عندما قرر رئيس دولة الامارات العربية المتحدة، الشيخ خليفة بن زايد آل
نهيان، عدم حضور قمة مجلس التعاون الخليجي الثانية والثلاثين التي عقدت في
الرياض، كان يدرك ان حضوره او عدمه لن يغير من وقائع القمة شيئا لانها اصبحت
جلسة علاقات عامة وليست مؤتمرا عمليا يحقق نتائج ملموسة لشعوب المنطقة. ولكن
غياب الرئيس الاماراتي يعكس جانبا من الازمات السياسية التي صاحبت القمة منذ
تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في 1981، لمواجهة تحديات الحرب
العراقية الايرانية التي كانت قد اشتعلت في عام 1980. برغم ذلك لا بد من
الاعتراف بان مجلس التعاون تميز بين بقية التحالفات الاقليمية العربية
باستمراره وعقد قممه في اوقاتها المحددة. ولكن هذا الانعقاد لم يقلل من توتر
العلاقات في ما بين حكوماته. وكما قاطع الرئيس الاماراتي القمة الاخيرة فقد سبق
ان امتنع زعماء آخرون عن حضورها.
في العام 1996 تغيب امير البحرين عن حضور قمة الدوحة في ذروة الخلاف السياسي
والاعلامي والحدودي بين البلدين. ويعتبر السلطان قابوس بن سعيد أقل الزعماء
حضورا، لانه هو الآخر، أكثرهم تحسسا ازاء سياسات الهيمنة السعودية. ولكن غياب
الزعماء لا يعني مقاطعة دولهم لقاءات زعماء الدول التحالف الخليجي، بل انه
تعبير عن غضب او انزعاج لسبب او آخر. ايا كان الامر، لم تكن قمة الرياض الاخيرة
فاعلة من حيث اجوائها او قراراتها او بيانها الختامي. كما ان حماس الملك
السعودي لطرح مشروعه لاقامة 'الاتحاد الخليجي' لم يستقبل بحماس مماثل من قبل
بقية الزعماء.
ويمكن القول ان انظمة الحكم الخليجية في شكلها الحالي لن تقبل يوما بفكرة
الاتحاد الا اذا كان استعراضا سياسيا وليس حقيقة.
ان النظام السياسي في هذه الدول ما يزال انعكاسا للموروث القبلي الذي لا يستقيم
مع مفهوم الدولة الحديثة وقيم الديمقراطية والشراكة والتعددية. فما دام مفهوم
الحكم مرتبطا بثقافة التوريث والاستخلاف، فان دور الشعب يتلاشى ويضمحل، ومعه
تختفي مقولات التحديث والدمقرطة.
وعندها ايضا لا تصبح الانتخابات ذات معنى لانها لن تؤدي الى قيام حكومات منتخبة
تمثل ناخبيها. ولذلك فالخطاب الذي تطرحه منظومة الحكم الخليجية يتأسس على
مقولات 'الخصوصية الثقافية' و 'العادات والتقاليد الموروثة'. وما تزال مقولة
'المجالس المفتوحة' هي الرد على من يطالب بممارسة ديمقراطية مؤسسة على القانون.
فالقانون استبدل في هذه البلدان بالارادة الملكية او الاميرية التي يعبر عنها
بقرارات آنية في مجلسه الذي يستقبل فيه بعض المواطنين. فما يريده يتحقق وما
يرفضه لا يحظى بالاهتمام. ويستحيل بذلك اقامة انظمة ديمقراطية حديثة يحل حكم
القانون فيها محل نظام 'المجالس المفتوحة' و'المكرمات'.
وكان موضوع الاستخلاف الذي طرح في مصر خلال عهد مبارك عندما تردد انه يعد نجله،
جمال، لتولي الرئاسة من بعده، واحدا من اسباب الثورة التي اطاحت بمبارك والتي
ما تزال فصولها متواصلة. فالحاكم لا يختاره الشعب بل يستلم منصبه وفق مفهوم
'الحق الطبيعي' في الحكم الذي يقترب من المشيئة الالهية وان الله خلق بشرا
يملكون ويحكمون، وآخرين مستعبدين لهم. صحيح ان الاعلام المدعوم بالمال النفطي
الهائل يسعى لتسويق منظومة الحكم بلغة تستعمل مصطلحات العصر ومفرداته، ولكن
تعرية ذلك الخطاب من المساحيق التي تضفى عليه تظهر حقيقته بسهولة وبدون تعقيد،
لانه قائم على مقولة 'الحق الالهي' المؤسس على نظرية الجبر وليس التفويض.
قمة الرياض تعاطت بشكل هامشي، في خطابها الرسمي الذي صدر كبيان ختامي أعد سلفا
قبل انعقاد القمة، مع قضايا عديدة من بينها ايران والتكنولوجيا النووية والعراق
وفلسطين بالاضافة للقضايا الخليجية كالتعاون الاقتصادي والعسكري والامني.
وتحاشى البيان التطرق الى القضايا الحقيقية التي تشغل بال المواطنين الخليجيين،
وفي مقدمتها الاصلاح السياسي والتعاطي مع الربيع العربي. هذه حقيقة لا يقلل من
اهميتها الضجيج الاعلامي الرسمي الذي يتحاشى لغة النقد ولا يمارس الرقابة
والمحاسبة. فعندما خرجت صحيفة 'الرياض' لتعلن ان 'القمة الخليجية تؤكد تلاحم
الشعوب مع القادة' فانها لم تسد خدمة للوضع الخليجي ولا للانظمة نفسها. فالشعوب
التي تحركت للمطالبة بحقوقها في البحرين ومسقط والمدن السعودية والكويت لن
تتلاحم مع حكامها الا اذا تحققت مطالبها، واعتبرت تلك الحكومات قادرة او راغبة
في تحقيق مطالبها، وفي مقدمة تلك المطالب الاصلاح السياسي الذي يعيد للمواطن
حقوقه الطبيعية
ومنها تقرير مصيره وكتابة دستوره وانتخاب حكومته وممارسة الرقابة والمحاسبة
المستمرة عليها. المواطن الخليجي لا يختلف عن بقية مواطني هذا الكوكب، بل انه
انسان لديه شخصية وهوية وتطلعات وانسانية. واذا كانت حالة الوفرة المالية قد
شغلته في حقبة من حياته عن السياسة والحقوق العامة، فان تلك الوفرة فتحت له
الابواب ايضا لرؤية العالم من زوايا اوسع. فقد مكنته من الاطلاع على ما يجري في
دول العالم، اما للدراسة او العمل او السياحة، واطلع على ثقافات الشعوب الاخرى
ورأى كيف تمارس حياتها في اطار القانون الذي يساوي بين المواطنين في الحقوق
والواجبات وامام القانون. وبشكل اخص استطاع هذا المواطن احيانا توظيف عاملات
بمنزله يساعدن في ادارة شؤون المنزل. ورأى كيف ان 'الخادمة' التي يدفع راتبها
شهريا، تمارس حقها الطبيعي في انتخاب ممثليها واعضاء حكومتها، وتذهب لسفارة
بلدها للادلاء بصوتها، بينما يجد نفسه ممنوعا عن ممارسة ذلك الحق، وكأن انظمة
الحكم في هذه المنطقة مصداق لمقولات الجبر
والحق الالهي والمصير المحدد سلفا. كان حريا بقمة دول مجلس التعاون التعاطي مع
الاشكالات الفكرية والثقافية لدى الجيل الجديد حول طرق ادارة بلاده، وعجز
الانظمة عن مواكبة تطور الاجيال الجديدة ليس على مستوى التحصيل العلمي فحسب،
وهو تحصيل يندر ان يجد مجالا للتطبيق، بل على صعيد الممارسة الشخصية واستحصال
ما يحقق له انسانيته ويجعله قادرا على ادارة نفسه وممارسة حقه الطبيعي كمواطن
يفترض ان يكون شريكا في صياغة القرار المرتبط بواقعه. قمة الرياض عجزت عن
التداول في قضايا تتحول عادة الى مادة اختلاف وتباين في الموقف والرأي
والسياسة.
كان العاهل السعودي يتطلع لان تكون القمة مناسبة لاستعادة الدور السعودي
المتداعي على الصعيدين الداخلي والخارجي. فالاحتقان السياسي في المملكة يتعمق
تدريجيا مع عجز القادة عن اتخاذ خطوات جادة على طريق الانفتاح السياسي
والدمقرطة واحترام حقوق الانسان. واذا كانت الرياض قد تمكنت في بداية العام من
احتواء الحراك الشعبي الذي عبر عن نفسه في المنطقة الشرقية بتظاهرات ومظاهرات
تضامنية مع ثورة البحرين، فان الوضع يزداد تعقيدا ويستعصي على التعاطي البسيط
معه. واذا كان اللعب بالورقة الطائفية لوصف الحراك الشعبي قد ساهم في تبطئة ذلك
الحراك، فان تلك الورقة تتلاشى يوميا بعد ان استيقظ المواطنون على واقع سياسي
مرير ليست له علاقة بالاختلافات الفقهية بين ابناء المذاهب الاسلامية. النخب
المثقفة السعودية تغير موقفها كثيرا في الشهور الاخيرة ازاء ثورة شعب البحرين
والحراك السياسي في المنطقة الشرقية. فاذ كان هناك بضع مئات من السجناء
السياسيين من ابناء المنطقة الشرقية الشيعية، فهناك اكثر من عشرة آلاف معتقل
سياسي من بقية انحاء الجزيرة العربية، اغلبهم بدون محاكمات. وربما يرتبط بعضهم
بتنظيمات ارهابية ولكن اغلبهم من المواطنين المطالبين بحق العيش الكريم ضمن
نظام سياسي حديث يمنع الاستبداد ويسمح بالرقابة والتعددية والتداول على السلطة.
وقد ازداد الوضع الداخلي توترا بعد تعيين نايف بن عبد العزيز وليا للعهد خلفا
للامير سلطان. فحتى الحديث عن السماح للنساء بالسيارات اصبح بعيد المنال، بعد
ان قررت السلطات الاستمرار في محاكمة اربع نساء على الاقل لمشاركتهن قبل ستة
شهور في احتجاج ضد المنع وقيادتهن السيارات علنا في احد شوارع الرياض. ومن بين
هؤلاء شيماء جستنيه، البالغة من العمر 34 عاما. ان نظاما ما يزال يرفض اقتياد
المرأة للسيارة لا يستطيع ان يسمح لها بالشراكة السياسية الحقيقية والدور
المجتمعي البارز. فكيف يمكن ان يقبل شعب الكويت الذي سمح للمرأة فيه بالتصويت
والترشيح لمجلس الامة، بالدخول في اتحاد مع السعودية التي لا تسمح للمرأة
بسياقة السيارة؟ واذا كانت السعودية لا تتسامح مع دولة الامارات حول الارض
الحدودية مع الامارات وتصر على السيطرة على حقل الشيبة الذي كان يوما جزءا ضمن
الحدود الاماراتية، فكيف يستطيع شعب الامارات الدخول في وحدة معها؟ وكذلك الامر
بالنسبة للكويت التي ما تزال حتى الآن تسعى لترسيم الحدود البحرية مع الشقيقة
الكبرى التي تصر على رفض الترسيم حتى الآن. فأي اتحاد يمكن اقامته بين انظمة ما
تزال تمارس شؤون الدولة وفق ثوابت القبيلة وعاداتها؟
قمة الرياض لم تستطع هي الاخرى حسم انضمام المغرب والاردن لمجلس التعاون
الخليجي، لاسباب عديدة من بينها خشية انتقال عدوى الاحتجاجات للسعودية وبقية
دول المجلس. فالمغرب الذي سمح باجراء انتخابات حرة جاءت بزعيم اسلامي (عبد
الإله بن كيران) لرئاسة الوزراء لا يمكن ان يصبح ضمن منظومة مجلس التعاون
الخليجي. ويخشى الائتلاف الحاكم من خسارة المنجزات التي تحققت فيما لو اصبح
جزءا من تلك المنظومة. ولذلك اكتفت القمة بتخصيص مليارين ونصف مليار دولار لدعم
هاتين المملكتين اللتين كانت ستكملان النادي الملكي في العالم العربي. ومن
الناحية السياسية يحظى النظام السياسي الخليجي القائم على اسس القبيلة والتوارث
والعلاقات غير المتوازنة مع الغرب، بدعم غربي ثابت، خصوصا بعد ان اثبتت تجربة
العراق عدم امكان التعويل على الانظمة الديمقراطية لحماية المصالح الغربية في
الشرق الاوسط. هذا العراق الذي يتهم السعودية بمحاربته منذ سقوط نظامه على ايدي
الاحتلال الامريكي، هو نفسه الذي رفض التجديد لبقاء القوات الامريكية على
اراضيه في الوقت الذي تنتشر فيه القواعد الامريكية في كافة دول مجلس التعاون.
وربما يفسر ذلك عمق صحوة الشعوب العربية على هويتها ورفض انحيازها للغرب، خصوصا
امريكا، مع استمرار ذلك الغرب في توفير الدعم السياسي والعسكري غير المحدود
للكيان الاسرائيلي. ويعتبر رفض التجديد من اقسى الصفعات التي وجهت للولايات
المتحدة في سياستها الخارجية في السنوات الاخيرة. ولذلك بدأ الانتقام من العراق
من البوابة الطائفية مجددا، وحدثت تفجيرات عديدة في الايام الاخيرة ادت الى قتل
العشرات من العراقيين. السعودية وبقية دول مجلس التعاون يراقبون ذلك عن كثب
ويعلمون ان النظام الذي يقوم باختيار الشعوب يشعر بالقوة والمنعة وان قلت
امكاناته المادية. وهذا ما لا تريده امريكا التي تمتلك قواعد وتسهيلات عسكرية
في جميع دول مجلس التعاون الخليجي. وقد يفسر هذه الحقيقة التحالف الغربي
الخليجي ازاء ثورة اليمن والاصرار على ابقاء نظام علي عبد الله صالح في موقع
الحكم. ومع استمرار ثورتي اليمن والبحرين في اشتعال دائم ما يزال القلق سيد
الموقف في اغلب دول مجلس التعاون، خشية وصول تلك الاحتجاجات الى شوارع العواصم
الخليجية.
عكست قمة الرياض ظاهرة مقلقة مفادها ان اغلب حكومات دول مجلس التعاون الخليجي
لم يستوعب دروس الثورات العربية، فبرغم ما جاء في خطاب العاهل السعودي حول
ضرورة استيعاب تلك الدروس وضرورة العمل وفق ذلك، فان الحافلة الخليجية الكبيرة
لم تعد قادرة على اللحاق بقافلة الشعوب العربية، وان الكلام عن تحديثها غير
واقعي لاسباب منها: عمق الصدأ والعطب في تلك الحافلة، وغياب الرغبة الحقيقية
لدى اصحابها لاصلاح عطبها وانتهاء قطع غيارها من السوق. وكلما تلكأ القادة في
تجرع كأس السم تضاءلت فرصهم في البقاء كانظمة سياسية في منطقة تعج بالتغيير.
ولا شك ان الحراك السياسي في مصر (التي دعتها القمة للانضمام للمجلس!) سيخترق
الحدود ويصل الى السعودية بشكل خاص لانها اكبر المعادين للتغيير. ومع غياب
الحماس لمشروع الاتحاد الخليجي، وتلكؤ كل من الاردن والمغرب في الاستجابة لطلب
الانضمام للنادي الخليجي، وغموض مستقبل اليمن ومدى صلاحيته لعضوية ذلك النادي،
سيظل مشروع الوحدة الخليجية سرابا يوهم الناظرين اليه، فليس تحته سوى الرمال
العربية القاحلة التي لا تساعد الكائنات على الحياة والبقاء على سطحها. والمال
النفطي الهائل لا يكفي وحده لحماية الانظمة التي ترفض التطور والتحديث.
القدس العربي