gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
نصف الثورة كارثة... لانه يزيل الورم ويبقي السرطان
د.سعيد الشهابي

بعضهم قال: 'نصف ثورة يساوي هلاك أمة' و قال آخرون 'من يصنع نصف ثورة يحفر قبره بيديه'. العرب لا يستحقون من الشيء الا نصفه او بعضه، هذا ما يؤمن به الغربيون ويعملون من اجله، وما اعتاد الحكام على ترويجه، ليس في مجال الثورة فحسب، بل في المجالات الانسانية الاخرى، هؤلاء العرب لا يستحقون الا نصف الاشياء او اقل من ذلك. وحتى عندما يخوضون معركة التحرر من الاحتلال، فانهم لا يستحقون الا نصف الاستقلال، فتبقى القوات المحتلة في القواعد العسكرية عقودا بعد 'الاستقلال'، وحين يطالبون بالديمقراطية فيجب ان لا يعطوا الا نصفها او اقل، وكثيرا ما تطرح ذرائع تافهة تنطوي على الكثير من العنصرية والازدراء، ومن ذلك 'الشعوب ليست مستعدة لها'.
اما الديكتاتوريون فيروجون عبر ابواقهم مقولات فيها الكثير من الاستخفاف بالشعوب والتقليل من انسانيتها وذكائها الفطري 'بريطانيا احتاجت 300 سنة للوصول الى الديمقراطية'، ويقولون تارة 'الديمقراطية عملية تتطور وتتكامل وليست قالبا جاهزا'. اما السيادة الكاملة على الاوطان فلا يستحق العرب الا نصفها او بعضها. فالقرار السيادي تصادره القوى الكبرى او مندوبوها المفروضون بالقوة كحكام على الشعوب.
وفي مقابل التنازل عن السيادة توفر لهؤلاء الحكام 'حصانة' ضد محاولات التغيير من قبل شعوبهم. فمثلا عندما اجبرت الولايات المتحدة على الانسحاب من العراق بعد قرار سحب الحصانة عن الجنود الامريكيين في ذلك البلد المبتلى، اعلن مسؤولو البنتاغون انهم سوف يعيدون نشر القوات المنسحبة من العراق في دول مجلس التعاون الخليجي، بدون الرجوع الى حكوماتها او الدخول معها في اتفاقات جديدة. الامريكيون يشعرون انهم يملكون السيادة الكاملة على هذه البلدان، يتصرفون في شؤونها كما يشاؤون.
هؤلاء الامريكيون، ممثلين بجيفري فيلتمان، مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الادنى، ومايكل بوسنر مساعد وزيرة الخارجية الامريكية لحقوق الانسان والديمقراطية، هم الذين يديرون الملف البحراني بشكل كامل سواء في الملف السياسي ام الامني. فهم الذين يتصلون بالجمعيات السياسية ويضغطون عليها للتفاوض من اجل وقف الثورة والقبول بحلول لا تمثل القدر الادنى من الاصلاح. وهم الذين استلموا الملف الامني وجاؤوا بجون تيموني، أسوأ شرطي في امريكا لادارته، فازداد القتل والتعذيب وسوء المعاملة ولكن باشكال اخرى.
وحقوق الانسان المنتهكة، لن تتطور وغاية ما يمكن ان تبلغه نصف المستويات الدولية. فالانظمة الديكتاتورية لا يمكن ان تحترم حقوق الانسان او تتوقف عن ممارسة القمع والتعذيب.
ويتدخل الغربيون عبر 'خبرائهم' لاحداث تغييرات الامور الاجرائية وليس الجوهرية. فمثلا اصبح اعتقال المواطنين في بعض البلدان العربية التي يدير الغربيون اجهزتها الامنية يتم ليس على ايدي اجهزة الامن، بل من قبل الشرطة، واصبح التعذيب لا يمارس في مراكز التحقيق بل في منازل او مزارع عن نائية عن الانظار. وسمعنا كيف يتباهى وزراء خارجية امريكا وبريطانيا بهذه 'التطورات' التي تعكس 'رغبة حقيقية في الاصلاح'. وهكذا الحال مع اي حل لأية مشكلة، فما يعطى للشعوب العربية لا يتجاوز النصف في احسن الحالات.
نصف الثورة مشكلة كبرى بدأت آثارها تظهر تدريجيا في العديد من البلدان. فحتى تونس التي تعتبر ثورتها الاكثر نجاحا مقارنة بثورات الدول الاخرى، تتواصل المساعي لاحتواء النظام السياسي الجديد فيها، الذي اصبح يركز على اظهار 'الاعتدال' بدلا من التطرف بعد ان اصبح يواجه قضايا سياسية واقتصادية ليست في حسبانه.
وقد اعلنت الخارجية الامريكية تخصيص مساعدة بمبلغ مائة مليون دولار للحكومة التونسية لمساعدتها على 'اكمال التحول الديمقراطي'، حسب زعمها.
ولكن في الخفاء تمارس ضغوطا كثيرة على الحكومة التي تتزعهما حركة النهضة لممارسة سياسات 'معتدلة'. فاعلنت الحركة عدم رغبتها في تضمين الشريعة في الدستور، بينما خرج التيار السلفي بمظاهرات كبيرة تطالب بذلك بشكل خاص. وبين 'الاعتدال' الذي تمثله 'النهضة' و'التطرف' الذي يمارسه السلفيون، تتحرك قوى الثورة المضادة لابقاء تونس محكومة بنخب سياسية منسجمة في اطروحاتها السياسية مع ما يريده الغربيون. يضاف الى ذلك ان تونس تعتبر في نظر امريكا اوروبا بالون اختبار، فان استطاعوا السيطرة على إسلامييها وتوجيههم على طريق 'الاعتدال' فربما يتساهلون مع اطروحة التغيير السياسي المحدود الذي تنحصر انجازات قادته 'الاسلاميين' بالجوانب العبادية على غرار الممالك التي طوعوها للعمل ضمن منظومتهم السياسية والاستراتيجية.
في ما عدا تونس فليس هناك الا نصف ثورة في مصر، وبعض ثورة في اليمن وثورات ممنوعة من الانتصار في بقية البلدن التي شهدت الربيع العربي. فاليمنيون ممنوعون من تحقيق انجاز سياسي ملموس.
فقد تدخلت قوى الثورة المضادة التي تشمل دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة لحصر التغيير بشخص الرئيس السابق علي عبد الله صالح.
ما السبب في ذلك؟ ما الذي ساعد قوى الثورة المضادة على تحقيق هدفها بمنع التغيير الثوري الذي يمنح الشعب حق اتخاذ قرار تقرير المصير واختيار نظامه الذي يريده وانتخاب حكومته؟ كان واضحا وجود تيارين في الثورة اليمنية: ثوري وسياسي. فكان اللقاء المشترك بوتقة للاحزاب السياسية التي عملت ضمن نظام علي عبد الله صالح فترة طويلة، فاصبحت تتقن لغة السياسة ولا تجيد مشروع الثورة. اما شباب التغيير فقد قدموا التضحيات الكبيرة، ولكن وجدوا انفسهم محاصرين بضغوط القوى الخارجية خصوصا من دول مجلس التعاون التي تدخلت لمنع حدوث التغيير الشامل. فاليمن بلد عربي كبير من شأنه التأثير على الجيران اذا ما تحول الى نظام ديمقراطي حقيقي، واعطي لشعبه دوره في العمل السياسي الحر. الثورة تعرضت لتدخل خارجي مكثف، ساهم في حصر نتائجها.
وتوازى مع ذلك تلكؤ الاحزاب السياسية في الانضمام لمشروع الثورة والاعتقاد بضرورة تفعيل 'الادوات السياسية' لتحقيق التغيير او زيادة الانجازات. ويزداد الوضع اليمني تعقيدا بعد دخول تنظيم القاعدة على خط مشروع التغيير، ليحرفه عن مساره. وقد عبر مجلس الامن التابع للامم المتحدة الاسبوع الماضي عن قلقه من تدهور الوضع السياسي في اليمن والذي يهدد الانتقال الى الديمقراطية بعدما انهت احتجاجات استمرت لمدة عام حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح بعد 33 عاما في السلطة. الامر الذي اصبح مؤثرا على مشروع التغيير عن طريق الثورة يتمثل بتشوش المفاهيم لدى الكثيرين، والاعتقاد بمقولة 'امكان التغيير من الداخل' ومقولة 'خذ وطالب'، بالاضافة الى النظر للمشروع التغييري بحسابات الربح والخسارة من جهة والنظر اليه ضمن التوازنات الاقليمية والدولية، واخضاعه للحسابات السياسية الدقيقة من جهة اخرى. الثوريون لا ينظرون للامر من هذه الزاوية، بل يعتقدون ان الطرح الثوري له معاييره الخاصة ولا يخضع لحسابات الربح والخسارة او توازن القوى او المنطق الرياضي الدقيق، ولا ينسجم في جوهره مع المقولات المرتبطة بالممارسة السياسية مثل 'المناورات السياسية' و'استعمال اوراق الضغط' والاعتقاد بان الغرب دائما يملك قرار الحسم في الاشكالات السياسية.
وهكذا يقع اصحاب المشروع الثوري ضحايا ليس لسياسات النظام وقمعه فحسب، وليس لقرارات الغرب المعادية للثورة، بل لمواقف الفرقاء السياسيين الذين يساهمون، ربما بدون قصد، في اضعاف مواقف الثوريين بالتحاور مع النظام القائم او اعلان القبول ببقائه او الاستعداد للعمل ضمن اطره. فهذه جميعا تفت في عضد شباب الثورة وتؤدي الى بلبلة مدمرة.
الثوريون يؤمنون بالحل الثوري الحاسم، والسياسيون يمثلون 'نصف ثورة' ويحركون الشارع ليس كخيار ثوري مستقل وحاسم بل لتحويله الى 'ورقة ضغط' تدعم مشروعا سياسيا آخر. الثوريون لا يؤمنون بتحويل الثورة الى ورقة ضغط سياسية على النظام او داعميه، بل يعتبرونها الطريق لحسم الموقف بدون تنازل او تراجع او مساومة او اضعاف للصف الثوري.
المصريون بشكل خاص يشعرون بحالة من الغبن بسبب ما حصل لثورتهم التي حصر التغيير فيها بالتخلص من الرئيس وابنائه، مع الاحتفاظ بنظامه كاملا. واصبح المجلس العسكري هو النظام السياسي البديل للرئيس المخلوع.
وكان امرا غريبا جدا قبول الاحزاب السياسية بتسليم الامور للعسكر الذين يعتبرون في التاريخ السياسي، من اكبر اعداء الثورة واقلهم حماسا للتغيير. بل ان هدف الجيش في اي بلد، ديمقراطي ام استبدادي، الحفاظ على النظام السياسي القائم ومنع سقوطه مع عدم التدخل في السياسة. المجلس العسكري في مصر استفاد من وجود ثنائية في الساحة السياسية المصرية بين الاحزاب والمجموعات السياسية من جهة والقوى الثورية من جهة اخرى. هذه الثنائية ساهمت في تعقيد الامور، ولكن الجيش يعرفها ويدرك حدودها، ويعلم سلفا انها تزيد مسألة التغيير الشامل امام قوى الثورة. وكان النظام العسكري المصري قد استهدف دعاة التغيير والثوار قبل انفجار ثورة 25 يناير. هذا المجلس هو الذي انقذ النظام من السقوط بعد ازاحة حسني مبارك عن الحكم، ولكنه في الوقت نفسه يقدم نفسه للشعب انه هو الذي حمى الثورة واوصلها الى حد اسقاط حكم الرئيس.
ولذلك يسعى هذا الجيش لضمان امتيازات خاصة تجعله العامل المرجح في اي خلاف سياسي مستقبلي او جنوح نحو التغيير الشامل. وسعى قادة الجيش لايصال رسالتهم واضحة للشعب عندما استخدمت عناصره في الشهور الاخيرة اشكالا مروعة من القمع ضد المتظاهرين، حتى ادخل الرعب في نفوس الكثيرين.
وتعتبر واشنطن الجيش المصري صمام امان لسياستها في الشرق الاوسط لان مصر هي بوابة هذه المنطقة، ولذلك استطاعت واشنطن من خلاله احتواء الثورة وجعلته عراب التغيير والسلطة لدعم مرشحي منصب الرئاسة او رفضهم. وربما اعتقد الاخوان المسلمون في البداية ان بامكانهم استرضاء العسكر، وان 'الحكمة' في التعامل سوف تفضي الى تعايش سلمي والى تحقيق ما يريدونه من نتائج اهمها الانتقال السلمي للسلطة الى المدنيين.
ولكنهم ادركوا الآن ان الجيش مفوض من الغرب بمهمة اساسية وهي الحفاظ على اتفاقات كامب ديفيد ومنع تحول مصر الى المعسكر المقاوم للاحتلال الصهيوني. واصبح الاخوان مخيرين بين خيار التراجع عن ثوابتهم كحركة اسلامية رائدة في العالم العربي، ومن ذلك رفض الاعتراف بالكيان الاسرائيلي والغاء اتفاقات كامب ديفيد، او الدخول في مواجهة مع المجلس العسكري.
وعندما خرجت الاسبوع الماضي مظاهرة احتجاجية في الاسكندرية ضد استمرار حكم العسكر خصوصا بعد ان رفض الضغوط البرلمانية لاسقاط الحكومة، عبر الجيش عن موقفه من خلال المواقع الاجتماعية، وذلك بتوجيه تهديد مبطن ضد الاخوان وتذكيرهم بالتجربة التاريخية المرة بينهم وبين الحكم بعد ثورة 1952.
نصف الثورة كارثة، فاما انتصار ارادات الشعوب او العودة الى العهود السوداء التي تهيمن فيها قوى الاستبداد والظلم والتعذيب. انهما خياران لا ثالث لهما. فمصر التي وقفت في منتصف ثورتها لاسباب عديدة، تواجه هذا الخيار الصعب. ولكن المهمة هذه المرة ستكون اصعب لان قوى الثورة المضادة استعادت قدرا كبيرا من مواقعها، وخبت شعلة الثورة في نفوس الكثيرين من شباب التغيير، واصبح تحريك الشارع اصعب كثيرا مما كان عليه من قبل.
وأحد أسباب ذلك تباين مواقف الطرفين الاساسيين للمعارضة: شباب التغيير والاحزاب السياسية التي عملت ضمن نظام مبارك قبل 25 يناير 2011 والتي اصبحت محكومة بأطر العمل السياسي الذي تطبع تدريجيا على السياسة والدبلوماسية واصبح من الصعب عليه التحول الى حراك ثوري في الشارع.
وثورة البحرين هي الاخرى تعاني من الصراع بين القوى السياسية التي تعتقد ان الانخراط في العمل السياسي والدخول في مساومات من وراء الكواليس سوف يحقق مكاسب اكبر مما يحققها الحراك الثوري والتوتر الامني.
بينما يعتقد شباب ثورة 14 فبراير ان التوقف عن المطالب الاساسية للثورة متمثلة في اسقاط النظام كاملا سيكون انتحارا سياسيا. انه صراع بين الثورة وشبه الثورة، او بين الثورة الكاملة ونصف الثورة.
وحتى ثورة تونس مهددة بالنكوص على نفسها اذا لم تلتزم قيم الثورة التي تقتضي ازالة النظام البائد كاملا، ليس في هيكله فحسب، بل في عقليته ومبادئه وايديولوجيته. فانظمة الحكم العربية تأسست على الاستبداد ولا تستطيع ان تغير ايديولوجية اجهزتها لتكون 'ديمقراطية'.
والرهان على امكان تغير منظومة الحكم من الاستبداد الى الديمقراطية محكوم بالفشل. ان هناك حاجة لتغير جوهري في نفسية العناصر المتصدية للعمل السياسي التي تسعى لتحقيق مكاسب فئوية او حزبية او فردية على حساب قيم الثورة والتغيير الشامل. ان نصف ثورة هزيمة كارثية، لان انظمة الاستبداد لا بد ان تقتلع كاملة، وبدون ذلك يبقى الجسد العربي كالمصاب بالسرطان الذي يستأصل الجزء الظاهر منه، وتبقى الخلايا السرطانية الصغيرة منتشرة في اجزائه الاخرى ما لم تعالج كيماويا او إشعاعيا. اذا لم يحدث ذلك فسوف يعود السرطان مجددا أشد شراسة ليقضي على الجسد المنهك. فاما العلاج الكامل او الموت المحتوم وان كان بطيئا. نصف الثورة أخطر قد يكون أخطر من عدمها، والتغيير الذي تصممه الهندسة الامريكية يكرس الاستبداد ولا يأتي بالديمقراطية. واسترضاء واشنطن يؤدي الى التنازل عن مباديء الثورة وقيمها ولا يحقق الديمقراطية.
ان شباب التغيير مطالب باكمال الثورة وعدم القبول بنصفها لان ذلك خيانة لكل قطرة دم ازهقها المستبدون والطغاة والمحتلون.

القدس العربي

copy_r