في تطور لافت، وبعد أربع سنوات من اعتقال بعضهم، صدرت في المملكة العربية
السعودية أحكام قاسية بحق 15 من الإصلاحيين السعوديين (يعرفون بأنهم إصلاحيو
جدة)، تصدرها الحكم الأكبر بحق الدكتور سعود الهاشمي الذي أضيف إلى حكمه بالسجن
ثلاثين عاما منعا من السفر لمدة ثلاثين عاما أخرى، مع العلم أن حكاية المنع من
السفر، وهي من العقوبات المعروفة في المملكة، لا تعرف في غير الدول الشمولية
مثل كوبا وكوريا الشمالية. ونتذكر في هذا السياق منع الداعية السعودي الشهير
والعالم المعروف الشيخ سلمان العودة من السفر قبل شهور رغم أنه لم يشق عصا
الطاعة ولم يتجاوز في خطابه حدود المطالب الإصلاحية العادية، مع انتصار واضح
للثورات العربية.
هناك بالطبع آلاف الممنوعين من السفر، أما الأهم فيتمثل في حديث دوائر حقوق
الإنسان عن ما يقرب من ثلاثين ألف معتقل سياسي في المملكة، وهو رقم مهول بكل
المقاييس حتى لو لم يتجاوز حدود العشرة آلاف في بلد يعد مستقرا إلى حد كبير من
الناحية السياسية. وفي حين يرى البعض أن جزءا كبيرا من المعتقلين يصنفون في
الإطار الأمني (بمعنى وجود صلات لهم بمنظمة القاعدة)، إلا أن كثيرين من بينهم
أيضا لم تكن لهم صلة بأية أعمال عنف.
يعلم الجميع أنه لا توجد في المملكة حركات جذرية تطالب بإسقاط النظام، والقبول
بالنظام الملكي قاسم مشترك بين الجميع تقريبا، أما القاعدة فمن الصعب القول إن
لها نشاطا يذكر في المملكة هذه الأيام، بل إن أسامة بن لادن نفسه كان قد أصدر
قبل اغتياله بسنوات (بحسب دوائر قريبة من القاعدة) أمرا بوقف سائر العمليات في
المملكة.
من هذا المنطلق تبدو الأحكام التي صدرت بحق الرجال إياهم، ومعها سائر
الاعتقالات غريبة في بلد من هذا النوع، ومن الطبيعي أن تقابل باستنكار العديد
من الأوساط الحقوقية والشعبية.
ومع أن كثيرين يأملون أن تكون الأحكام التي صدرت مقدمة لعفو لاحق عن المعتقلين،
إلا أن عفوا من هذا النوع لن يلغي قسوة الأحكام، وقبلها استمرار احتجاز
المعتقلين لسنوات دون محاكمة، كما لن يغير في حقيقة أن هناك قدرا من الاحتقان
في الأجواء السياسية لا مبرر له، وأن الحاجة تبدو ماسة لإصلاحات معقولة في
الوضع السياسي تلبي طموحات السعوديين. ثمة إشكال كبير هنا يتمثل في الحراك
الشيعي الذي يجري استغلاله من أجل التخويف من مطالب الإصلاح، ولا شك أن هناك
حساسية كبيرة في الأوساط الشعبية (السنية) عموما حيال الحراك الشيعي، والسبب
بالطبع هو الحساسية السلفية التقليدية حيال الشيعة عموما، والأهم بسبب الحشد
الطائفي الذي تعيشه المنطقة منذ غزو العراق، والذي ازداد تصاعدا في الآونة
الأخيرة بسبب وقفة إيران إلى جانب النظام السوري.
والحق أن الحراك الشيعي في المملكة، ورغم بعض مطالبه العادلة، إلا أنه يساهم
بهذا القدر أو ذاك في الحيلولة دون تشكيل الإصلاحيين السنة لمنظومة ضغط حقيقي،
ولو كان ثمة منطق وعقل لتركت المطالب الإصلاحية تأخذ مداها، هي التي ستصب في
نهاية المطاف في صالح العدالة للجميع، بمن فيهم الشيعة، لاسيما أن غياب الإصلاح
يؤثر سلبا على الجميع من دون استثناء أيضا.
ما ينبغي أن يكون واضحا هو أن دولة في العالم العربي لن تكون بمنأى عن رياح
الإصلاح والتغيير، وفي السعودية تحديدا ترتفع مستويات التعليم بشكل واضح، ويبدو
المخاض السياسي والفكري كبيرا ومهما، ومن الصعب على النظام السياسي أن يتجاهل
ذلك كله، أو أن يحاول استيعابه بإصلاحات شكلية وهامشية، أو من خلال سياسة
الأعطيات المالية.
الجماهير تريد مشاركة حقيقية في السلطة والثروة، الأمر الذي يبدو واضحا في سائر
دول الخليج التي أخذ بعضها يستجيب بهذا القدر أو ذاك للمطالب الشعبية، بل إن
أفضلها من الناحية الديمقراطية (أعني الكويت) قد فوجئت بحراك سياسي أعلى سقفا
من السابق تم التجاوب معه بإقالة الحكومة وحل البرلمان والدعوة لانتخابات
جديدة.
المملكة العربية السعودية دولة محورية في المنطقة، ولها مكانتها الدينية
المعروفة، والمخلصون من أبناء الأمة يتمنون لها كل الخير، ومن هذا المنطلق
يطالبون بأن تبادر إلى إصلاحات سياسية حقيقية تليق بالإنسان السعودي الذي بلغ
درجات عالية من الثقافة والوعي، وتليق بالدور الكبير للمملكة في محيطها العربي
والإسلامي. أما إصلاحيو جدة، فالجميع ينتظر العفو عنهم، وعن سائر المعتقلين
السياسيين كبادرة في الاتجاه المطلوب.
القدس العربي