يقارب التحولات الضخمة في بلاده من نافذة سوسيولوجية، تنسجم مع اختصاصه
الأكاديمي من جهة وتجنّبه فخّ المقاربة المذهبية من جهة أخرى. يبحث بين جملة
وأخرى عن المصطلحات الدقيقة التي يتفادى من خلالها «التشخيص» المنقوص للحراك
الشعبي في البحرين. يفضّل «الانتفاضة الحقيقية» توصيفاً يستبدل به مصطلح
«الثورة»، على اعتبار ان المعركة المتواصلة «ليست مع السلطة فحسب بل أيضا مع
معارضةٍ لجأت في الماضي إلى خيار الحوار مع النظام وصدّقت الوعود»... بعد أكثر
من عام على انطلاق الاحتجاجات الضخمة في البحرين، يستعيد السوسيولوجي البحريني
عبد الهادي خلف ظروف اندلاع محاولة التغيير في المنامة، متحدثا إلى «السفير» عن
مقوّمات الشارع المتحرّك، وسياسة «التشطير العمودي» للمجتمع، وتشتت القوة
المعارضة... نقاط لا يضعها خلف سوى في السياق التاريخي للانتفاضات البحرينية
«التي تحدث كل عشر سنوات»...
1 ـ كلّما ابتعدنا عن لحظة اشتعال الاحتجاجات في الدول العربية كلّما زادت فرص
تحليل ظروفها. ما السبب السوسيولوجي للحراك الشعبي الذي اندلع في 14 شباط 2011
في البحرين، بعد كل ما قيل عن ان «الثورات» ردّ فعل طبيعي على تراكم الفقر
والقمع على مدى عقود؟
} منذ خمسينيات القرن الماضي، والبحرين تشهد كل عشر سنوات حراكاً يهزّ البلد.
الموضوع عادي ويتخطى تاريخ «الربيع العربي» علماً بأنه سرّع انطلاقة انتفاضة
«14 فبراير» 2011. في الخمسينيات، كانت التحركات ناصرية بغالبيتها. في
الستينيات، كانت حركة عمّالية يسارية. في العام 1972، كانت نقابية ويسارية. في
الثمانينيات (بعد الثورة الإيرانية 1979) تكررت بشكل مماثل ولكن بطابع شيعي
التحق بها اليساريون. في التسعينيات (1992-1994) كانت حركة دستورية حيث تجمّعت
النخب اليسارية والدينية والسياسية لإعادة دستور 1973. أما في العام 1999، فجاء
الملك حمد بن عيسى آل خليفة ووعد بالإصلاح وبـ«المملكة الدستورية الحديثة»...
اصدر دستورا من طرف واحد ودعا على أساسه لانتخابات تشريعية قاطعتها المعارضة في
العام 2002. اما في العام 2006، فعادت الأخيرة وشاركت في الانتخابات بعدما
أقنعتها السلطة بلغة الوعود... وعندما لم تتحقق الوعود (العودة الى دستور 1973)
قرر شباب «ائتلاف 14 فبراير» التجمّع في دوار اللؤلؤة، حيث جوبهوا بالرصاص...
وصولا إلى سقوط اول شهيدين وحتى اللحظة.
2 ـ كيف يمكن قراءة ردّ فعل النظام على خروج شباب «14 فبراير» اذا كان اشتعال
«الجبهة البحرينية» متوقعاً؟
} قبل اسبوعين من «14 فبراير»، كان الشباب قد اعلنوا موعد تجمعهم. لكن الراي
العام لم يتوقع هذا الحجم الشعبي الكبير، مما جعل السلطة تتفوق على نفسها في
قمع الناس. سقوط الشهداء جعل المعارضة الرسمية التي لم تكن في وارد التصعيد
آنذاك، تنخرط اكثر في لعبة الميدان... اما السلطة فاعتمدت على سلاحين: تخويف
الناس وتوزيع المكرمات عليهم لإسكاتهم (أعلن الملك مثلا انه سيعطي الف دينار اي
3 آلاف دولار لكل عائلة). العجيب ان الناس لم يقتنعوا بالرغم من الفقر والبطالة
(هناك عمّال بحرينيون يتقاضون ادنى راتب قد يحصل عليه العامل الأجنبي. البطالة
8 في المئة). عندها ظهر الارتباك في اداء السلطة وتُرجم باعتذار الملك واصفا
الضحايا بـ«الشهداء»، ثم بموقف نقيض لوزير الداخلية الذي هددّ المحتجين. هذا
التناقض شجّع المعارضين.
3 ـ ألم يتضح من خلال الاحتجاجات ان مشهد «الغالبية الشيعية التي تحتج ضد
النظام السني» طغى على مشهد «الشعب البحريني المطالب بالإصلاح»؟
} ما العمل إذا كانت الغالبية الشعبية من الشيعة والغالبية اليسارية من الشيعة
وغالبية الفقراء من الشيعة؟... كان الدور الأساسي لمجموعة خرجت تحت عنوان
«ائتلاف شباب 14 فبراير» لتقول «نستحق العيش كمواطنين». حاول الائتلاف ان يسبق
الجمعيات السياسية (الوفاق، وعد، العمل الإسلامي...) التي عادت والتحقت بالحراك
بعد اعتذار الملك، فأصبح للحراك شعبية اجتماعية أوسع. هنا، بدأ دوار اللؤلؤة
يتحول من مجرد مكان يتجمع به «متمردون» إلى مساحة للشيوعيين والقوميين
والبعثيين والإسلاميين الشيعة... هذا لا يعني ان الحضور السني كان عاديا. في
الشارع السني يزداد الفقر بسبب سياسة التجنيس السياسي من كل من سوريا واليمن
وبلوشستان، فيحصل هؤلاء على الأولوية في السكن والتعيينات والمدارس، والتي
تُجتزأ فعليا من حصة السنّة الفقراء...
4 ـ إلى اي مدى ساهم تشتت مطالب المعارضة بين منادٍ بالاصلاح ومنادٍ باسقاط
النظام، في تحجيم الحراك؟
} كان يمكن لهذا التشتت ان يُربح السلطة لو لجأت إلى تحقيق ادنى هذه المطالب.
لكنها فضلت المخرج الاخير، باستدعاء القوات السعودية في 15 آذار 2011، فقط بعد
4 اسابيع على انتفاضة الدّوار.. وبالرغم من ذلك، كان يُتوقع ان يعطيها التدخل
السعودي هدوءا لفترة طويلة لكن الحراك عاد بعد اقل من 6 اشهر ولو بشكل متفرّق،
وصولا إلى 9 آذار 2012 مع المسيرة الأضخم للمعارضة.
5 ـ اي نماذج بحرينية تؤكد التمييز الطائفي والقبلي في البلاد او ما تسموّنه
«التشطير العمودي» للمجتمع؟
} ابنة العائلة الخليفية لها امتيازات أكثر من الجميع، سنّة وشيعة، وذلك على كل
المستويات (رؤساء الأندية الرياضية والثقافية، التعيينات...). يُمنع مثلا على
الشيعة دخول السلك الأمني والعسكري فيما تتمتع بعض الفئات الشيعية النخبوية
بحضور في محيط العائلة الحاكمة (وزراء وبرلمانيون فضلا عن بعض الشيعة الذين
يدافعون عن النظام عبر الفضائيات)... اما في صفوف رجال الأعمال، فهناك انقسام
كبير: اجتمع الملك مع مسؤولي غرفة التجارة بعد دخول القوات السعودية وهددهم
باتخاذ اجراءات اثر صمتهم حيال ما جرى في الدّوار. من دعم من بينهم الحراك
الشعبي، عوقب بطريقة فاضحة بعدما دعت السلطة إلى مقاطعة المؤسسات التي يمتلكها
تجار شيعة، وهذا ما فاقم إلى حد كبير عملية «التشطير».
6 ـ ألم يشجع كل ذلك تدخلا ايرانيا يضفي بعض التوازن؟
} تحاول ايران الاستفادة من اي حراك فما بالك اذا ما كان في البحرين وخصوصا على
المستوى الاعلامي، ولكن ايران لم تتدخل مباشرة. هذا مهين للبحرينيين. في العام
1979، خُيروا ان يكون عرباً او فرساً، فأكدوا انهم من العرب. السلطة تعلن كل
يوم ان هناك مشروعا اميركيا - صهيونيا - صفويا لتغيير النظام لكن لا دليل حسياً
على ذلك.
7 ـ ماذا تريد السعودية في البحرين اليوم في وقت تزداد مخاوفها من التكتلات
الشيعية الشعبية ضدها بعد مناوشات القطيف؟
} تريد السعودية اتحادا فدراليا مع البحرين، يحتفظ بموجبه الملك البحريني
وعائلته بامتيازاتهم كأمراء لكن من ضمن ولاية سعودية تحمل الرقم 14... هذا ما
يلوح في الافق علما ان البحرين مكلفة ماليا بالنسبة للسعودية، فضلا عن اضافتها
بذلك كتلة شيعية اخرى في جوارها...