ما على الذي يود أن يعرف أهمية ومقدار قيمة ثورات الربيع العربي الناجحة،
ومن أبرزها وأنصعها ثورتا تونس ومصر، ما عليه إلاُ أن يتابع ما يكتبه
المحلٍّلون وكتًّاب الأعمدة من الصحفيين ومؤلٍّفو العديد من كتب السياسة
الحديثة في شتَّى بلدان الغرب، وأن يستمع إلى تصريحات قادة الحراكات السياسية
الاجتماعية من مثل 'احتلُّوا وول ستريت' في أمريكا أو 'احتلُّوا شارع المال' في
لندن.
جميع هؤلاء يكتبون ويتحدثون بإعجاب كبير ويصفون ثورات الربيع العربي بأنها
حركات تجديدية إبداعية في مسيرة ثورات الإنسان ولا يشيرون إليها إلاً كثورات
مبهرة تستحق أن يتعلًم منها العالم الدروس والعبر.
لكن في المقابل يقرأ الإنسان ويستمع في الأرض العربية ليصدم بوجود متحذلقين
وسفسطائيٍّين يقضون أوقاتهم في تحليلات نظرية تتساءل إن كان ما حدث مثلاً في
تونس ومصر تنطبق عليه معايير ومتطلبات تعبير الثورة أم أن ماحدث لم يكن أكثر من
حراك أو انتفاضة أو غضباً شعبوياً أو فوضى مؤقتة إلخ.. مما يتقنه بعض نواَّحي
مقاهي العواصم العربية بالنسبة لكل ما يفعله الشعب العربي.
ونفس الشيئ ينطبق على اعتراضاتهم الهزلية المضحكة على تسمية ما جرى بالربيع
العربي على أنها تسمية جاءت من الخارج واستعملت من قبل الغرب لما جرى من أحداث
سياسية جماهيرية كبيرة في بلدان أوروبا الشرقية، لكأن الربيع محرَم عليه أن
يزور أرض العرب ولكأن شعوب أوروبا الشرقية لم تثر ضد طغاة فاسدين كما فعل شباب
العرب في أرض العرب.
هكذا، في خضٍّم تلك المناقشات البيزنطية تفقد الثورات العربية تألَّقها المبهر
ووهج إنارة سيرورة الإنسانية التاريخية. والنتيجة أن تدبَّ الشكوك في قلوب
الناس وتعود مشاعر الدًّونية وعدم القدرة على العطاء في النفس العربية وتنكفئ
المجتمعات العربية عن تكملة مشوارها الثوري.
دعنا نزيح وجوهنا عن ذلك المشهد البليد اليائس الذي يريده البعض لنا، ولنتوجَّه
إلى ثوار الأمة الشباب الذين فجرَوا ويفجٍّرون وسيفجٍّرون أشكالاَ من الثورات
ونتحاور معهم، مثلما فعلنا عبر السنة والنصف الماضية، بشأن ثوراتهم المباركة.
اليوم نودُ، بكلٍ محبَة، تذكيرهم بأن الثورات العظيمة لا تكتفي بأن تكون ثورات
ديموقراطية فقط، بمعنى أن ينتهي زخم مسارها وتقف منجزات عنفوانها بإجراء
انتخابات ديموقراطية نزيهة تنبثق عنها حكومات شعبية منتخبة وبوضع دساتير تفصٍّل
المبادئ التي يجب أن تحكم حياة هذه المجتمعات.
الثورة الديموقراطية تلك تحتاج، لتصبح ديموقراطية حقيقية إنسانية مستقرة عادلة،
أن تسير جنباً الى جنب مع أختها الثورة الإجتماعية.
هذا الجانب الاجتماعي بالغ الأهمية. فالطبقة الوسطى التي وقفت مع الثورات
العربية قد يكون أهم مطلب لها تحقَّق النظام الديموقراطي، لكن جموع الملايين من
الفقراء والمهمشين العاطلين عن العمل والمحرومين من خدمات الإسكان والصحة
والتعليم، هؤلاء لهم أولوية تضاهي مطلب الديموقراطية، أنه مطلب النظام
الاجتماعي المنصف العادل. أولوية الأولويات عند هؤلاء هي مشاركة الآخرين بكرامة
وحق، بما فيهم الطبقة الوسطى، الغذاء المعقول والسكن السَّاتر المريح والتعليم
المجاني لأولادهم وخدمات الصحة لعائلاتهم والتعويض عن البطالة والتقاعد بكرامة
إنسانية.
إن معنى ذلك هو الرفض التام للغنى الفاحش أمام الفقر المدقع، إنًه الإصرار على
توزيع عادل للثروات المادية والمعنوية، إنه حقوق المواطنة الكاملة والتساوي في
الفرص الحياتية، إنًه النظام الضريبي التصاعدي، إنًه ملكية المجتمع لثروات
بلاده الطبيعية وتوزيعها بعدل، إنُه الاقتصاد الذي يحافظ على البيئة ويلتزم
بمسؤولياته الاجتماعية والإنسانية. عند ذاك يكون لثورة الديموقراطية معنى وطعم
وأهداف تسمو بالحياة وتكون التضحيات من أجلها مقبولة.
سيكون مفجعاً لو ترك الشباب القضية الاجتماعية للذين سينتخبهم المواطنون. إن
قسماً كبيراً من هؤلاء، بحكم توازنات القوى في مجتمعاتنا، سيكونون من عليَّة
المكوٍّنات الفرعية القبلية والمذهبية لشعوبنا ومن أصحاب المال أو ممَّن
يأتمرون بتنفيذ ما يريده عليَّة القوم أولئك وأصحاب الثروات.
ولما كان العالم يشهد حراكات جماهيرية، الكثير منها يعترف بأنها من وحي الربيع
العربي، وذلك لتحقيق مطالب اجتماعية متشعٍّبة ومتنوٍّعة فان قادة الثورات
العربية مدعُّوون ليكونوا جزءاً من ذلك الحراك تعاوناً وتناغماً وشدَ أزر، فما
عاد جائزاً أن ينعزل العرب عن السٍّباحة مع الآخرين فوق أمواج العصر الكبرى.
اليوم يخوض العالم حراكاً يتعاظم ويقوى من أجل تصحيح مسار العولمة الاقتصادية
والسياسية والثقافية وإخراجها من فم الضًّبع الامريكي، فلتكن الثورات العربية
في قلب ذلك الحراك.