تتعدد وعود الأنظمة الآيلة للسقوط وتلك التي تتعرض لضغوط داخلية وخارجية،
تتعدد وعودها بالإصلاح السياسي والإداري لإمتصاص النقمة عليها من الحشود
الداعية إلى إسقاطها، ويرتفع سقف تلك المطالب وينخفض وفقاً لتلك العوامل، فلا
زالت كلمات الرئيس التونسي المخلوع ترشق أسماعنا: 'أنا فهمتكم' عندما خرجت
الأمور عن سيطرته وبات سقوطه مسألة ساعات، وكذلك المخلوع حسني مبارك والذي لم
تسعفه حتى الكلمات قبل سقوطه حين قال : 'لم أكن أنتوي الترشح لفترة رئاسية'،
تلك الوعود لهؤلاء وغيرهم من الحكام ما كانت إلا غطاءً يستر عورتهم السياسية
والتي كشفتها صرخات وتظاهرات واحتجاجات الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط.
ولم تدخر الأنظمة وسيلة ولا طريقة في خداع الجماهير المتطلعة للحرية والكرامة
الا وعملت بها، في محاولات حثيثة لخلط الأوراق والدفع بمبررات وجودها في السلطة
واستبدادها بالقرار مستخدمة جميع الوسائل وطارقة جميع الأبواب التي يمكن لها
إضفاء شرعية وجودها واستمرار حكمها، ومن الطرق التي استخدمتها كغطاء في تشريع
الاستبداد والتنصل من التغيير والإصلاح التالي:
1. ارتبطت الأنظمة في العالم العربي من مراحل الاستقلال الأولى وقيام الدولة
الوطنية بشبكة كبيرة من العلاقات تدعم وجودها وتضمن استمرارها في سدة الحكم
يشوبها الكثير من علامات الاستفهام، ورغم ذلك نراها تسقط تلك العلاقات
والارتباطات على الحركات الاحتجاجية والحراك المطالب بالإصلاح والتغيير، بل
وتسم خصومها السياسيين ودعاة الحريات والحقوق المدنية بالعمالة والارتزاق وربطت
حركات الاحتجاج الجماهيرية بأجندات ومخططات تشرف عليها دول أجنبية في حالة من
التدليس السياسي والإعلامي في حين أن المرتبط بالخارج هي الأنظمة الحاكمة، ويعد
تشنيع السلطات على أطراف المعارضة بالإرتباط بالخارج من الطرق التي أجمعت
الأنظمة على استخدامها كمبرر لمصادرة الحريات والتضييق على الناشطين والزج
بالألوف في غياهب السجون واستخدام القوة المفرطة ضدهم، واستغلال فزاعة القاعدة
والإرهاب والذي اكتسب تلك الأنظمة الكثير من الدعم الغربي والعالمي. فالإعتماد
على الدعم الخارجي والغربي خصوصا لأنظمة فاقدة للشرعية وغير مرتبطة بشعوبها،
هذا الدعم كان جلياً من فرنسا وأميركا لنظام بن علي في تونس ولنظام مبارك والذي
لا يزال نظامه يحكم باسم المجلس العسكري وكذلك الدعم الروسي الإيراني لنظام
الأسد في سورية، والدعم السعودي الغربي لنظام صالح في اليمن .
2. استخدام الاقتصاد الريعي لدول الخليج في رشوة المواطنين كبديل عن الإصلاح
السياسي وتعددت أشكال تلك الرشى فمنها ما جاء على شكل هبات مالية كما في الكويت
والإمارات وقطر ومنها وعود مشروعات تنموية كما في السعودية وعمان، بل استخدمت
الأنظمة عوائد النفط المرتفعة لاختطاف الثورات العربية في مصر وسورية واليمن
وليبيا وتونس بتمويل ملياري لأحزاب وتنظيمات سياسية في تلك الدول.
.3 صناعة إعلام والتضليل الإعلامي كوسيلة للالتفاف على الشعوب وتشويه تحركاتها
واحتجاجاتها بنشر كثير من الأباطيل والافتراءات التي تنال من كرامتها وتطعن في
شرفها وأخلاقياتها، وظهر ذلك بوضوح في الافتراء على معتصمي دوار اللؤلؤة في
البحرين وميدان التحرير في القاهرة بشتى أنواع التهم التي اتضح فيما بعد أنها
من تدبير بلطجية النظام وأجهزتهم الأمنية .
.4 التضييق على مؤسسات المجتمع المدني ونهج الأنظمة سياسات تدعو فيها تلك
المؤسسات للتبعية أو أن تكون عرضة للتنكيل والملاحقة الأمنية، فالأحزاب
والجمعيات السياسية والجمعيات والمؤسسات الحقوقية والقانونية تعرضت في جميع
الدول التي اجتاحتها رياح التغيير وشملها الربيع العربي إلى كافة أنواع التضييق
بل وتعرض بعضهم للقتل والتعذيب والاعتقال .
5. المؤسسة الدينية كانت حاضرة في ثورات الربيع العربي ولم يكن لها موقف واحد
كونها من مشارب مختلفة ونزعات متباينة وانتماءات متفاوتة، ولكن تلك المؤسسة
أعطت غطاءً دينياً وشرعياً لكثير من الأنظمة التي اتخذت من الدين حجاباً يعطيها
شرعية القمع والتنكيل بمختلف المبررات كالإرهاب والخروج على الحاكم وما شابه
ذلك، ويمكن اختصار تلك المواقف دون تمثيل فيما يلي :
- من استخدام المؤسسة الدينية مطية للمصالح السياسية وفق الانتماءات الحزبية
والتيارات الفكرية.
- هناك من استغلها لخدمة الانتماءات الطائفية والمذهبية للمؤسسة الدينية .
- استغلال السلطة السياسية للمؤسسة الدينية وتبعية الأخيرة للحاكم مهما كان
موقفه بمسوغات شرعية متفقة وتوجهات السلطة .
- موقف الانقلاب على الذات والدخول في العملية السياسية والديمقراطية رغم رفض
أدبياتها للديمقراطية وتداول السلطة بمنطق أقرب ما يكون للميكافيلية السياسية .
.6الأمن كمفهوم سلطوي يستخدمه الحكام غطاء لخديعة كبرى استخدمها ويستخدمها
المستبدون للتنصل من استحقاقات التغيير والإصلاح وأسلوباً في قمع جميع التحركات
والاحتجاجات انطلاقا من معطيات متعددة أهمها، أن الأمن في مفهوم الأنظمة أمن
سلطة وأمن نخبة حاكمة لا أمن وطن ومواطن، لذلك تفتعل كثير من الإشكالات الأمنية
بل وتحرض أحياناً على العنف والانجرار له لاختلاق ذرائع للفتك بالمعارضين
والحركات الاحتجاجية كونها جنحت للعنف مستخدمة كافة إمكاناتها الأمنية
والعسكرية لتحقيق ذلك. كل تلك الوجوه والطرق التي استخدمتها الأنظمة والسلطات
في الالتفاف على الحركات الاحتجاجية والانتفاضات الشعبية لا تعني شيئا في حال
استقطعناها من دائرتها الإقليمية والدولية التي أفرزت تركيا كلاعب إقليمي له
قدراته الجيوسياسية والعسكرية وكقوة اقتصادية ناشئة تسعى لنيل مكانة تتناسب
والدور الذي تتطلع للقيام به وهي ترى نفسها نموذجاً لحكم إسلامي سني ديمقراطي
يواكب العصر ومتناغم مع الرؤية الغربية لإسلاميين في الحكم تراودهم أحلام
استعادة المجد العثماني البائد، وكذلك حرب المصالح ومناطق النفوذ الدولية التي
تشبه إلى حد ما اتفاقية سايكس بيكو سازانوف عام 1916 والتي قسمت التركة
العثمانية على انجلترا وفرنسا بمباركة الإمبراطورية الروسية، وفي وقتنا الحاضر
انحصر التقسيم على الولايات المتحدة الامريكية وتركيا وفرنسا ومراوغات ومساومات
روسيا الاتحادية التي اشتهرت بها منذ تفكك الاتحاد السوفيتي السابق للحصول على
أكبر قدر من الكعكة وبراعتها في فن التعامل مع الأزمات والاستفادة منها وكفى
بعراق صدام شاهداً على الروس وسياستهم، وكذلك الأنظمة الحاكمة في المنطقة لديها
خبراء ومستشارين على يدهم تتم المؤامرات وتحاك المخططات، وهذه الأنظمة تريد
الاستفادة من جميع تلك المتناقضات التي تحملها المنطقة من السيطرة على الثورات
التي انقضت كثير من فصولها في اليمن وتونس ومصر، وإلى التحكم في وجهة ثورات
أخرى بإجهاض بعضها في البحرين والأردن و اسقاط أنظمة لا تتفق معها في السياسات
كسورية والعراق، وتـأييد حرب محتملة على إيران لتغيير خارطة المنطقة السياسية
والعسكرية.
القدس العربي