gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
البحرين تعيش على انغام الثورة مع انعدام الحل السياسي
د.سعيد الشهابي
14-02-2012

بدأت ثورة شعب البحرين يوم امس عامها الثاني وسط استقطاب سياسي واضح، وموقف دولي داعم لقوى الثورة المضادة التي تخطط لاجهاض كافة الثورات العربية، بدون استثناء. ويمكن القول ان ثورة هذا البلد الصغير اكثر ثورات الربيع العربي ظلامة، مع انها الاكثر سلمية، وربما الاقدم والأكثر استمرارا. فالحراك السياسي والشعبي من خلال الاحتجاجات والتظاهرات والعصيان المدني لم يتوقف منذ اكثر من ثلاثين عاما. وبفضل التجربة التراكمية الطويلة، استعصت على محاولات الاجهاض على ايدي قوى الثورة المضادة. واذا كانت الجيوش الاجنبية قد تدخلت في بلدان اخرى مثل ليبيا لدعم ثورة شعبها، فان التدخل في البحرين جاء لهدف معاكس تماما. فالاجتياح العسكري في منتصف مارس الماضي من الجانب السعودي كان يهدف للقضاء على تلك الثورة بعد ان فشل حكم العائلة الخليفية في القضاء عليها بعد شهر كامل من الاحتجاجات والاعتصامات خصوصا في دوار اللؤلؤة وسط العاصمة. ويمكن تلخيص ما واجهته الثورة البحرانية من تحديات تمكنت من التغلب على بعضها بما يلي:
اولا: انطلقت ثورة البحرين في 14 فبراير 2011 بدعوة من مجموعات شبابية عانى الكثير منهم من السجون والتعذيب والحرمان من الوظيفة والسكن على مدى عقود سابقة. وتم تحديد الموعد ليتزامن مع الذكرى العاشرة للميثاق الذي صوت الشعب عليه في مثل ذلك اليوم في 2001 والذي اكتشف لاحقا انه كان خطوة لالغاء دستور البلاد للعام 1973، والذكرى التاسعة لالغاء ذلك الدستور. وكبقية الثورات فالانطلاقة الاولى كانت محدودة، لم يتوقع منظموها ان تتوسع كثيرا، ولكن القمع السلطوي ادى الى قتل المتظاهرين منذ اليوم الاول. ومع استمرار سقوط الشهداء تصاعدت فعاليات المتظاهرين واصبحت اعدادهم ظاهرة غير مألوفة في اية دولة خليجية اخرى. وبعد شهر كامل من الاحتجاجات السلمية التي كانت تنطلق من دوار اللؤلؤة الذي اتخذه الثوار منطلقا لهم على غرار ميدان التحرير في مصر، شعرت العائلة الحاكمة بالخطر الحقيقي على وجودها في الحكم، فجاء التدخل العسكري السعودي في 14 مارس متلفعا بعباءة قوات درع الجزيرة التابعة لمجلس التعاون الخليجي. وبرغم نفي الحكومة الامريكية علمها بالاجتياح السعودي، فان المعطيات تؤكد علمها بذلك سلفا، خصوصا ان وزير الدفاع الامريكي، روبرت غيتس، كان يجتمع مع المسؤولين في المنامة قبل يوم واحد من دخول تلك القوات. فهل من المعقول ان تخترق السعودية الحدود عسكريا بدون علم الامريكيين؟ وبدخول تلك القوات ازدادت الازمة تعقيدا، ومارست قوات الجيش والامن معا سياسة القبضة الحديدية العنيفة بوتيرة غير مسبوقة. ووفقا لتقرير لجنة تقصي الحقائق المستقلة التي شكلها الحاكم وترأسها الحقوقي المصري، شريف بسيوني، فقد تم هدم 53 مبنى دينيا، وقتل اربعة اشخاص على الاقل تحت التعذيب، واكثر من ستين شخصا بنيران الشرطة او غازاتها. وخلال هذه الفترة تم طرد اكثر من اربعة آلاف بحراني من وظائفهم بسبب مشاركاتهم في الاحتجاجات السلمية. واعتقل عشرات الاطباء والممرضات وطواقم التدريس وعشرات الرياضيين، كل ذلك على امل قمع الثورة ووأدها قبل ان تستفحل.
2- ان التدخل العسكري السعودي جاء بذريعة معلنة بان البحرين تواجه تهديدا خارجيا لامنها، وان ميثاق مجلس التعاون الخليجي ينص على دعم اي نظام يتعرض لمثل ذلك التهديد. ولاذ الغربيون بالصمت، على عكس موقفهم قبل عشرين عاما عندما اجتاحت القوات العراقية الكويت. في ذلك الوقت قلبوا الدنيا وجاؤوا بالجيوش من كل مكان لاخراج القوات العراقية من الكويت. ومع اختلاف الظرفين فالمبدأ الذي اعلنه الغربيون لتبرير حربهم على العراق انه اختراق الحدود بقواته واخترق سيادة بلد آخر بدون مبرر لا يختلف كثيرا عما حدث في البحرين. وفي هذه الحالة فحتى لو كانت هناك دعوة من العائلة الحاكمة للقوات السعودية بالتدخل، فان ذلك لا يوفر مبررا لاختراق سيادة دولة وشعب.
ولا تختلف حالة البحرين عن حالة افغانستان عندما استعانت حكومتها ممثلة برئيسها بابراك كارمل بالقوات السوفياتية، فاعتبر الغرب ذلك التدخل احتلالا، وعبأ كافة الامكانات، بما في ذلك تسليح المجاهدين ودعم تنظيم القاعدة لمواجهة القوات السوفياتية بتمويل سعودي كامل. واعتبر الغربيون اجتياح القوات السوفياتية لكل من تشيكوسلوفاكيا في 1968 والمجر في 1956 لقمع 'ربيع براغ' احتلالا تصدوا له على الصعيد الدولي بقوة. وحيث ان السعوديين والخليفيين ما يزالون يصرون على ان ذلك التدخل جاء لمواجهة التهديد الخارجي، وفي ضوء تأكيد لجنة تقصي الحقائق برئاسة بسيوني، عدم وجود اي دليل لتدخل ايراني في ثورة البحرين، فان المنطق يقتضي سحب القوات السعودية منذ صدور ذلك التقرير في 23 نوفمبر. اما اذا كان التدخل يهدف لقمع الثورة الشعبية، فمن المؤكد انه فشل في ذلك، لان الثورة لم تتوقف والمطالبة باسقاط النظام ما يزال هو الشعار الذي يرفعه المشاركون في الاحتجاجات بشكل يومي. ونتيجة صمود الثورة استعاد المواطنون المبادرة وبدأوا يتحدون نظام الحكم علنا. فبدأوا بتسوير المساجد المهدومة واعادة بنائها، وارغموا النظام على التخلي عن محاكمة الرياضيين بعد ان اصبح نجل الحاكم مهددا بالمنع من حضور الالعاب الدولية كونه رئيسا للجنة البحرينية للالعاب الاولمبية، وكانت اللجنة الدولية لسباق السيارات (فورمولا1) قد الغت سباق البحرين في شهر ابريل الماضي، ومن المتوقع ان تفعل ذلك هذا العام ايضا برغم الضغوط المالية السعودية والبحرينية لعقد السباق في البحرين وعدم الغائه.
ثالثا: ان الثورة البحرانية اليوم تجذرت كظاهرة سياسية اجتماعية، وادى ذلك الى تعمق القناعة الشعبية بعدم امكان التعايش مع العائلة الخليفية الحاكمة. وهنا تعاطى اعلام قوى الثورة المضادة مع ثورة البحرين بانماط مغلوطة وخطاب يعكس حقيقة توجهات قوى الثورة المضادة التي تستخدم الطائفية سلاحا لقمع الثورات او اجهاضها او حرف مسارها. فبرغم اضفاء السمة الطائفية على هذه الثورة الا ان الواقع مناقض لذلك تماما لاسباب عديدة:
اولها انه لم تسجل حتى الآن حالة طائفية واحدة، فلم يستهدف مواطن شيعي حياة مواطن سني بسبب الانتماء المذهبي، كما لم يحدث العكس. الثاني: ان الثورة رفعت شعار التغيير واقامة نظام على اساس ثابت 'لكل مواطن صوت' بعيدا عن الانتماءات او الاعتبارات الاخرى. وادركت الثورة منذ انطلاقتها الخطط الخبيثة لقوى الثورة المضادة ومن ذلك خطط التشطير على صعيدي الامة والمجتمع، وعلى اسس الاعراق والانتماءات المذهبية. ورفعت شعارات الوحدة الوطنية منذ ان كانت في دوار اللؤلؤة، ولم تنحرف عن ذلك المسار يوما. الثالث: ان الثورة رفضت الارتماء في احضان الغرب الذي تعتبره احدى الدعائم الاساسية لقوى الثورة المضادة. وقد فهمها الغربيون جيدا، فاتخذوا موقفا واضحا منها، اولا برفض التعاون معها او دعمها او التواصل معها، ثانيا: بدعم النظام الحاكم ومده بالخبرات الامنية. ومن ذلك ارسال ضابطين، امريكي وبريطاني، لادارة عمليات القمع اليومية ضد الثوار. الاول هو جون تيموني الذي وصفته صحيفة 'ميامي نيو تايمز' بانه 'أسوأ شرطي في امريكا'. والثاني جون ييتس الذي اضطر للاستقالة من منصبه بعد انكشاف قضية التنصت على الهواتف التي ارتبطت بصحيفة 'نيوز اوف ذا ورلد' المنحلة. ولوحظ تصاعد القمع ضد المتظاهرين والمحتجين والمعتقلين السياسيين، بشكل متصاعد في الاسابيع الاخيرة. الرابع: ان انماط التشطير لم تنحصر بالبحرين بل اصبحت تهدد انظمة الحكم في الدول التي سقطت انظمتها واستبدلت بانظمة منتخبة. فهذه الانظمة الجديدة تعاني من قوى الثورة المضادة التي تسعى للتشويش على الوضع واثارة النعرات الدينية (الصراع بين المسلمين والمسيحيين) والمذهبية (في البحرين واليمن وسوريا).
رابعا: ان هناك خطا أحمر رسمته حكومات دول مجلس التعاون بينها وبين الاصلاح السياسي. فحتى هذه اللحظة لم يقم اي من تلك الدول باي اصلاح وفق أطر التعددية الحزبية وتداول السلطة واقامة حكم القانون المؤسس على دساتير يكتبها المواطنون. كما ان الثروات النفطية ما تزال محصورة بايدي العائلات الحاكمة التي ترفض مشاركة المواطنين في صياغة القرارات التي تنظم سياسات الانفاق العام والتوزيع العادل للثروة، وخطط التنمية والتكامل الاقتصادي في ما بين الدول العربية. وليس هناك مطالبة من اية جهة دولية لتلك الدول بالاصلاح الحقيقي، كل ذلك خشية انتشار حمى التغيير وما لذلك من تأثير على التوازن السياسي والاستراتيجي بين العالم العربي والكيان الاسرائيلي. فليس سرا القول ان ذلك الكيان انما يتغذى على ضعف الدول العربية المحيطة به، وان الانظمة المنتخبة التي تمثل شعوبها لا يمكن ان تقبل مبدأ احتلال اراضي الغير بالقوة، وان من حق الشعوب تقرير مصائرها بعيدا عن الاكراه. ويمكن القول ان المملكة العربية السعودية تتصدر قائمة الدول الرافضة للتغيير والاصلاح، او العاجزة عن القيام بذلك، وانها تعتبر نفسها زعيمة محور الاعتدال العربي الساعي لمساومة الغربيين على مواقفهم ومنعهم من ممارسة الضغوط على الانظمة العربية التي عجزت عن اصلاح نفسها. وليس تدخلها في البحرين علنا باستعمال القوة وغزو اراضي الغير الا مؤشرا لمستقبل غير سعيد للمنطقة في ظل انتشار سياسات احتواء الآخر ونهب ما لديه من مال او ثروة. وقد اثبت شعب البحرين من خلال حراكه الذي تواصل عاما كاملا برغم وجود قوى الثورة المضادة والعنف السلطوي الذي لم يوفر وسيلة من وسائل القمع، قدرته على الصمود فترات اطول امام تحديات الخارج، وانه قادر على الاحتفاظ بلحمته وهويته التي لا تنفك عن انتمائه الديني والثقافي.
خامسا: بعد عام كامل من المواجهات تكونت حالة استقطاب غير مسبوقة في البحرين، ولم يعد هناك رغبة لدى اغلبية المواطنين في التعايش ضمن منظومة الحكم الحالية، بعد الذي حدث وما يزال من قمع واستهداف النشطاء واضطهاد المواطنين على اساس الهوية والولاء. كان المفترض ان يظهر نظام الحكم رغبة في الاصلاح وقدرة على الاستماع للشكاوى العامة، واستعدادا لتفعيل الوعود السياسية بالتغيير والاصلاح. ولكن الذي حدث ان شيئا من ذلك لم يحدث حتى الآن. وبقي النظام مشلولا من جانب، ومصرا على الانتقام من المواطنين من جهة اخرى. وروح الانتقام هذه لا تستقيم مع اقامة حكم القانون واحترام حقوق الانسان، والاستعداد لاحداث طفرة تغييرية تصادر مواقف المعارضة. ما كان ينبغي لنظام يسعى لحكم شعب ان يمارس القمع والاضطهاد والتمييز والتعذيب، الى المستوى الذي دفع اللجنة التي تم تشكيلها من قبل نظام الحكم نفسه للتحقيق في ما جرى، واستنتاج وجود تعذيب ممنهج وقتل خارج القانون للمتظاهرين باستعمال القوة المفرطة، وهدم المساجد واستهداف الطاقم الطبي واللاعبين والمعلمين (رجالا ونساء). ان نظاما يسعى للتصالح مع شعبه لا يمارس هذه الاساليب التي هي في الاساس دافع المواطنين للاحتجاج والمطالبة بالتغيير. كان حريا برموز الحكم البحريني ادراك حقيقة مهمة وهي ان الحاكم، مهما طال به الزمن، لا يضمن منصبه الى الابد وان الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، وان الحاكم قد يجد نفسه يوما مجبرا على المثول امام العدالة في قفص الاتهام، كما يحدث حاليا للرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك في حضوره، او لزين العابدين بن علي في غيابه. والسعودية لن تستطيع منع وصول الامور الى حالة الحسم الشامل والنهائي، خصوصا ان ظروفها ليست افضل كثيرا من ظروف غيرها من دول الخليج الاخرى، في مجال الحريات العامة وحكم القانون.
الواضح ان تجربة الاثني عشر شهرا في البحرين ادت الى حالة من الاستقطاب غير المسبوقة بين الطرفين. هذا لا يعني ان العائلة الخليفية عجزت عن الحصول على دعم بعض المجموعات والشخصيات ذات النزعة الطائفية الضيقة، ولكنه يعني ان آفاق التعايش ضمرت الى حد التلاشي الكامل. ولذلك جاءت الدعوات لاحياء ذكرى الثورة اقوى كثيرا من الدعوات التي اطلقت العام الماضي للثورة ضد نظام الحكم. والسبب ان المواطنين وصلوا في خضم الحوادث والتطورات الى واقع جديد يتساوى فيه الموت والحياة، وليس في العيش في هذه الاوضاع ما يجعله افضل من الموت. وادى ذلك الى بروز ظاهرة الشجاعة والاستبسال في الصمود والتحدي من قبل شباب الثورة ونسائها. فاصبح ثمة سباق للثبات عند المواجهة بدون حساب لتبعات ذلك الثبات. لقد دخلت ثورة البحرين العام الثاني لثورة شعبها، واصبحت خياراتها، في ما عدا اسقاط النظام، محدودة تقترب من العدم. والارجح استمرار التوتر ومعه اخطاء السلطات التي تعمق حفيظة المواطنين وتدفعهم للاصرار على تجديد ثورتهم دائما، فالشعوب هي التي تنتصر في النهاية بينما الحكام المستبدون هم الزائلون. وثمة خشية كبيرة بان تتطور قضية البحرين بشكل خطير يؤدي الى نشوب حرب اقليمية بابعاد دولية، عينها على ايران وقلبها على البحرين. هذا هو القلق الحقيقي الذي تثيره ازدواجية الغرب في التعاطي مع ثورات الربيع العربي، وهو قلق مرعب نأمل ان لا يستمر.

copy_r