07-02-2012
ربما فاجأت نتائج الانتخابات الكويتية التي اجريت الاسبوع الماضي البعض في
تفصيلاتها واسماء الافراد الفائزين فيها، ولكن منحاها العام يتوافق مع نتائج
الانتخابات في الدول العربية الاخرى خلال الاثني عشر شهرا الاخيرة. الكويت لم
تخض تجربة الربيع العربي، ولكنها شهدت بعض التحركات السياسية خلال عام الثورات
العربية. وكان من بين تلك المخاضات اقتحام مجلس الامة قبل حل الحكومة والبرلمان
معا من مجموعة محسوبة على التيار السلفي الموالي للسعودية، وكذلك تحرك
المجموعات التي تعرف عادة بـ 'البدون' وهم الفئة من المواطنين المحرومين من
الجنسية. النتائج الانتخابية جاءت ضمن السياق العام في المنطقة، حيث حقق
'الاسلاميون' فوزا كبيرا على غرار ما حدث في مصر وتونس. وهنا لا بد من التوقف
عند مصطلح 'الاسلاميين' فهؤلاء ليسوا فئة واحدة موحدة في السياسات والمواقف
والرؤى والانتماء الفقهي، بل ان اختلافاتهم احيانا تقلل من بريق الفوز او
القدرة على المساهمة في اقامة انظمة سياسية قادرة على مواجهة تحديات الاوضاع
المحلية والدولية.
يضاف الى ذلك ان بعض هذه القطاعات 'الاسلامية' ليست محصنة امام محاولات القوى
الاقليمية والدولية التأثير على مسار السياسات المحلية وتوجهاتها. ففي تونس
مثلا، يتشكل الاسلاميون من حركة النهضة ذات الاصول الاخوانية، وهي حركة يمكن
استعمال وصف 'الاعتدال' لتعريفها، والحركة السلفية التي تعتبر عادة امتدادا
لمذهب الشيخ محمد عبد الوهاب، وبالتالي لا يمكن فصلها تماما عن التوجهات
السياسية للسعودية. ولذلك ففوز الاسلاميين في تونس بهذا الفصل الواضح بين خطين
يفترض ان يكونا متقاربين عقيديا، لا يعني وجود كتلة 'اسلامية' متوحدة في
السياسات والتوجهات. بل ان من المتوقع ان تحدث مشادات بينهما لاحقا، خصوصا مع
اصرار التيار السلفي على التشدد في الشكليات الدينية كاطلاق اللحى ولبس الثياب
القصيرة وتكفير غير السائرين وفق ذلك المنحى.
واذا كانت سمات التيار السلفي في مجال السلوك الشخصي واضحة بقدر كبير، فان
المنحى السياسي للحركات المحسوبة على ذلك التيار ليس واضحا بالقدر نفسه. فهل
التيار السلفي معاد للغرب مثلا؟ للوهلة الاولى يبدو الامر كذلك، ولكن كيف يمكن
تفسير صمته على التحالف السعودي مع الولايات المتحدة؟ وبعد اجتياح القوات
العراقية الكويت في 1990 تصدر علماء الدين ذوو المنحى السلفي مؤتمر جدة الذي
أفتى بجواز استدعاء القوات الاجنبية لـ 'تحرير' الكويت. ولا شك ان حركة
'طالبان' ذات نزعة سلفية واضحة، ولم يكن تأسيسها منفصلا عن حقبة الجهاد في
افغانستان ضد الاحتلال السوفياتي في الثمانينات. واذا كانت الولايات المتحدة قد
استهدفت قبل عشرة اعوام نظام طالبان في افغانستان واسقطته، الا ان واشنطن تبدو
اليوم مستعدة لتسليم البلاد لحركة طالبان ضمن اطر من التفاهم وبعد مفاوضات
طويلة مستمرة في قطر وغيرها. ولكن ماذا عن تنظيم 'القاعدة'؟ أليس هو سلفيا في
عقيدته ومنهجه؟ ألم يكن متحالفا مع طالبان عندما حدثت تفجيرات نيويورك في 2001؟
يبدو ان هذا التحالف تفكك الآن، واصبحت طالبان تشعر انها اصبحت في حل من ذلك
التحالف، وان مقتل اسامة بن لادن العام الماضي سهل مهمة التفاهم مع الامريكيين.
ومن جانبها لا تبدو واشنطن مصرة على محاسبة طالبان على ذلك التحالف الذي ادى
الى اكبر تحد ارهابي للولايات المتحدة في تاريخها. وهكذا تبدو السياسة عاملا
اساسيا في صياغة التحالفات، وليس الانتماء الفكري او العقيدي.
ولا يختلف توازن القوى في مصر الثورة عنه في تونس او افغانستان. فالاخوان
المسلمون الذين يشكلون عصب النظام الجديد، او هكذا يفترض في ضوء النتائج
الانتخابية، هم الذين رفعوا شعار 'الاسلام هو الحل' منذ عقود. وقد يرى البعض ان
الهيمنة شبه الكالمة لـ 'الاسلاميين' على مجلس الشعب المصري عامل سوف يسهل عمل
الاخوان. ولكن قد لا يكون الواقع كذلك. فالاختلاف بين التيارين: الاخوان
والحركة السلفية، سوف يثير الكثير من الجدل ازاء عدد من القضايا من بينها توجه
مصر الثورة ازاء قضايا الامة المصيرية ومن بينهما انظمة الحكم في العالم العربي
وايديولوجياتها وانماطها الادارية. ومنها الموقف ازاء 'اسرائيل'.
ففيما يصر الاخوان، وفق تصريحات رموزهم وبعيدا عن التسريبات الامريكية
والاسرائيلية التي لا يمكن اعتبارها 'حقائق'، على عدم الاعتراف بالكيان
الاسرائيلي حاضرا او مستقبلا، كما جاء على لسان الدكتور سعد الكتاتني، رئيس
مجلس الشعب عن الاخوان، سيكون موقف السلفيين الذين يهيمنون على ما يقرب من ثلث
مقاعد البرلمان، مؤشرا لمدى امكان التعاون بين الاتجاهين ضمن قبة البرلمان،
وضمن اطار الحكم لاحقا. فالسعودية تتصدر المبادرات لعقد اتفاقات سلام مع
'اسرائيل' وهي التي طرحت في قمة بيروت قبل عشرة اعوام ما اصبح يسمى لاحقا
'المبادرة العربية'.
ووقفت السعودية بوضوح ضد حركة حماس، ودعمت السلطة الوطنية الفلسطينية في
مواقفها التفاوضية مع الكيان الاسرائيلي. فكيف سيكون موقف السلفيين في مصر ازاء
العلاقات مع الكيان الاسرائيلي والتبادل الدبلوماسي بين القاهرة وتل ابيب وازاء
اتفاقات كامب ديفيد؟ ان من السابق لاوانه التنبؤ بذلك خصوصا مع استمرار التوتر
الامني في مصر بعد كارثة مقتل اكثر من سبعين شخصا بعد فوز نادي 'المصري' على
'الاهلي' في حادثة التدافع والقتل بالاسكندرية. كما ان استمرار غموض موقع
المجلس العسكري في نظام مصر الجديد، كل ذلك سيكون عوامل مؤثرة في صياغة مستقبل
العلاقات داخل مصر ليس بين الاسلاميين والمجلس العسكري او القوى الليبرالية
والعلمانية، بل داخل التيار الاسلامي نفسه، وبالتحديد بين الاخوان الممثلين
بحزب الحرية والعدالة وحزب النور الذي يمثل التيار السلفي.
هذه الابعاد الاقليمية للحركة السلفية لا يمكن فصلها عن الكويت في ظل نتائج
انتخاباتها الاخيرة. وفي السنوات القليلة الماضية فاق تمثيل السلفيين في مجلس
الامة على تمثيل الاخوان، وهو امر له دلالاته السياسية ذات البعد الاقليمي.
وليس سرا القول ان السعودية تمارس ضغوطا على الكويت منذ سنوات بشكل او آخر.
فبالاضافة لعدم توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، فهناك النظام
السياسي في هذا البلد الذي ما يزال يمتلك التجربة الاقدم في المجال الانتخابي
والعمل البرلماني بمنطقة الخليج، برغم المآخذ الكثيرة على تلك التجربة.
وقد ساهم في التقليل من وهج تلك التجربة العديد من العوامل من بينها تعمق
النزعة القبلية التي تحول دون التمثيل الحقيقي للشعب، وتحول الانتماء العرقي
الى عامل انتخابي ينطلق من الولاء والعصبية، وليس من القناعة بالبرامج السياسية
للمرشحين، افرادا او ضمن كتل سياسية واضحة. كما ان الانقسام المذهبي قلص من
بريق التجربة، فاصبح النظام الانتخابي يقترب من نظام المحاصصة، الامر الذي يضعف
قيم الديمقراطية والانتخاب والارادة الحرة للمواطنين والتمثيل السياسي للشعب.
ولا ينفك الوضع الداخلي لعائلة آل صباح الحاكمة عن السجال المحتدم حول التجربة
الكويتية.. فهناك صراعات على النفوذ بين افخاذ الحكم ادت الى ممارسة ضغوط كبيرة
على الامير لحل المجلس السابق واقالة رئيس الحكومة، الشيخ ناصر الصباح. وستظل
التجاذبات داخل العائلة من العوامل التي تؤخذ بعين الاعتبار عند تقييم التجربة
الكويتية.
ويمكن القول ان الكويت مثال متميز لاشكاليات الموقع الجغرافي والانتماء السياسي
ضمن تحالف اقليمي ليس له نظير في العالم، وضمن اشكاليات الصراع بين الثروة
والنفوذ والصراعات الاقليمية. فان احدا لم يختلف على الفرضية القائلة بان تحرك
مجموعة من اعضاء مجلس الامة في الخريف الماضي واحتلال مجلس الامة بشكل غير
مسبوق، انما كان مدفوعا من اطراف داخل السعودية للضغط على اميرها لاقالة رئيس
الوزراء السابق الذي قيل ان لديه موقفا اقل تشددا ازاء ايران وازاء المواطنين
من المسلمين الشيعة. هذا الضغط السعودي جاء استمرارا للمماحكات التي اثارها بعض
الاطراف المحلية بعد الاعلان الرسمي عن كشف ما اطلق عليه 'خلايا نائمة' لايران،
برغم الانكار الرسمي لذلك. كما ان قضية البدون لا تنفصل عن الموقع الجغرافي
للكويت بمحاذاة العراق الذي لا تشير العلاقات التاريخية المعاصرة معه لحالة من
الود او التفاهم. واذا كان الامر في عهد حكم صدام حسين قد وصل الى حد الاجتياح
واسقاط حكومة آل صباح، فان علاقات الكويت حاليا مع العراق ليست افضل كثيرا.
هذه المرة يتهم العراقيون الحكومة الكويتية بسعيها لابقاء العراق ضمن البند
السابع للامم المتحدة، واستمرارها في اقتطاع 5 بالمائة من العائدات النفطية
للاستعمال في ملف التعويضيات الناجمة عن الاجتياح العراقي للكويت قبل اكثر من
عشرين عاما، وسعي الكويت لبناء ميناء مبارك عند مدخل شبه جزيرة الفاو الامر
الذي يعتبره العراقيون مضرا بحركتهم الملاحية، واصرار الكويت على ابقاء العراق
بدون شركة طيران وطنية تحت ذريعة مطالبة شركة الطيران العراقية بطائرات صادرتها
القوات العراقية خلال الاجتياح. هذه القضايا جميعا تجعل الكويت محاصرة بثلاث
دول اقليمية كبيرة، تحصي عليها انفاسها، وتتصارع من اجل كسب النفوذ فيها.
ومع محاولات الكويت الابقاء على مسافة متساوية من هذه الدول، فانها تنظر الى
العراق من منظور الصراعات الاقليمية على النفوذ. والغربيون ينظرون الى ذلك
البلد ايضا انه يتعرض لصراع على النفوذ بين ايران والولايات المتحدة ومعها
السعودية، وهو صراع سوف يتواصل في المستقبل المنظور على الاقل طالما بقيت ملفات
الاختلاف بين القوى الاقليمية والدولية ساخنة. بل ان مشاكل الكويت سوف تزداد
فيما لو شن الاسرائيليون، وحدهم او مدعومين من الولايات المحدة، على ايران.
الانتخابات الكويتية اذن جاءت في ظل اوضاع اقليمية صعبة. ومع الاعتراف بايجابية
اجراء انتخابات برلمانية في منطقة ما تزال انظمة الحكم فيها ترفض التحول من
الحكم القبلي الاستبدادي الى الحكم الديمقراطي الذي تمارس الشعوب فيه دورا
اساسيا في الحكم والادارة، الا ان تكرر حل الحكومات نتيجة الصراعات السياسية
تحت قبة البرلمان امر مثير للقلق، خصوصا ان اسبابه ما تزال قائمة. وقد تعددت
حالات حل البرلمان بمراسيم اميرية منذ السبعينات اما بدعوى التزوير ام توتر
الاوضاع الداخلية ام استجواب وزراء الخارجية وبقية الوزراء ام لاسباب امنية
بحتة. وهذا جانب آخر من الجوانب السلبية للتجربة الكويتية التي لا تبدو انها
تطورت كثيرا منذ انطلاقتها بعد استقلال الكويت عن بريطانيا قبل نصف قرن تقريبا.
وهناك ثلاثة جوانب حظيت بشيء من التطوير خلال نصف القرن الاخير: اولها فصل
ولاية العهد عن رئاسة الوزراء، الامر الذي استنتج البعض منه انه تمهيد لصعود
رئيس وزراء من ابناء الشعب وليس من اسرة آل صباح مستقبلا. والثاني السماح
للمرأة بالترشح والانتخاب لمجلس الامة، مع ان ايا من النساء لم تفز بمقعد في
الانتخابات التي جرت . والثالث اعتماد نظام الدوائر الخمس بدلا من الخمس
والعشرين سابقا، الامر الذي من شأنه ان يوفر للمواطنين حرية اكثر في التمثيل
النسبي. انها اجراءات محدودة، ولكنها حدثت في منطقة بقيت شؤون الحكم فيها مجمدة
منذ اكثر من مائة عام، وليس في الافق ما يشير الى تغيرها. ويلاحظ رفض العائلات
الحاكمة بدول مجلس التعاون المطلق للتغيير في البحرين برغم مرور عام كامل على
ثورتها الشعبية المتواصلة.
برغم الحماس الذي ظهر من الجانب الشعبي للانتخابات، فهناك قلق على مستقبل
التجربة الكويتية، خصوصا مع استمرار التوتر في المنطقة نتيجة الثورات العربية
خصوصا ما يجري في البحرين. فالاسرة الحاكمة تواجه اوقاتا صعبة مع استمرار الشد
والجذب بين اقطابها، كما هو الحال بين فرعي السالم والاحمد، حيث قام الامير
الحالي بتهميش ابناء السالم وآخرهم وزير الخارجية السابق، محمد الصباح. وهناك
صراع آخر بين جيل الشباب، اذ ان الامير الحالي يعتبر الاخير في جيل الكبار، وقد
يسعى لاعداد ابنائه لاستلام الحكم بعده. ويمثل احمد الفهد (نجل فهد الاحمد الذي
قتل اثناء الغزو العراقي للكويت) جيل الشباب الطامح للوصول الى مواقع في
السلطة. وكل من هذه الاقطاب يدعم تيارا داخل مجلس الامة. وهناك مشكلة مزدوجي
الجنسية الذين يحملون بالاضافة للجنسية الكويتية جنسيات خليجية اخرى، خصوصا
السعودية. هذا بالاضافة للصراع الخفي بين السعودية والكويت بشأن التجربة
الكويتية برغم المؤاخذات عليها. ولا يخفي المسؤولون السعوديون امتعاضهم من تلك
التجربة. وهناك الصراع بين الحضر والبدو على النفوذ والمناصب الادارية
والسياسية. فالحضر يعتبرون انفسهم السكان الاصليين للكويت، وان البدو يعتبرون
دخلاء على البلد. ويطلق البدو على الحضر المتعصبين اسم 'اصحاب الدماء الزرقاء'.
وثمة شعور عام يسود الكويتيين ازاء المستقبل، فهناك شحن اجتماعي ومذهبي،
بالاضافة لتدخل بعض دول الجوار للتأثير على المسار السياسي لهذا البلد. ايا كان
الامر فمستقبل التجربة محفوف بالمخاطر، في مجتمع مستقطب قبليا ومذهبيا، ومحاصر
بدول تبحث عن نفوذ في اوساطه، واخرى ترفض ممارسته الانتخابية لانها تكشف
المستور من عيوب انظمتها الاستبدادية.
القدس العربي