأ كبيرا اذا اعتقدت ان
قمع ثورة البحرين مثلا سوف يبعد التهديد عن اجوائها. فالواضح ان تلك الثورة،
الجديدة القديمة، استعصت حتى الآن على محاولات القمع بالقوة المفرطة، وما تزال
عشرات التظاهرات تنزل الى الشوارع يوميا، برغم تضافر جهود قوات الامن المحلية
وقوات الجيش السعودي وضباط الامن الامريكيين والبريطانيين الذين استقدموا
للمشاركة في القمع الداخلي لمواجهة الثورة. وكانت خطوات السلطان قابوس التي
اتخذها عندما اندلعت الاحتجاجات في ربيع العام الماضي مشجعة لانها عكست وقتها
ادراكا حقيقيا لابعادها ورغبة في منع تطورها. ولكن اتخاذ اجراءات جديدة ضد بعض
المشاركين في تلك الاضطرابات من شأنه غرس بذور جديدة للتوتر، الامر الذي يجعل
اندلاعها مجددا امرا ليس محتملا فحسب، بل محتوما، خصوصا مع تلكؤ عجلة الاصلاح
والاعتماد على تقييم اجهزة الامن والجيش. وكان الاجدر بالسلطات العمانية معالجة
اسباب التوتر واعتماد سياسة اصلاحات جديدة اكثر جدية، واعادة الثقة للجيل
الجديد بوجود آفاق ايجابية للتطوير السياسي والشراكة المجتمعية في الحكم
والادارة. اما اصدار احكام على اشخاص مارسوا حقهم في التعبير الناقد لسياسات
الحكم، فهو بمثابة صب الزيت على النار في اجواء مؤاتية للاحتراق ونشر اللهب.
اما الدائرة الاخرى للاضطراب الامني فتتمثل بما حدث في دولة الامارات العربية.
فقد اعتقل عدد من النشطاء الحقوقيين، وأبعد بعضهم الى خارج البلاد، في خطوة لا
يمكن ان تمر بدون انعكاسات سلبية تؤسس لمرحلة اضطرابات سياسية وامنية. واذا
كانت الاضطرابات في السابق محصورة بقطاع العمال الاجانب الذين احتجوا على
اساليب معاملتهم، ودعمتهم في ذلك منظمات محلية ودولية، فان الاحتقان السياسي
الناجم عن الاعتقالات الاخيرة قد يتوسع تدريجيا ويستقطب شباب دولة الامارات،
ويؤسس لمرحلة نشاط سياسي غير مسبوق.
وتجدر الاشارة الى ان الحراك السياسي المعارض في المشيخات التي يتكون منها
الاتحاد الاماراتي ليس جديدا. ففي العام 1938 كانت هناك حركة في دبي تطالب
بدستور دائم للبلاد ومجلس تشريعي، تزامنت مع حركة مماثلة في الكويت، وتبعتهما
حركة اخرى في البحرين. كما ان اهتمام المنظمات الحقوقية' الدولية بما يجري في
الامارات تواصل في العقدين الاخيرين، وشجعه على ذلك وجود عمالة اجنبية كبيرة
تمثل اكثر من 80 بالمائة من سكان الامارات. ولا شك ان تراجع الوضع الاقتصادي في
دبي في الاعوام الاربعة الاخيرة يوفر اجواء للاحتقان السياسي والاضطراب الامني
يجدر بالسلطات مراعاته. اما اعتقال ناشطين مثل الحقوقي والقانوني محمد الركن
فلا يساهم في ابعاد شبح الاحتقان. كما ان الثروة الهائلة المتوفرة لدى السلطات
لا تكفي لمنع الاحتقان. خصوصا ان الاتحاد يواجه بين الحين والآخر استحقاقات
مسألة الاستخلاف في مشيخاته، وآخرها ما حدث العام الماضي بعد رحيل حاكم امارة
رأس الخيمة الذي استبدل في السنوات الاخيرة ابنه الاكبر في ولاية العهد بنجله
الاصغر، الامر الذي كاد يؤدي الى زعزعة الامن في تلك المشيخة' الصغيرة.
وشهدت الكويت اضطرابا سياسيا انطلق من مجلس الامة، وادخل البلاد في حالة من
الجمود السياسي غير مسبوقة. فبعد قرار حل مجلس الامة من قبل الامير، الشيخ جابر
الاحمد الصباح، اجريت انتخابات جديدة سرعان ما نجم عنها توتر في العلاقات بين
المجلس والحكومة. واصدرت المحكمة الدستورية قرارا بعدم قانونية قرار الحل،
وقامت باستدعاء المجلس السابق الذي كان قرار حله ناجما عن توتر العلاقات بين
الحكومة والمجلس. أيا كان الامر، فان الكويت، هي الاخرى، مرشحة للمزيد من
الاحتقان السياسي خصوصا مع وجود تداخل بين القوى والاتجاهات المحلية والتدخلات
الخارجية. كما ان تنامي التيار السلفي المدعوم من السعودية يمثل عامل اضطراب
سياسي ومجتمعي اذا لم يخضع للرقابة والسعي للحد من نفوذه، فالكويت محاطة بدول
ثلاث كبرى: السعودية وايران والعراق، ولكل منها تأثير على الوضع الداخلي.
ولا شك ان تعدد قرارات حل مجلس الامة ظاهرة مقلقة لانها تسجل حالة اضطراب صعبة
وتباين في اولويات الفرقاء وغياب ارضية التوافق السياسي خصوصا في اجواء الحراك
العربي الاوسع من اجل الديمقراطية والاصلاح. واذا كانت التجربة الكويتية حتى
وقت قريب تطرح من قبل الغربيين كمثال على' الاصلاح السياسي الممكن في دول مجلس
التعاون بدون الحاجة لتغييرات جوهرية في انظمة الحكم المؤسسة على 'الدولة
الحاكمة' فقد تلاشى بريق تلك التجربة الآن وتجاوزت مطالب بعض قوى المعارضة الحد
الادنى من التغيير الذي ربما كان كافيا لاحتواء الاوضاع في السابق، ولكنه لم
يعد كذلك الآن. ان التجربة الكويتية، برغم تطورها النسبي، لم تتغير كثيرا
وبالتالي لم تعد صالحة كمثال يحتذى من قبل دول المجلس الاخرى، بل' تحتاج لهزة
داخلية كبيرة توقظها على واقعها وتدفعها نحو التطور.
اما السعودية فستظل اوضاعها موضوعا للرهان بين الفرقاء. فالخيارات امام نظام
الحكم السعودي محدودة: فاما القيام باصلاح محدود لا يلبي طموح المطالبين
بالتغيير، او تكثيف القمع الداخلي بوتيرة اكبر، بما في ذلك من خطر على التجربة
وتهديد لمشروع الهيمنة السعودي. وليس خافيا على احد ان السعودية تحتل موقعا
متقدما في العمل السياسي والدبلوماسي الخليجي، وبالتالي لا يمكن تجاوزها
بسهولة.
ويقتضي الامر التعاطي مع الظاهرة السعودية في الاصلاح السياسي بجدية لاعادة
تقييم تلك التجربة وتحديد ما اذا كانت تلك التجربة بحاجة للمزيد من التطوير.
واذا كان الحراك الجماهيري في الجزيرة العربية محصورا حتى الآن بالمنطقة
الشرقية لاعتبارات سياسية وايديولوجية ودينية، فان توسع دائرة الحراك يعكس عمق
الازمة ويكشف مدى عجز العائلة الحاكمة ممثلة في 'الحرس القديم' عن مواكبة
التطورات الدولية في الحكم والادارة، ومدى تجاهل العالم لمقولة 'الخصوصية'
الثقافية لتبرير القمع والاضطهاد. كما ان وجود اكثر من عشرة آلاف سجين سياسي
يضغط على الاستقرار الداخلي ويشجع على الحراك المعارض. وجاءت حوادث المنطقة
الشرقية مؤخرا لتسلط الاضواء مجددا على المملكة. فقتل ثلاثة متظاهرين بالرصاص
الحي خطأ على احسن تقدير، لا يمكن تبريره. كما ان اطلاق النار على رمز ديني
وسياسي مثل الشيخ نمر النمر، فينم عن منهج في القمع والتعاطي مع الحركات
المطلبية بعقلية لا تفيد في التوصل الى مبادرات خارجية لاصلاح العلاقات بين
الحكام والمحكومين. وبين هذا وذاك تتعمق ازمة الحكم السعودي يوميا، خصوصا مع
استمرار نظام الاستخلاف عاجزا عن منع توتر العلاقات بين رموز الحكم. لقد اصبح
واضحا ان الوضع السعودي غير مستقر تماما، وان ثمة مخاضا يعتمل في الخفاء، وان
الدبلوماسية السعودية غير قادرة على التعاطي مع التطورات بنمط فاعل يحتوي
الآثار المدمرة لذلك المخاض الذي قد يتمخض عنه انفجار الاوضاع بشكل يؤدي الى
الاطاحة بالنظام السعودي.
وهكذا يبدو مجلس التعاون متجها نحو مستقبل غير مستقر لا يبعث على الطمأنينة لدى
القوى الحليفة له. لقد كان تأسيسه نتيجة مباشرة واجراء فوريا لمواجهة استحقاقات
الثورة الاسلامية في ايران من اجل منع وصول رياحها الى السواحل الجنوبية
للخليج. وبعد اكثر من ثلاثة عقود يتكرر السيناريو ويواجه مجلس التعاون مجددا
تحديات الثورة ومطالب التغيير. هذه المرة تأتي الرياح من الجانب العربي الذي
يصعب صده او تغيير اتجاهه. الامر الذي يمكن ان يقف حائلا دون مشروع الثورة
المضادة الذي تتزعمه السعودية وعي الشعوب العربية لوسائل اجهاض الثورات، وفي
مقدمتها السلاح الطائفي، وهو سلاح غذته اموال النفط الهائلة بدون حدود، واصبح
سيفا مصلتا على وحدة الامة، حتى اصبحت اكثر انشغالا بالقضايا الهامشية التافهة.
فعندما وقعت حادثة قتل سبعة اسرائيليين في بلغاريا سعت وسائل الاعلام العربية
لتهميشها وكأن شيئا لم يكن، وتجاوزت فتح ملفات الاحتلال الاسرائيلي واثارتها
جماهيريا. فكأن قضية فلسطين في اجواء هيمنة قوى الثورة المضادة قد اقصيت عن
الواجهة لكي لا تثير حماس الشعوب العربية او تضغط على اجندات الاحتلال وداعميه.
الامر المؤكد ان دول مجلس التعاون تواجه اليوم استحقاقات عقود الجمود السياسي
ورفض الاصلاح الديمقراطي والاستمرار في انتهاك حقوق الانسان. وما الاعتقالات
والتنكيل والنفي الا مؤشر لعدم استيعاب هذه الحكومات حقائق الواقع. لقد حان
الوقت لها ان تستوعب معاني التغيير والاصلاح وقوة ارادة الشعوب، والا فستواجه
اوضاعا لا تختلف كثيرا عن اوضاع البحرين التي وصلت نقطة اللاعودة، واصبح
التغيير فيها محتوما وان تأخر.